ما زالت أزمة تشكيل الحكومة في العراق تراوح مكانها منذ أشهر مع تفاقم الخلافات لاختيار مرشح لتشكيل الحكومة، على الرغم من إعلان تحالف "الإطار التنسيقي" انتهاء عملية الانسداد السياسي وشروعه في مشاورات تشكيل الحكومة بعد قرار انسحاب التيار الصدري من البرلمان والعملية السياسية ككل.
وسجلت الحكومة الحالية أطول فترة في التشكيل بعد الاحتلال الأميركي 2003، لا سيما أنها تجاوزت تسعة أشهر منذ إجراء الانتخابات الأخيرة في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التي طالبت بها معظم القوى السياسية والمحتجون العراقيون الذين خرجوا إلى الميادين والساحات بتظاهرات هي الأكبر في تاريخ البلاد الحديث عام 2019، واستمرت نحو عام.
وكان العراقيون يأملون أن تكون التحركات بداية لخروج العمل السياسي في العراق إلى أفق أفضل، إلا أن الانتخابات الأخيرة أدت إلى انسداد شديد في عملية تشكيل الحكومة الجديدة، جرّاء انقسام الأحزاب الفائزة ما بين محورين أحدهما داعم للمحاصصة الطائفية والحزبية بدعمٍ إيراني، وآخر يرفض التأثير الإيراني على القرار العراقي، وكان يسعى إلى تشكيل "حكومة وطنية"، وهي مدعومة من أطراف عراقية، أبرزها مقتدى الصدر.
ورغم إعلان التيار الصدري الانسحاب من العملية السياسية، إلا أن الخلاف تفاقم داخل "الإطار التنسيقي" الذي قال إن الانسداد السياسي قد انتهى بعد إعلان التيار الصدري. كان آخر معالم احتدام هذا الخلاف انسحاب مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، أحد أبرز المرشحين لرئاسة الحكومة.
وعرف العراق سلسلة من الأزمات الحكومية المشابهة، إذ شهدت حكومة نوري المالكي الأولى خلافات سياسية ومشاحنات استمرت خمسة أشهر، فيما استمرت أزمة تشكيل حكومة المالكي الثانية سبعة أشهر، واندلعت احتجاجات ضد المالكي منعته من تولي رئاسة الحكومة فترة ثالثة، قبل أن يكلَف حيدر العبادي بتشكيلها بعد 4 أشهر من الانتخابات. أما حكومة عادل عبد المهدي فلم تكمل عامها الأول، إثر اندلاع احتجاجات ضدها، قبل اختيار مصطفى الكاظمي الذي انتهت ولايته منذ الانتخابات الأخيرة.
أزمات الحكومات بعد الاحتلال.. محاصصة وطائفية
بدأت أولى الأزمات السياسية بعد عام 2003 بتشكيل حكومة نوري المالكي الأولى (2006 ــ 2010)، حين أصر رئيس الحكومة المؤقتة إبراهيم الجعفري البقاء في منصبه لولاية ثانية، رغم أن مهمة حكومته كانت تقتصر على التمهيد لإجراء الانتخابات وتشكيل أعضاء دائمين في مجلس النواب.
وشهدت هذه الفترة مشاحنات وخلافات سياسية استمرت مدة خمسة أشهر تقريباً، تقرر عقبها اختيار نوري المالكي، وبقيت الخلافات قائمة بشأن اختيار وزيري الدفاع والداخلية، حتى توصلت القوى السياسية بعد ذلك إلى قرار إحالة وزارة الدفاع إلى الأحزاب السنية، فيما باتت الداخلية من نصيب الأحزاب الشيعية، واستمر هذا العرف غير القانوني لغاية الآن، كما شهدت الأزمة أول انشقاق في صفوف حزب الدعوة الإسلامية الحاكم آنذاك.
