"الكنيسة السينتولوجية" في فرنسا: منظمة روحية للاحتيال باسم الدين

23 مايو 2022
تظاهرة لأتباع الكنيسة في باريس ضد محاكمتها، نوفمبر 2011 (Getty)
+ الخط -

عاد الحديث مجدداً في فرنسا عما يعرف بـ"الكنيسة السينتولوجية" (كنيسة دراسة المعرفة أو البحث عن الحقيقة)، بعد أن اختارت لنفسها مقراً قرب "ستاد دو فرانس" في منطقة "سين سان دوني" وسط القرية الأولمبية، التي تبنيها فرنسا من أجل الألعاب الأولمبية في 2024.

وكانت آخر مقرات هذه المنظمة في وسط العاصمة باريس، في الدائرة السابعة عشرة. ولكن بعد التضييق عليها رسمياً تسللت إلى المبنى الضخم، الذي تقول صحيفة "لوموند" إنه تم شراؤه مقابل 33 مليون يورو.

وتعتزم المنظمة تحويل المبنى إلى مقرها الرئيسي الجديد في فرنسا. وتم التخطيط لقاعة تتسع لـ 700 مقعد، وغرف للدراسة والاجتماعات، وحتى حمامات "الساونا" من أجل "علاجات التطهير" الموصى بها للأعضاء.

أساليب ملتوية لـ"الكنيسة السينتولوجية" لجذب الأعضاء

وكانت هذه الكنيسة قد تراجعت بعد سلسلة محاكمات استمرت حتى العام 2017، تلت الاعتراضات الكثيرة عليها من أوساط دينية وثقافية، بسبب بعدها عن الدين في جوهره الرباني، واتباعها وسائل ملتوية في اجتذاب الأعضاء، بقصد الاحتيال المالي في الدرجة الأولى.


الكنيسة قائمة على خليط غير متجانس من تعاليم دينية، ومعتقدات مستندة إلى فلسفة علمانية

ونشأت هذه الحركة، أو الدعوة المغلفة بستار ديني في الولايات المتحدة، وامتدت إلى بقية أنحاء العالم. وهي قائمة على خليط غير متجانس من تعاليم دينية، ومعتقدات مستندة إلى فلسفة علمانية.

وتأسست "الكنيسة السينتولوجية" في العام 1952 من قبل المؤلف لافاييت رونالد هوبارد، الذي كان ضابطاً في البحرية الأميركية، واضطر للخروج من الخدمة في العام 1945 بعد إصابته بالعمى الجزئي والعرج خلال الحرب العالمية الثانية، ليجد نفسه مفلساً عاطلاً عن العمل.

ولكن لم يعترف بها كديانة مستقلة في أميركا إلا في العام 1973، على عكس فرنسا، حيث صنفها البرلمان في العام 1995 في عداد حركات "البدع" (سيكت). إلّا أن دولاً أخرى أعطت السينتولوجيين حقوقهم الكاملة في الزواج والاجتماع، لا سيما أفريقيا الجنوبية، وتنزانيا، وأستراليا، وإيطاليا، والسويد.

وأبرز مشاهير العالم الذين ينتمون إلى هذه الكنيسة الممثلان الأميركيان توم كروز وجون ترافولتا، والممثلتان جولييت لويس وكاثرين بيل.

نشاط "الكنيسة السينتولوجية" خلال الكوارث

واشتهرت هذه "الكنيسة" بنشاطها الكبير أثناء الكوارث الطبيعية والحوادث الإنسانية، خصوصاً خلال أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 و"التسونامي" في المحيط الهندي في 2004، والفيضانات التي اجتاحت ولاية "نيو أورليانز" الأميركية في 2005.

وتجمع الكتب والدراسات المنشورة حولها، على شبكة الإنترنت، على أنها تقوم على مجموعة من التعاليم الدينية والمعتقدات، تستند إلى فلسفة علمانية، أسسها في 1952 كاتب الخيال العلمي لافاييت رونالد هوبارد، ومن ثم أعاد صياغتها باعتبارها "فلسفة دينية تطبيقية" تهدف إلى إرساء "حضارة بلا جنون، بلا مجرمين وبلا حرب، حيث ينال كلّ شخص حقّه، فيستطيع الإنسان بلوغ أقصى ما يحلم به".

ويرى فيها كتاب "هدف السينتولوجيا" بديلاً عن مدرسة التحليل النفسي، فهي تفسر وتشرح القوانين الأساسية للحياة، وتبين أسباب تصرف الإنسان بطريقة ما دون غيرها، وتعرض بوضوح معوقات البقاء، وأن أفضل السبل لتذليل هذه المعوقات هو اتباع السينتولوجية.

