بعد مرور 4 أشهر على تجميد مفاوضات الرقابة على الأسلحة النووية بين الولايات المتحدة وروسيا، على خلفية غزو الأخيرة أوكرانيا، تتجه واشنطن وموسكو لاستئنافها بعد تأكيد الرئيس الأميركي جو بايدن، مطلع شهر أغسطس/آب الحالي، استعداد إدارته لعقد مفاوضات قريباً حول منظومة جديدة للرقابة، تحل محل معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الإستراتيجية "ستارت - 3" الساري مفعولها حتى عام 2026.
وكانت روسيا والولايات المتحدة أعلنتا في فبراير/شباط 2021 عن بدء سريان قرار تمديد معاهدة "ستارت ـ 3" المبرمة بينهما بشأن الحد من الأسلحة الهجومية الإستراتيجية لمدة خمس سنوات.
مراحل توقيع معاهدة "ستارت ـ 3"
وتُعدّ معاهدة "ستارت - 3" امتداداً لمعاهدة الحدّ من الأسلحة الهجومية الإستراتيجية "ستارت ـ 1" الموقعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في عام 1991 في موسكو، وتضمنت أكبر خفض ثنائي للأسلحة النووية في التاريخ، بعد عشر سنوات من المحادثات المتقطعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة (1947 ـ 1991).
ووقّع "ستارت - 3"، أو "نيو ستارت"، الرئيسان السابقان، الروسي دميتري ميدفيديف والأميركي باراك أوباما في 8 إبريل/ نيسان 2010 في العاصمة التشيكية براغ. واسمها الرسمي "المعاهدة المبرمة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الروسي بشأن تدابير زيادة خفض الأسلحة الهجومية الإستراتيجية والحد منها: نيو ستارت".
"ستارت ـ 3" هي آخر معاهدة عسكرية متبقية بين الروس والأميركيين
وتشكل هذه المعاهدة الحجر الأساس في اتفاقات التوازن الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وروسيا، وهي آخر اتفاق تمكن الجانبان من الاتفاق على تمديده بعد انسحابهما عام 2019 من معاهدة الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، وانسحاب واشنطن من اتفاقية "الأجواء المفتوحة" للمراقبة.
ونصّت "ستارت -3 " على تقليص عدد الرؤوس الحربية النووية لدى كل من روسيا والولايات المتحدة إلى 1550، والصواريخ البالستية العابرة للقارات، والصواريخ البالستية التي تطلق من الغواصات والقاذفات الثقيلة إلى 700 قطعة، وعدد منصات الإطلاق والقاذفات الثقيلة إلى 800 قطعة، وذلك خلال سبع سنوات بعد دخول المعاهدة حيّز التنفيذ.
إلا أن المعاهدة واجهت مصيراً مجهولاً في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بسبب إصرار إدارته على إشراك الصين في المفاوضات وانضمامها إلى المعاهدة، علماً أن ترامب عمل على تحسين العلاقات مع موسكو.
ويبدو أن أولوية ضمّ الصين إلى هذه المعاهدة، على جدول أعمال بايدن أيضاً، الذي أشار في بيان تزامن مع انطلاق "المؤتمر الاستعراضي العاشر للأطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية"، الذي تنظمه الأمم المتحدة في نيويورك، بين 1 أغسطس الحالي و26 منه، إلى أن "الصين يجب أن تشارك أيضاً في بحث نظام جديد لضبط التسلح".
وقال بايدن عبر الفيديو، الاثنين الماضي: "الصين، بصفتها دولة حائزة للأسلحة النووية في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية وعضواً في مجموعة الدول الخمس، تقع على عاتقها أيضاً مسؤولية المشاركة في محادثات من شأنها أن تقلل من مخاطر سوء التقدير وتعالج الديناميكيات العسكرية المزعزعة للاستقرار".
من جهته، أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الاثنين الماضي، في كلمة عبر الفيديو في المؤتمر نفسه أن لا منتصر في الحرب النووية، مشدداً على أنه يجب ألا تندلع مطلقاً.
وحسب وكالة "سبوتنيك" قال بوتين: "كدولة طرف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، فإن روسيا تلتزم بنص وروح المعاهدة، كما أننا أوفينا بالتزاماتنا كاملة بموجب الاتفاقات الثنائية مع الولايات المتحدة بشأن تخفيض الأسلحة ذات الصلة والحد منها"، مضيفاً: "نحن ننطلق من حقيقة أنه لا يمكن أن يكون هناك منتصر في حرب نووية، ولا ينبغي اندلاعها مطلقاً".
وحظيت دعوة بايدن للتفاوض مع روسيا بترحيب الكرملين، الذي ذكّر المتحدث الرسمي باسمه، دميتري بيسكوف بأن "موسكو تحدثت مراراً عن ضرورة الإسراع في بدء مثل هذه المفاوضات، لأن الوقت المتبقي قليل".
لكن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أعلن الأربعاء الماضي، أن "واشنطن لم تعرض على موسكو استئناف المحادثات بشأن معاهدة ستارت الجديدة" حسبما نقلت عنه وكالة "إنترفاكس" المحلية.
أما ميدفيديف، فكتب بصفته رئيس مجلس الأمن الروسي، على قناته على "تيليغرام": "قبل شهر ونيف، كتبت أن قضايا الأمن الإستراتيجي التي لا يمكن تسويتها من دوننا، مهمة للغاية بالنسبة إلى الأميركيين. سيزحفون إلينا مع هذه القضية. هاهم قد، زحفوا". وتحوّل ميدفيديف في الأشهر الماضية إلى وجه لتشدّد الخطاب السياسي الروسي وعسكرته.