ولم تكن حكومة المالكي الأولى مستقرة، بل شهدت أعلى درجات التوتر السياسي والأمني، فقد حصلت اعتراضات كثيرة، من بينها ما صدر عن رئيس "القائمة العراقية" برئاسة إياد علاوي، الذي اعترض على حصته الوزارية في حكومة المالكي، التي كانت لا تتناسب مع حجم الأصوات التي حصلت عليها القائمة في الانتخابات.
إضافة إلى ذلك، كانت تواجه تحديًا أمنيًا بارزًا، وهو قتال القوات الحكومية ضد مليشيا "جيش المهدي" بقيادة مقتدى الصدر، حتى عام 2008، في بغداد والحلة والكوت والنجف وكربلاء والديوانية الجنوبية، وانتهت في مدينة البصرة بعد معارك القوات العراقية مدعومة بالقوات الأميركية في عملية أطلق عليها "صولة الفرسان".
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2010، كلف جلال طالباني، الرئيس العراقي آنذاك، رئيس الوزراء نوري المالكي المنتهية ولايته بتشكيل حكومة جديدة ثانية، وذلك بعد نحو 7 أشهر من المباحثات عن آلية توزيع الوزارات والمناصب والهيئات والدوائر العامة، بنفس آلية المحاصصة، على القوى السياسية العراقية السنية والشيعية والكردية، إضافة إلى الأقليات بينها المسيحية، برغم أن نتائج الانتخابات أسفرت عن فوز قائمة إياد علاوي بـ91 مقعداً برلمانياً.
أدى ذلك إلى خلافات كبيرة بين الطرفين، إلا أن المالكي التف على علاوي، عبر التنسيق مع حلفائه التقليديين وهم الأحزاب المقربة من إيران، فيما توزعت في النهاية المناصب مع المكونات، واستحدث منصب رئيس "المجلس الوطني للسياسات الإستراتيجية" الذي أوكل لزعيم القائمة "العراقية " إياد علاوي، لكن سرعان ما تفجرت الصراعات من جديد بين المالكي وسياسيين آخرين، بسبب تفجر الاحتجاجات في محافظة الأنبار.
أزمات بعد خروج الاحتلال الأميركي
جرت انتخابات إبريل/ نيسان 2014 في أجواء متوترة للغاية، حيث كانت الانتخابات الأولى بعد خروج الاحتلال الأميركي من البلاد، وجرت في 18 محافظة عراقية، بما فيها الأنبار التي كانت تشهد موجات متصاعدة من القتال بين القوات العراقية ومسلحين يتبعون لفصائل متفرقة توغل فيها تنظيم "داعش"، فيما جرى استثناء مدينتي "الفلوجة والكرمة" من إجراء الانتخابات فيها.
المحلل السياسي غالب الدعمي: العراق منذ عام 2003 يعاني من نظام مأزوم تحكمه الأحزاب الإسلامية، وهذه الأحزاب تقودها شخصيات تتحكم بالملف السياسي وتشكيل الحكومة وفق أمزجة وخلافات شخصية
فاز في هذه الانتخابات "ائتلاف دولة القانون" لنوري المالكي، ثم التيار الصدري، وبرغم هذا الفوز، فإن الخلافات التي اشتدت بين مقتدى الصدر والمالكي من جهة، وبروز الحراك المدني والاحتجاجات الشعبية في بغداد ضد سياسة حكومة المالكي في التعامل مع الأزمات وسوء الخدمات من جهة ثانية، منعت تحقق "الولاية الثالثة" التي سعى إليها المالكي.
وكلف الرئيس العراقي آنذاك فؤاد معصوم حيدر العبادي في أغسطس/ آب من نفس العام، أي بعد أربعة أشهر تقريباً، بتشكيل الحكومة، إلا أن المالكي بقي يقول إن "العبادي لا يملك الشرعية".