ويقول الكتاب إن "الطريق الأمثل للوصول بالبشرية إلى السعادة والكمال هو عبر التخلص من المشاعر والأحاسيس (موطن ضعف وفشل الإنسان)، التي تجعل من تصرفاته وأفعاله غير قابلة للتنبؤ أو القياس، وبالتالي الوقوع في بئر القرارات الخاطئة المتهورة وغير المنطقية".

السينتولوجيا تسعى إلى "مكننة" الإنسان

ولهذا تسعى السينتولوجيا إلى "مكننة" الإنسان وعلاقاته الإنسانية على جميع المستويات (بدءا بالفرد وانتهاءً عند الدولة)، أي جعله يعمل ذاتياً بإتقان عمل "المكنات" الأوتوماتيكية أو الآلة الصناعية.

ويكون ذلك بممارسة وتطبيق العديد من القواعد والتمارين التي توفرها المنظمة لمكننة الحياة اليومية لأعضائها، كتمارين السير في أجواء وظروف معينة، والضحك، والصراخ، والسيطرة على تعابير الوجه وحركات الجسد، وغير ذلك من الأمور التي تساعد على تحقيق التلقائية ذات الدقة في العمل، وموت المشاعر والعواطف تدريجياً.


تسعى السينتولوجيا إلى "مكننة" الإنسان وعلاقاته الإنسانية على جميع المستويات

إلا أنّ أكثر ما أثار الجدل بشأن هذه المنظّمة الجديدة، كان ما أدلى به هوبارد نفسه في العام 1980 لمجلة "ريدرز دايجست" الأميركية، عن أن فكرة إنشاء دين جديد خطرت له، إثر نقاش مع صديق على حوض سباحة في الخمسينيات من القرن الماضي، عن أقصر الطرق للحصول على مليون دولار. فكان هوبارد واثقاً بأنّ إنشاء دين جديد "هو الحلّ الأنسب".

وقد توصل إلى هذا الاكتشاف بعد أن تعرض لكثير من الفشل، ولهذا أخذ يطور مهنته ككاتب للخيال العلمي، ويُغرق نفسه في قراءة الفلسفات والديانات الشرقية، وصار يبحث داخل الروح الإنسانية.

وادعى أنه استكشف العالم بحثاً عن القدرات الغامضة التي تحقق له القوة والقدرة للتغلب على جميع الصعوبات، وتضمن للبشرية تجسيد الأحلام وتحقيق السعادة الروحية المنشودة... فكانت فكرة الدين الجديد! (دين وضعي جديد) يأخذ بيد البشرية من أمواج الحزن وتيارات الفشل وصعوبات الحياة إلى شاطئ السعادة والمثالية في العيش.

وهذا ما تؤكده "الكنيسة السينتولوجية"، التي تصف نفسها بأنها "منظمة غير نفعية تسعى لإصلاح وإعادة تأهيل الروح الإنسانية". وارتفعت الأصوات في فرنسا أكثر من مرة، تدعو إلى وضع حد لهذه "البدعة" الخطيرة. وبُذلت جهود برلمانية وحزبية، وتحركت شخصيات رأي عام لوقف عمليات التلاعب التي تقوم بها "الكنيسة السينتولوجية" التي تمتلك مقرات علنية.

شخصيات فرنسية تحمي "الكنيسة السينتولوجية"

إلا أن المساعي كانت تصطدم بجدار من الممانعة الصلبة. وجرى الحديث، همساً وعلانية، عن شخصيات نافذة تبسط حمايتها عليها. وقد حامت الشبهات حول دور مؤثر للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، وذلك بعدما بثّت قناة "كانال بلوس" التلفزيونية الفرنسية الخاصة، تحقيقاً يتحدث عن علاقته بهذه المنظّمة.

وتضمّن التحقيق تذكيراً بالضغط الذي مارسه ساركوزي على الحكومة، حين كان وزيراً للداخلية، لتخفيف المراقبة التي تفرضها السلطة على "الكنائس السينتولوجية". كما أشار التحقيق إلى أنّه تم طرد أحد عناصر الشرطة المخوّلة متابعة هذا الملفّ.

من جهتها، صرّحت ناطقة إعلامية باسم المنظمة في فرنسا، خلال التحقيق، بأنّ "الوضع تحسّن كثيراً بالنسبة إلينا منذ أن تولّى ساركوزي وزارة الداخلية".

