كشف برنامج "شيفرة" في تحقيقه الجديد "قاعدة حميميم" عبر صور الأقمار الاصطناعية وبيانات الملاحة الجوية عن التموضع الجيواستراتيجي لروسيا في منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، حيث تتخذ موسكو القاعدة الجوية على الساحل السوري الغربي مركزاً لانطلاق عملياتها العسكرية خارج أراضيها.
انطلق فريق "شيفرة" في البحث من تقرير نشره موقع "ذا درايف" المختص بالشؤون العسكرية في شهر فبراير/شباط الماضي، يشير إلى أن موسكو قامت أخيراً بعمليات توسعة كبرى في المدرج الغربي لقاعدة حميميم الجوية، استناداً إلى صور حديثة للأقمار الاصطناعية، وذكر التقرير أن التوسعة التي نفذها الجيش الروسي زادت من طول المدرج 305 أمتار عما كان عليه في عام 2015، كما أشار التقرير إلى أن موسكو تدرس خططاً لزيادة طول المدرج بنحو 228 متراً إضافية.
استناداً إلى تلك المعلومات الواردة في تقرير "ذا درايف" قام فريق برنامج "شيفرة" في "التلفزيون العربي" بتحليل صور الأقمار الاصطناعية الخاصة بقاعدة حميميم، ومن خلال حساب طول المدرج الغربي تبين أن الجيش الروسي أضاف منذ عام 2015 ما يقارب 260 متراً لطول المدرج من الجهة الشمالية، و120 متراً أخرى من الجهة الجنوبية، ليبلغ إجمالي التوسعة لطول المدرج الغربي نحو 380 متراً منذ رصد موقع "ذا درايف" عمليات التوسعة في شهر فبراير/شباط الماضي، وتسمح هذه الزيادة في طول المدرج للطائرات الثقيلة، مثل طائرات الشحن العسكري، بالانطلاق والهبوط من القاعدة.
دفعت تلك المعلومات الأولية فريق "شيفرة" إلى البحث بشكل أعمق في التوسعات الروسية داخل القاعدة، ومراحلها وأهدافها، ومحاولة معرفة حجم التسلّح الذي يمكن أن تستوعبه القاعدة بعد عمليات التوسعة تلك.
منشآت ومدارج جديدة
قبل ثلاثة أشهر فقط من التدخّل الروسي في سورية عام 2015؛ تظهر الصور والمعلومات قاعدة حميميم مطاراً بدائياً، شبه خاوٍ، إلا من بضع مروحيات ومنشآت محدودة وعشوائية موزعة في أرجاء القاعدة، بالإضافة إلى مدرجين رئيسيين ومبنى المطار الرئيسي غربي القاعدة.
انقلبت تلك الصورة بشكل كبير في شهر سبتمبر/أيلول 2015، بعد ثلاثة أشهر فقط من إعلان التدخّل الروسي العسكري، حيث أضافت موسكو غرف سكن ومنشآت لوجيستية إلى قاعدة أسفلت جديدة، تتجاوز مساحتها 200 ألف متر مربع في الجهة الشمالية الغربية من القاعدة.
كما تمت زيادة مساحة مرابض الطائرات شمال غربي القاعدة من 14 ألف متر مربع إلى 44 ألف متر مربع، بالإضافة إلى مدرج جديد شمال شرقي القاعدة بمساحة سبعة كيلومترات مربعة، لتتسع حميميم لأسطول روسيا الجوي.
كما أظهرت الصور العديد من التغييرات في البنية التحتية للقاعدة، مثل مناطق أسفلتية جديدة، ومدارج جديدة مخصصة لطائرات الهليكوبتر، ومواقف للعربات العسكرية واللوجستية.
مقاتلات موسكو على شواطئ المتوسط
واصل الجيش الروسي وتيرة التوسيعات في المنشآت والبنى التحتية للقاعدة في عامي 2016 و2017، وسمحت تلك العمليات للمقاتلات الروسية المتطورة وطائرات الشحن العسكري العملاقة باستخدام المطار للإقلاع والهبوط، وهو ما لم يكن ممكناً قبل إنهاء عمليات التوسعة تلك.
