يبدو أن المبعوث الدولي إلى سورية، النرويجي غير بيدرسن، يلعب آخر أوراقه، بعدما جرّب كل الطرق، ولم يتقدم خلال أكثر من عامين خطوة واحدة على المسار الدستوري. وها هو يجوب العواصم المعنية بالشأن السوري، من موسكو إلى دمشق وطهران، ومن مدينة إسطنبول إلى نيويورك التي يقصدها كلما أراد أن يشرح صدره، ويفرغ جعبته أمام مجلس الأمن الدولي.
وفي زيارته إلى العاصمة السورية في الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، خرج بيدرسن عن مساره المعتاد عقب لقائه وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، عندما أعلن أن هناك فرصاً لإعادة إطلاق المسار السياسي.
وقال المبعوث الأممي إنه لمس من خلال مباحثاته مع مسؤولين عرب وأميركيين وأوروبيين، وجود إمكانية لانفتاح بلادهم على التواصل مع النظام، وهو يرى أن هناك فرصة جادة لبحث إمكانية تطبيق مقاربة "خطوة بخطوة" بهدف بناء الثقة. وكشف في تصريح لصحيفة "الوطن" الموالية للنظام، أن الأميركيين والأوروبيين والعرب لديهم نية للانفتاح على النظام.
أضاع بيدرسن عامين في اجتماعات عقيمة للجنة الدستورية
خيبة بيدرسن بعد دي ميستورا
لم يحصد بيدرسن سوى الخيبة حتى الآن، وهو في ذلك لا يبتعد عن سلفه ستيفان دي ميستورا، الذي استقال في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، بعدما أمضى في المهمة زهاء أربعة أعوام، عاصر خلالها التدخل العسكري الروسي في سبتمبر/ أيلول 2015، وشهد تحويل ملايين السوريين إلى حقول تجريب للأسلحة الروسية.
ومنذ وصوله إلى هذا المنصب في نهاية عام 2018، جرى تقديم بيدرسن على أنه سوف يتجاوز العقبات الكبيرة التي واجهها دي ميستورا، ويطلق دينامية مختلفة للملف السوري، ولكنه لم يسجل طوال الفترة التي أمضاها في هذا المنصب حتى الآن أي إنجاز، بل إنه أضاع عامين في اجتماعات عقيمة تعقدها اللجنة الدستورية السورية في جنيف من أجل كتابة دستور للبلاد، لم يخطّوا منه سطراً واحداً.
وحين أخذ يدرك أن الطريق مسدود أمامه، فإن المبعوث الأممي صار يعمل على تغيير الأسلوب كلياً، ويعقد الآمال على تحقيق اختراق ما، بالاعتماد على إرضاء روسيا وإيران من دون أن يخرج عن الخط الأميركي.
"خطوة مقابل خطوة" في سورية
ومن هنا ولدت مقاربة "خطوة مقابل خطوة"، التي لا تعود له حقوق ملكية اختراعها، بل إلى "مركز كارتر" الأميركي للأبحاث الذي أصدرها في يناير/ كانون الثاني 2021 تحت عنوان " الطريق نحو تحويل النزاع في سورية: إطار عمل لمقاربة مرحلية".
ومما جاء في المقاربة من مقترحات، القيام بخطوات تبادلية، منها الإعفاء من العقوبات لأنشطة النظام الخاصة بمواجهة فيروس كورونا، وتسهيل إعمار البنى التحتية المدنية على غرار المستشفيات والمدارس ومنشآت الري، وتخفيف تدريجي للعقوبات الأميركية والأوروبية، على أن يقوم النظام في المقابل بخطوات مثل إطلاق المعتقلين السياسيين، وتأمين العودة الآمنة والطوعية للاجئين، وحماية المدنيين، ووصول المساعدات من دون أي عوائق إلى كل المناطق، والتخلّص مما تبقى من الأسلحة الكيميائية بموجب اتفاق عام 2013، والانخراط في إصلاحات سياسية وأمنية.
ومن بين هذه الخطوات أيضاً، المشاركة الجدية للنظام في المسار السياسي في جنيف برعاية الأمم المتحدة، واعتماد المزيد من اللامركزية في ما يخص الأكراد.
