في أميركا، الأولى مباحة ضمناً، والثانية من المحرمات. فالثقافة السائدة لا تسمح حتى بالمقارنة بينهما. هيمنتها منعت حتى ذكر نكبة 1948 في الخطاب العام إلاّ نادراً وبصورة عرضية، هذا التاريخ وتبعاته كان مطلوباً وما زال إخراجه من التداول.
ولتحصين الساحة ضد الحديث عن الفلسطينيين وحقوقهم، عملت مفاتيح إسرائيل في أميركا منذ سبعينيات القرن الماضي، على مساواة انتقاد الصهيونية والدولة العبرية بـ"معاداة السامية". وفي الآونة الأخيرة، ذهب بعض هذه الجهات إلى حدود المساواة بين معاداة الصهيونية وبين كراهية اليهود. وتوسلوا الربط بين الاثنين كوسيلة لردع أي اعتراضات على سياسات إسرائيل، ومن جهة ثانية لإخراس الأصوات الأميركية المتعاطفة، على قلّتها، مع القضية الفلسطينية. وقد نجح هذا البعبع إلى حدّ بعيد في تحقيق مقاصده. فالأجواء الأميركية المواتية ساعدته في الترويج لمعادلته. لكن وجهة الرياح بدأت تتغير في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، حيث ازداد التمرد على هذا التخويف ووصل إلى حد المجاهرة بضرورة التعامل مع "معاداة الفلسطينيين" كغيرها من التعبيرات العنصرية مثل "معاداة السامية".
بدأ هذا التحوّل يتبلور في السنوات الأخيرة، مع انتقال عدوى مقاطعة البضائع الإسرائيلية المصنّعة في المستوطنات، من أوروبا إلى الولايات المتحدة. فقد لاقى هذا التوجّه أرضية خصبة في الجامعات وبعض القطاعات والأوساط التي تعبت من التجاوزات الإسرائيلية وغطرسة نتنياهو. خصوصاً في صفوف الجيل الجديد من الديمقراطيين والليبراليين اليهود. وقد توسعت الدعوة إلى حد حمل سلطات عدة ولايات على سن قوانين مضادة للمقاطعة، لوقف انتشارها. غير أن الموجة المناوئة للسياسات الإسرائيلية استمرت بأشكال وصيغ مختلفة.
ولم يقتصر زخمها على حيز بارز من الوسط الجامعي، مثل جامعتي براون ويال، بل تمدد ليشمل قطاعات أخرى كان أبرزها قرار شركة الأيس كريم الأميركية الشهيرة "بن أند جيري" بوقف عملها في المستوطنات الإسرائيلية بنهاية 2022، كتعبير عن اعتراضها على الاستيطان والاحتلال. السفير الإسرائيلي سارع إلى مطالبة 35 ولاية أميركية "بالرد" على تصرّف الشركة "المنحاز والمعادي للسامية". وبعض قيادات الحزب الجمهوري مع حاكم ولاية تكساس دعوا إلى مقاطعة الشركة، ولو أنه من المستبعد، بل من المتعذر عملياً، الإقدام على خطوة من هذا النوع.
زجّ قضية السامية هنا لا يعكس فقط خشية هذه الجهات من تحوّل القرار إلى سابقة تشق طريق العقوبات ضد إسرائيل، بل أيضاً والأهم؛ الخشية من أن يؤسس هذا التطوّر لعدم جواز "معاداة الفلسطينيين" على غرار ما هو سائد بخصوص عدم جواز "معاداة السامية". فهذه مسألة حساسة لا تتهاون إسرائيل وجماعاتها في أميركا بشأنها.
قبل أيام، بادرت "جمعية كتّاب كُتب الأطفال" التي تضم 22 ألف عضو، إلى تقديم "اعتذار لكل فلسطيني، في أميركا، عانى من التمييز أو انعدام التمثيل أو من التهميش"؛ لأن بيانها الذي صدر مؤخراً حول "معاداة السامية في أميركا" فاتته الإشارة إلى معاناة الفلسطينيين.
أستاذ القانون الشهير المتقاعد ألن دارشويتز، كاد في مقالته أن يقيم الدنيا ولا يقعدها على الجمعية، لأنها تجرأت على وضع ما يشير إلى "معاداة الفلسطينيين" في الكفة نفسها مع "معاداة السامية". نقطته الأساسية أن المعاداة مسألة حصرية لا تنطبق على الشعب الفلسطيني، فالمساواة ممنوعة وإلا يصبح للفلسطينيين مظلومية تستحق التوقف عندها كما هي الحال بالنسبة للسامية، وهذا غير مقبول.
في مقالته الأخيرة، يقول الكاتب اليهودي الليبرالي بيتر باينرت: "لقد آن الأوان لوضع معاداة الفلسطينيين في خانة التعصب الأعمى". وأضاف أنه بات "من المهم أن يدخل هذا الفهم في الحديث الأميركي، ليتضح للأميركيين مدى المعاداة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني".
ربما ما زال من المبكر أن تصبح "معاداة الفلسطينيين" واحدة من اهتمامات الأميركيين؛ لكن الوقائع، وإن كانت رمزية أحياناً، تفيد بأن الأمر يسير ولو ببطء في هذا الاتجاه.