من خلال صور القاعدة الجوية، تمكّن فريق "شيفرة" من رصد 12 طائرة من نوع SU-25 و12 طائرة أخرى من نوع SU-24 وأربع طائرات من طراز SU-34.
كما تم رصد أربع مقاتلات من طراز SU-30 التي تتمتع بقدرات على التحليق عند مستويات منخفضة نسبياً، ونظام طيران رقمي، وقدرة أكبر على أداء المناورات، مثل إبطاء سرعة الطائرة والهروب من إشارات الرادار، وهو ما يجعلها مثالية في توفير الغطاء الجوي لتحركات المقاتلين على الأرض في المناطق الخطيرة، مع قدرة على الإفلات من منظومات الدفاع الجوي المحمولة المتطورة نسبياً، مثل FN-6 الصينية وSA-16 الروسية.
وسبق أن استقبلت قاعدة حميميم ثماني طائرات من نوع Su-34، إضافة إلى عدد مماثل من طائرات Su-35 المتطورة، وطائرات Su-27 (الطراز القديم من Su-35)، حيث تتمتع مقاتلات Su-34 بقدرات تقنية متطورة، خاصة وأن قمرة القيادة في هذا النوع من الطائرات رقمية بالكامل ومصممة للمهام الطويلة، ويتم استخدامها لقصف الأهداف الأرضية. ويمكن أن تطلق ذخائر غير موجهة وموجهة، وتستطيع حمل ثمانية أطنان من الذخائر، ما يعطيها أفضلية في أداء المهام الطويلة.
أما طائرات Su-35 فمن المرجح أن السبب الرئيس لإدخالها هو قيام تركيا بإسقاط طائرة روسية من طراز Su-24، اخترقت مجالها الجوي في 24 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015، حيث تتميز SU-35 عن الطراز السابق بقدرتها على ملاحقة أكثر من هدف جوي في وقت واحد.
ويأتي التطور الأبرز في تلك الفترة من خلال رصد وصول طائرة Su-57 الشبحية إلى حميميم في بداية عام 2018.
فقاعة دفاع جوي في مواجهة خصم لا يمتلك أي قدرات جوية
في عام 2015، أضافت موسكو منظومة دفاع جوي من طراز S-400، متواجدة على أطراف القاعدة في الجزء الشمالي الغربي، وهي المنظومة الدفاعية الأكثر تطوراً لدى سلاح الجو الروسي.
وفي عام 2016، جرى إدخال منظومة دفاع جوي جديدة انضمت إلى منظومة الدفاع الأولى التي أحضرها الروس نهاية عام 2015 عند دخولهم سورية.
ويعني نشر منظومة دفاعية على هذا القدر من التطور في مواجهة خصم لا يمتلك أي قدرات جوية (سواء المعارضة أو تنظيم داعش)، أن البعد التنافسي في الصراع كان حاضراً في ذهن موسكو منذ الأسابيع الأولى لتواجدها عسكرياً في سورية، حيث غالباً ما تستخدم منظومات الدفاع الجوي في فرض مناطق حظر الطيران وخلق فقاعات جوية أمام الطائرات المعادية.
وعلى المستوى المباشر، ربما تهدف هذه الفقاعة إلى تعقيد مهمة الولايات المتحدة وحلف الناتو في توجيه ضربات عسكرية إلى الأسد. أما على المستوى الأوسع، فإن صواريخ روسيا في حميميم أعطت موسكو نفوذاً جوياً في منطقة تحلق فيها طائرات أميركا وحلف الناتو بكثافة، بما يشمل شرقي البحر الأبيض المتوسط (بما في ذلك قبرص التي تتمركز فيها الطائرات البريطانية)؛ وأجزاء كبيرة جنوبي تركيا وشمالي الأردن ومعظم سورية وأجزاء من شرقي العراق.
حميميم.. محطة النفوذ نحو أفريقيا
تتوافق هذه التطورات في قاعدة حميميم بشكل كبير مع رغبة موسكو في تحويل القاعدة الجوية إلى مركز لعملياتها الإقليمية.