وجرت إثارة مسألة "خطوة مقابل خطوة" خلال مناسبات عدة في الصيف الماضي. الأولى خلال اجتماع مجلس الأمن الدولي في الخامس والعشرين من يونيو/ حزيران الماضي. وفي كلمته أمام المجلس، تحدث بيدرسن عن هذه المقاربة من دون تفصيلات.
وقال: "فكرتي هي تعميق المشاورات المواضيعية الاستكشافية، التي تساعد على تحديد الخطوات الأولى، التي يمكن للأطراف السورية والدولية تقديمها".
وتوسع بيدرسن في تقديم الفكرة خلال اجتماع وزراء خارجية "المؤتمر الوزاري الموسع الخاص بسورية"، الذي عُقد في روما يوم الثامن عشر من الشهر ذاته، والذي شهد توافقاً أميركياً - روسياً على تجديد آلية إدخال المساعدات الدولية إلى سورية عبر المعابر.
وحدّد بيدرسن ثلاثة أسباب لطرح الموضوع أمام الاجتماع، وهي: الجمود الذي أصاب الخطوط الأمامية على امتداد 15 شهراً، والذي سبّب حالة تأزم عسكري استراتيجي، والانهيار الاقتصادي الذي خلق ضغوطاً ومخاوف جديدة، وأخيراً، تفهم جديد من الجميع أنه ليس بإمكان أحد إحراز نصر عسكري أو فرض نتيجة سياسية.
ونقل بيدرسن عدداً من مطالب النظام، بخصوص وجود قوات أجنبية والعقوبات وإعادة الإعمار، وطالب بتحديد الخطوات "في حال إقدام الطرف الآخر على اتخاذ خطوات ملموسة".
ونقطة البداية، بحسب بيدرسن، هي الشروع في مناقشات حول حزمة من "الخطوات الصغيرة الملموسة" بحيث تكون متبادلة ومتوازية، لتجاوز عقدة من يقوم بـ"الخطوة الأولى"، وحدّد مجالات عدة، مثل نزع التصعيد، ووقف إطلاق النار على مستوى البلاد، وعمليات مكافحة الإرهاب، وإجراءات بخصوص المحتجزين والمختطفين والمفقودين، وتخفيف حدة تداعيات الأزمة الإنسانية، والمساعدة في خلق المجال أمام عودة آمنة وطوعية وبكرامة للاجئين.
حصدت موسكو أولى ثمار الخطة الأردنية من خلال حلّ ملف جنوب سورية لمصلحة النظام
سورية و"اللاورقة" الأردنية
وفي المناسبة الثالثة، لقيت المقاربة دعماً قوياً، حينما تبناها ملك الأردن عبد الله الثاني خلال زيارته إلى واشنطن واجتماعه مع الرئيس الأميركي جو بايدن في الثاني والعشرين من يوليو/ تموز الماضي.
وطرح الملك الأردني في حينه ما عرف بـ"اللاورقة" الأردنية، التي قدمت "نهجاً" جديداً للحل في سورية، يستهدف "تغيير سلوك النظام تدريجياً، وتقديم حوافز له مقابل الإجراءات المطلوبة والتغييرات السياسية التي سيكون لها تأثير مباشر على الشعب السوري"، وأنه سيتم تحديد "العروض" للنظام بعناية مقابل "الطلبات" التي ستطرح عليه.
كما أن التركيز الأوّلي سيكون على القضايا الإنسانية في كل من العروض والطلبات، ثم يتم التقدم تدريجياً نحو القضايا السياسية التي تبلغ ذروتها في التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن رقم 2254.
وتتضمّن "اللاورقة" طلبات شبه تعجيزية، مثل خروج القوات الأميركية من سورية بعد مصالحة بين "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) والنظام، وأن يُخرج النظام إيران ومليشياتها من سورية بطلبٍ رسمي، وتنسحب "الفرقة الرابعة" للجيش السوري من الجنوب بضمانة روسية، ويعود عدد القوات الروسية في سورية إلى ما كان عليه قبل عام 2011. بالإضافة إلى عودة آمنة للاجئين، ووقف الاعتقال، وإخراج المعتقلين والسجناء السياسيين، والمصالحة مع المعارضة، والموافقة على تشكيل هيئة حكم انتقالية، وضمان المساءلة والتحقيق في التعذيب والانتهاكات.