وأبعد من ذلك، دار جدل بشأن احتمال انتماء ساركوزي إلى "الكنيسة السينتولوجية"، وذلك بعد اللقاء الذي عقده في العام 2004، وكان وزيراً للمال آنذاك، مع الممثّل الأميركي توم كروز، الذي يعدّ الناشط الأبرز في هذه المنظّمة منذ أكثر من 20 عاماً. وبعد الزيارة، صرّح كروز بأنّ الحديث دار عن "السينما، الحياة العائلية والسينتولوجيا".

وجرى النظر في صورة مختلفة إلى اللقاء بين ساركوزي وكروز، بسبب الدور الهام الذي يلعبه الممثل الأميركي في الدعاية لهذه الهيئة. وحتى أن المؤرّخ الألماني غيدو كنوب، شبهه بـ"وزير البروباغندا النازي جوزيف غوبلز"، وذلك بعدما عُرض فيلم لكروز يخطب فيه في اجتماع للسينتولوجيين، ويهيّج الجماهير، وهو يضع ميدالية حُفر عليها شعار "الكنيسة السينتولوجية".

ولنفس الغرض زار كروز، في 14 يوليو/تموز 2019، باريس والتقى السيدة الأولى بريجيت ماكرون، ومن ثم الرئيس إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه.

ونفى الإليزيه أن تكون للاجتماع صلة بـ"الكنيسة السينتولوجية"، في حين كشفت مجلة "باري ماتش" أن المقابلة حصلت على انفراد. وشككت وسائل الإعلام الفرنسية بالزيارة، وربطت بين زيارة كروز لكل من ساركوزي وماكرون.


دار جدل بشأن احتمال انتماء ساركوزي إلى الكنيسة السينتولوجية

وكثيراً ما توقف الإعلام الفرنسي، خلال العقدين الماضيين، عند هذه المنظمة الغريبة عن حياة وتقاليد المجتمع الفرنسي، وجرى تقديمها في العديد من الريبورتاجات على أنها تضع نفسها فوق النقد.

إلا أنه لم يقم أحد بانتقاد "الكنيسة السينتولوجية" خلال العقدين الماضيين من دون أن يخضع للمقاضاة، أو للتهديد القضائي من قبلها. وبذلك برهنت على رفض النقد، أو أي اتهام يُضعف أو يخل بـ"قداسة" فكرها الديني وسياستها الغامضة.

وذلك في الوقت الذي اشتهرت فيه بتشجيع أتباعها على قطع كل صلاتهم بأهلهم وأصدقائهم غير المعتنقين للدين الجديد، ويكون ذلك بعد محاولات لإقناعهم بالدين والفكر السينتولوجيَين.

تورط "الكنيسة السينتولوجية" في ابتزاز أعضائها

ورغم الهالة الروحية والطهرانية التي تسبغها على نفسها، تبين في السنوات الأخيرة أن هذه الكنيسة تورطت في عدة قضايا في الولايات المتحدة وفرنسا وأوروبا، تدور في غالبيتها حول ابتزاز أعضائها، بهدف الحصول على أموالهم واستغلال سلطاتهم، إضافة لحالات وفاة غير طبيعية لبعض الأعضاء، مثل ليسا مكفيرسون، التي تعرضت للتشويه قبل وفاتها.

وضمن هذا السياق، تعرضت لسلسلة محاكمات بباريس، حيث قام عدد من الأعضاء السابقين بتوجيه التهمة إلى هذه المنظمة بالاحتيال، ووصفها بـ"العصابة المنظمة"، في إشارة لا تخلو من دلالة. وبالتالي مثل أمام المحكمة، على مدى سنوات، العديد من الشخصيات التي تدير الكنيسة، بالإضافة إلى مؤسسات تابعة لها.

وكان من الممكن حظر السينتولوجيا، بعد الإدانة النهائية لرابطتيها الرئيسيتين، بتهمة "الاحتيال المنظم" و"الابتزاز" و"الممارسة غير القانونية للطب".

ولكن بسبب تعديل القانون المدني، فإن المادة القانونية التي تسمح بحل جمعية مدانة بارتكاب مثل هذه المظالم قد اختفت من القانون الفرنسي، وهذا ما يشير إلى مسؤولية ساركوزي، الذي اعتبر هذه المنظمة "حركة روحانية"، وأن أتباعها يتعرضون للاضطهاد.

وتفسر أوساط فرنسية رسمية أن التراخي تجاه هذه الكنيسة وغيرها في الأعوام الأخيرة، يعود سببه إلى أن الأجهزة المختصة ركزت انتباهها على "التطرف الإسلامي"، وهذا ما سمح لها بالعودة للعمل من جديد من مقرها الجديد، بعد ارتفاع عدد منتسبيها إلى نحو يفوق النصف مليون، الأمر الذي صار حديث الإعلام الفرنسي منذ عامين.

المساهمون