وقد نشرت القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) بالفعل في شهر مايو/أيار 2020، لقطات لأقمار اصطناعية تشير إلى قيام موسكو بنقل طائرات MiG-29 إلى ليبيا عبر قاعدة حميميم الجوية الروسية في سورية، بهدف دعم العمليات العسكرية للجنرال خليفة حفتر.
وتعد هذه الأنباء تطوراً مهماً في دور قاعدة حميميم الإقليمي، حيث باتت تلعب دور نقطة الوصل بين روسيا ودول إقليمية أخرى تستطيع موسكو من خلالها إمداد حلفائها بالمعدات والأفراد عبر طائرات أسطولها الجوي الضخم الذي قامت بزرعه في سورية على مدار السنوات الماضية.
على الساحة الليبية تحديداً، لعبت قاعدة حميميم دوراً فعالاً في خدمة الحركة الجوية الروسية إلى قاعدتي بنغازي، وبشكل أخص قاعدة الوطية الجوية في ليبيا، التي استخدمتها موسكو لتسيير طائرات إلى فنزويلا قبل أن تفقد قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر السيطرة عليها العام الماضي.
في غضون ذلك، أشارت تقارير إلى أن موسكو استخدمت قاعدة حميميم كنقطة تجميع يتم من خلالها نقل المجندين السوريين إلى ليبيا، كجزء من ترتيب ثنائي بين الأسد وحفتر، من المرجح أن روسيا لعبت دور الوسيط فيه.
في هذا السياق، قام فريق "شيفرة" بجمع عشرات الأرقام التسلسلية لطائرات الشحن العسكري الروسية، ليكشف عن عدة طائرات تم استخدامها لنقل العتاد من قاعدة حميميم إلى أكثر من دولة أفريقية تحاول روسيا بسط نفوذها فيها، من خلال العدة والعتاد والمرتزقة الأجانب.
ورصد فريق "شيفرة" عشرات رحلات الشحن العسكري التي قامت بها روسيا من حميميم إلى عدة مواقع داخل القارة الأفريقية (يُنظر الملف المرفق).
بين خاصرة أوروبا الجنوبية وبوابة أفريقيا الشمالية
نشرت محطة التلفزيون الرسمية التابعة لوزارة الدفاع الروسية "تي في زيفيزدا" في يونيو/حزيران عام 2021 مقطع فيديو يظهر وصول طائرات MiG-31K وTU-22M3 للمشاركة في تدريبات مشتركة بين القوات الجوية والقوات البحرية الروسية، فحميميم قاعدة عسكرية مهمة جداً في العقيدة البحرية الروسية، حيث توفر القاعدة مظلة جوية للبحرية الروسية العاملة في البحر الأبيض المتوسط بحسب "ذا درايف"، ويمثل وجود القاذفات البحرية طويلة المدى من طراز TU-142 في حميميم تحدياً لحلف الناتو؛ فهذه القاذفات ستكون قادرة على ضرب أهداف أوروبية جنوباً كما تستطيع الاشتباك مع السفن البحرية.
كل ذلك كان إشارة واضحة إلى أن دور قاعدة حميميم سيكون أكبر من سورية، فرغم ادعائها الانسحاب الجزئي من سورية وانتهاء العمليات العسكرية فيها؛ كانت عملية استثمار القاعدة تتم بوتيرة متصاعدة لتحقيق أهداف طويلة الأمد، تتجاوز حدود الصراع السوري.
حيث أصبحت لموسكو اليوم يد على البحر المتوسط الذي يعد خاصرة أوروبا الجنوبية وبوابة أفريقيا الشمالية، وتعتبر قاعدة حميميم عقدة مواصلات تعني نفوذاً حيوياً في الشرق الأوسط، وسرعة وانسيابية في الوصول إلى أفريقيا وتأمين الطوق في مواجهة الناتو، ومزيداً من تجريب السلاح، ومزيداً من صفقات البيع، وربما أتى الوجود الروسي كبديل للوجود الأميركي في المنطقة. فبعدما ساعد الروس نظام الأسد في البقاء؛ أظهرت موسكو نفسها حليفاً يمكن الاعتماد عليه، لذا فإن موسكو جاءت لتبقى، وحجر الزاوية كان قاعدة حميميم الجوية.