طرح الملك مبادرته على واشنطن، وذهب إلى موسكو لإقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بها؛ رغم أن أحد بنودها ينسف كل ما بنته روسيا في سورية بشأن تعزيز وجودها العسكري في قاعدتي حميميم وطرطوس، ويضع حدّاً لمطامح توسيع نفوذها في الشرق الأوسط.
وغير ذلك، لا تستند المبادرة إلى السياسة الأميركية تجاه سورية، وهي بالضغط على روسيا لإيجاد صيغة أو حل للملف السوري، يحقق الشروط الأميركية، خصوصاً بشأن محاربة الإرهاب، وأمن إسرائيل، والالتزام بقرار مجلس الأمن 2254.
وكان ملك الأردن يريد للخطة أن تبدأ في الخريف الماضي، وبالفعل حصدت موسكو أولى ثمارها من خلال حلّ ملف الجنوب لمصلحة النظام وروسيا، إلا أن إبعاد مليشيات إيران و"الفرقة الرابعة"، بضمانة روسية، لم يحصل، عدا عن أن فتح معبر نصيب (بين سورية والأردن) بات طريقاً إضافياً لتهريب المخدرات، عبر الممرّات الشرعية، بالاستفادة من حركة الترانزيت وطرق الغشّ التي قد تخدع عناصر التفتيش من الجانب الأردني.
بيدرسن يتجاوز مهمته
وفي ختام مباحثاته مع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في يناير الماضي، صرح بيدرسن بأن لا أحد يتحدث عن تغيير النظام، ورأت المعارضة السورية في ذلك، أن المبعوث الأممي "تجاوز حدود مهمته" التي كلّفه بها مجلس الأمن، على حد تعبير المتحدث باسم "هيئة التفاوض السورية"، يحيى العريضي.
النظام يعتبر أن أي خطوة من طرفه في الاتجاه الذي يقترحه المبعوث الدولي هي تنازل مجاني
وكان المبعوث الأممي قد ذهب أبعد، عندما قال في حديث صحافي في نهاية العام الماضي، إن ممثلي روسيا وأميركا أبلغوه أنهم "مستعدون للانخراط" في مقاربة "خطوة مقابل خطوة".
وأضاف أنه يتشاور مع دمشق و"هيئة التفاوض" لترتيب عقد جولة جديدة لاجتماعات اللجنة الدستورية في الشهر الحالي تعقبها جلسات في كل شهر، وهو ما سينعكس إيجاباً على خطة "خطوة مقابل خطوة" وردم عدم الثقة بين الأطراف المعنية.
وعلى ذلك ردّ "الائتلاف الوطني السوري"، واعتبر في السابع عشر من ديسمبر الماضي أن "خطوة مقابل خطوة" لا تصب في صالح الحل السياسي الذي فُوّض المبعوث الدولي بتسييره، "ولكنها خطة تُحرّف مسار العملية السياسية عن وجهتها، وتصب بنتيجتها في سلّة النظام وإعادة تدويره".
تحتاج خطة بيدرسن كي تنجح إلى ساحر يستطيع تغيير قواعد الشأن السوري، وذلك لأسباب عدة، أهمها أن النظام وحلفاءه الروس والإيرانيين غير موافقين عليها، لأنهم يعتبرون أن النظام حقق النصر، وأن عملية إعادة تأهيله باتت على نار هادئة. وبالتالي فإن أي خطوة من طرفه في الاتجاه الذي يقترحه المبعوث الدولي هي تنازل مجاني.
إلا أنهم لن يكونوا الطرف المبادر إلى رفضها، وسيتعاطون معها من باب فقه المناورة كما حصل في اللجنة الدستورية التي استعملها الروس من أجل كسب الوقت وتمييع الحل الدولي. ولن يتأخر الوقت حتى تثبت التطورات أن مقاربة بيدرسن ناتجة عن فشل الأمم المتحدة في تقديم حل، والتسليم بأن النظام هو الحل.