انشغل العراق عقب ذلك، مع ولادة حكومة العبادي التي لم تختلف كثيراً عن الحكومات التي سبقتها من حيث توزيع الوزارات على الأحزاب، بالحرب على تنظيم "داعش" التي انتهت عام 2017، لكن الخلافات زادت بين القوى السياسية ضمن المكون الشيعي، وتحديداً بين المالكي والفصائل المسلحة من جهة، ومقتدى الصدر من جهة ثانية، وكان الثاني داعماً للعبادي في تنظيم هيئة "الحشد الشعبي"، وهو ما أدى إلى غضب إيراني من العبادي والصدر، في حين زادت قوة العراق على المستوى الإقليمي والدولي بعد هزيمة "داعش".
تشكّلت حكومة 2018 برئاسة عادل عبد المهدي، بعد خمسة أشهر من إجراء الانتخابات البرلمانية بذات العام، وقد شهدت تجاوزاً للمدة الدستورية التي تسمح بتشكيل مجلس الوزراء خلال شهر من اختيار رئيس الوزراء، جرّاء خلافات بين كتلة "سائرون" التي جمعت التيار الصدري والمدنيين بينهم الشيوعيون، وتحالف "الفتح" الذي جمع الأحزاب الشيعية والفصائل المسلحة التي دخلت الانتخابات لأول مرة وحصلت على مقاعد نيابية، في انتخابات وصفت بأنها "أكثرها تزويراً وتلاعباً بالنتائج وأقلها مشاركة شعبية"، فيما بقي مقتدى الصدر يؤكد رفضه "تقاسم المغانم وللمحاصصة الطائفية والعرقية وعودة الوجوه القديمة".
لم تكمل حكومة عادل عبد المهدي عامها الأول، حتى اندلعت أكبر احتجاجات شعبية عرفها تاريخ العراق الحديث، حيث تظاهر العراقيون في 9 محافظات، بينها العاصمة العراقية، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وعُرفت بانتفاضة تشرين، طالبت برحيل كل أحزاب "الإسلام السياسي" ومحاسبة المتورطين بالفساد وقتل العراقيين، على رأسهم الفصائل المسلحة والمليشيات التي أسسها نوري المالكي وشخصيات قريبة من إيران.
حظيت التظاهرات بدعمٍ محلي ودولي وأممي، وأسهمت باستقالة حكومة عبد المهدي، لكنها تراجعت مع تفشي فيروس كورونا، لتؤول الأمور إلى اختيار مصطفى الكاظمي، الذي انتهت ولايته منذ إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة في أكتوبر/ تشرين الأول بخسارة فادحة للفصائل المسلحة وصعود التيار الصدري.
يقول المحلل السياسي وأستاذ الإعلام في جامعة "أهل البيت" في كربلاء، غالب الدعمي، إن "العراق منذ عام 2003 يعاني من نظام مأزوم تحكمه الأحزاب الإسلامية، وهذه الأحزاب تقودها شخصيات تتحكم بالملف السياسي وتشكيل الحكومة وفق أمزجة وخلافات شخصية، انسحبت إلى خلافات حزبية ثم إلى خلافات جماهيرية".
وبين، خلال حديث مع "العربي الجديد"، أن "أطروحة الإسلام السياسي التي حكمت العراق منذ الاحتلال الأميركي ولغاية الآن لا تؤمن بالديمقراطية، بل تؤمن بالوراثة في الحكم، وأن كل حزب يرى أنه الأصلح في إدارة الأزمة، سواء أكان هذا الحزب شيعياً أم سنياً، ويعتقد أنه يحظى بالتأييد الإلهي".
وتابع "كل حزب يتعامل مع موارد الدولة على أنها مجهولة المالك، ويستطيع السيطرة عليها باعتباره وكيلاً وحاكماً شرعياً، وأن هذه الرؤية تجعل الأحزاب تصطدم مع غيرها من الأحزاب الإسلامية أيضاً، لذلك فإن كل أزمات العراق حالياً سببها الإسلام السياسي".