مجال للتعاون بين الولايات المتحدة وروسيا؟
وفي الوقت الذي حظيت فيه دعوة بايدن بترحيب الكرملين، ثمة شكوك في إمكانية التنبؤ بمصير الرقابة على الأسلحة النووية ما بعد "ستارت-3" على المدى البعيد نظراً للوضع السياسي المتغير والمتقلب الذي يعيشه العالم.
تدعو واشنطن إلى إشراك بكين في أي معاهدة مستقبلية
ويعتبر كبير الباحثين في معهد المعلومات العلمية حول العلوم الاجتماعية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، بوريس ميغويف، أن الرقابة على الأسلحة هي آخر مجال للتعاون بين روسيا والولايات المتحدة في ظل العلاقات المتأزمة بينهما.
ويلفت إلى أن موسكو تتفوق في الوقت الحالي على واشنطن في مجال الصواريخ فرط الصوتية، متوقعاً في الوقت نفسه أن الوضع قد يتغير بحلول عام 2026 بسبب الاستثمارات الأميركية الهائلة في تطوير الأسلحة.
ويقول ميغويف في حديث مع "العربي الجديد": "في الوقت الحالي، تسبق روسيا الولايات المتحدة في مجال الأسلحة فرط الصوتية، لاسيما بعد الدخول المرتقب لصاروخ "تسيركون" حيز الخدمة، ليبدو من الوهلة الأولى أن واشنطن معنية بدرجة أكبر بتمديد آلية الرقابة على الأسلحة التي تبقى الخيط الأخير الرابط بين أكبر قوتين نوويتين".
لكنه يشير إلى "الفارق في الاستثمارات في تطوير الأسلحة لصالح الولايات المتحدة، وبالتالي فإن واشنطن قد تنتج سلاحاً مماثلاً بحلول عام 2026، لذلك يصب تمديد المعاهدة في مصلحة الطرفين".
وبحسب تقديرات معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فإن النفقات العسكرية الأميركية بلغت في العام الماضي 801 مليار دولار، متفوقة بمقدار 12 ضعفاً تقريباً على روسيا البالغة نفقاتها العسكرية نحو 66 مليار دولار.
وحول تأثير انتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2024 على مصير "ستارت-3"، يقول ميغويف: "سيصبح مصير المعاهدة على المحك في حال فاز مرشح جمهوري وشكل فريقاً مكوّناً من "الصقور" مثل مستشار الأمن القومي الأسبق جون بولتون، ومن يشاطره مواقفه المتشددة".
ومع ذلك، يقلل من واقعية الاستئناف الفعلي لمفاوضات الرقابة على الأسلحة قبل تهدئة الوضع في أوكرانيا، قائلاً: "في ظل استمرار الحرب بالوكالة باستخدام صواريخ "هيمارس" الأميركية، فإن الجو العام غير مشجع. يجب إنهاء القتال في أوكرانيا، ولكن المسألة كيف؟ ربما عن طريق تثبيت تقدم القوات الروسية على الأراضي التي سيطرت عليها، والكف عن الأعمال القتالية".
عوامل المفاوضات الأميركية ـ الروسية
من جهته، يشير الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية، قسطنطين بلوخين، إلى مجموعة من العوامل ستحدد مصير المفاوضات الروسية الأميركية حول آلية الرقابة على الأسلحة النووية بعد انتهاء "ستارت - 3". وفي مقدمة هذه العوامل نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2024، والموقف الأميركي من إشراك الصين في المعاهدة الجديدة، والمطالب الروسية المتعلقة بأوكرانيا وعدم توسع حلف الأطلسي شرقاً.
ويقول بلوخين في حديث لـ"العربي الجديد": "هناك متغيرات عدة تؤثر على مصير تمديد معاهدة ستارت، ومنها من سيفوز في انتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2024، مرشح الحزب الديمقراطي أم الجمهوري؟ في حال فوز المرشح الجمهوري، فاحتمال التمديد سيكون ضئيلاً للغاية، ولكنه سيكون كبيراً في حال فوز المرشح الديمقراطي، على الرغم من أنه على الأرجح لن يكون بايدن بسبب عمره المتقدم. وأهم ميزة لبايدن بالنسبة إلى روسيا هي موقفه المسؤول حيال معاهدة ستارت-3، التي تم تمديدها بعد تنصيبه مباشرة".
وحول رؤيته للعامل الصيني في المعاهدة الجديدة للرقابة على الأسلحة، يرى بلوخين: "قد تصر الولايات المتحدة على مشاركة الصين في المعاهدة، ولكن بكين ترفض الانضمام إلى الاتفاقات متعددة الأطراف، كما يحق لها رفض المشاركة بحجة أن حصتي روسيا والولايات المتحدة في الترسانة النووية العالمية تزيدان على 90 في المائة، أو المطالبة بإشراك القوى النووية الأخرى مثل الهند وبريطانيا وفرنسا في المعاهدة".
ويرجح بلوخين ألا تقبل روسيا هي الأخرى بتمديد المعاهدة ما لم تحصل على تنازلات من الولايات المتحدة في ملفات أخرى، قائلاً: "في الوقت الحالي، تتأخر الولايات المتحدة عن روسيا في مجال الأسلحة فرط الصوتية مثل صاروخ تسيركون، ولذلك ليس من المنطقي أن تقيد روسيا نفسها بنفسها، وقد تطالب في مقابل ذلك بتنازلات في الملف الأوكراني أو إعادة حدود حلف الأطلسي إلى ما كانت عليه في عام 1997، مثلاً".