مع بلوغ المخاوف من "غزو" روسي محتمل لأوكرانيا ذروتها في ظل تصاعد التحشيد العسكري وإعلان التعبئة العامة في مناطق الانفصاليين، رجّح كاتب روسي استمرار "الماراثون الدبلوماسي" على مسارين؛ بحث الجوانب السياسية للضمانات الأمنية، وتنفيذ اتفاقيات مينسك.
وقال الكاتب والباحث السياسي دميتري سوسلوف، في مقال له بموقع صحيفة "إزفيستيا" الروسية اليوم السبت، إنّ "استعراض العضلات العسكرية" من كل من روسيا والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، سيتواصل تزامناً مع المسار السياسي، لكنه أشار إلى أنّ "السيناريوهات المتطرفة"، التي تتضمن "غزو" روسيا لأوكرانيا واعتراف موسكو باستقلال "جمهورية دونيتسك الشعبية" و"جمهورية لوغانسك الشعبية"، فضلاً عن عودة الوضع إلى نموذج أكتوبر/تشرين الأول 2021، "تبدو غير مرجحة".
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، جرى تعليق الاتصالات المباشرة بين موسكو وحلف شمال الأطلسي، بعدما أعلن "الناتو" طرد ثمانية من أفراد البعثة الروسية لديه ووقف وظيفتين أخريين، بدعوى ممارسة هؤلاء الدبلوماسيين الروس "أنشطة عدائية مزعومة"، في حين ردت الخارجية الروسية في المقابل بتعليق عمل بعثتها لدى "الناتو" (تقلّصت من 20 إلى 10 أشخاص) لفترة غير محددة، بالإضافة إلى تعليق عمل بعثة الحلف العسكرية للاتصال في موسكو.
ووصف الكاتب إعلان روسيا، بعد يومين من إرسال ردّها إلى الولايات المتحدة بشأن الضمانات الأمنية، عن تدريبات ردع استراتيجية واسعة النطاق تشمل قوات الصواريخ الاستراتيجية، وقوات الفضاء، وأسطولي بحر الشمال والبحر الأسود، ودعوة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو لحضورها، بأنّه "جزء من الرد العسكري التقني" الذي تحدثت عنه مرات عديدة.
ورأى سوسلوف أنّ هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسة حول المسارين العسكري والسياسي، لا سيما لناحية ملف الضمانات الأمنية، أولها أنّ روسيا لا ترى أنّ مطالبتها بأن يتخلّى "الناتو" بشكل قاطع ودائم عن إمكانية التوسع بضم أوكرانيا "أمر غير عملي"، مرجحاً أن تستمر المفاوضات حول هذا الموضوع في المستقبل القريب، وقد تكون مصحوبة بمحادثات حول القضايا العسكرية (الصواريخ متوسطة المدى والدفاع الصاروخي)، لكن التقدم في هذه القضايا "لن يكون ممكناً إلا إذا كان هناك تقدم بشأن القضايا السياسية الرئيسية"، بحسب الكاتب.
وقال إنّ هذا الطلب الروسي لا ينتهك بأي حال من الأحوال المبدأ المعلن في ميثاق باريس لأوروبا الجديدة (تُوجت هذه العملية بإعادة تسمية مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا ليصبح منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عام 1995)، والذي يعتبر الغرب بأنه "مقدس"، وبموجبه، يحق للدول أن تختار بحرية طرق ضمان أمنها، بما في ذلك الانضمام للكتل العسكرية، ولا سياسة "الباب المفتوح" لـ"الناتو" على أساس المادة 10 من معاهدة شمال الأطلسي، معتبراً أنّ تأكيد الغرب عكس ذلك هو "نفاق وتفسير متعمّد للمبادئ لصالحه".
وأوضح أنّ هذه المواثيق "لا تلزم الناتو بأن يضم في عضويته جميع الدول التي تشير إلى الرغبة في الانضمام إليه، ولا تضمن حق هذه الدول في الانضمام"، بل تكتفي بضمان حق البلدان في الإعلان بحرية عن رغبتها بذلك من دون تحقيقه بالضرورة. ولفت إلى أنّ جميع القرارات المتعلقة بالتوسع تتخذ فقط من قبل دول "الناتو" نفسها (وقبل كل شيء الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة داخل الحلف) "بناءً على مصالحها الخاصة وكيف سيؤثر هذا التوسع على أمنها، وليس على أساس السياسة الخارجية، وتطلعات الدول المعلنة عن رغبتها في الانضمام".
ورأى أنّ الحجة الغربية بأنّ الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لا يمكنهما التراجع عن وعدهما بضم دول معينة، قد يمكن استثناء أوكرانيا منها، إذ عادة يلتزم الخصوم باحترام "الخطوط الحمراء" بعضهم لبعض (حتى لو اعتبروها غير شرعية)، وتعديل سياساتهم وفقاً لذلك "لتجنّب الحرب".
واعتبر أنّ استمرار الضغط الدبلوماسي، المصحوب باستعراض القوة العسكرية و"الاستعداد لاستخدامها إذا لزم الأمر"، يمكن أن يوفر في النهاية "نتيجة مقبولة" لروسيا بشأن قضية توسيع "الناتو"، مرجحاً في الوقت عينه ألا تتخلى الولايات المتحدة و"الناتو" عن سياسة "الباب المفتوح" تجاه أوكرانيا، "إلا إذا كانت تكاليف هذه السياسة (العسكرية والجيوسياسية والأمنية) ستتجاوز الفوائد بشكل واضح".
وشدد على أنّ روسيا، وكما تظهر التصريحات الرسمية لدوائر القرار، مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية بشأن أوكرانيا، إذا تم إغلاق قضية انضمامها إلى "الناتو" بشكل نهائي، مؤكداً أنّه لا يمكن استبعاد أن تناقش موسكو "خيارات أكثر مرونة وأقل إيلاماً لحلف الناتو"، لمنع أوكرانيا من الانضمام إلى الحلف، ومنها عودة كييف إلى "خيار الحياد"، المقبول على ما يبدو من مختلف الأطراف، بما في ذلك روسيا.
أما السيناريو الثاني، فيتمثل بمنح روسيا الغرب فرصة أخرى للضغط على أوكرانيا لحملها على تنفيذ اتفاقيات مينسك، لا سيما بعد المفاوضات التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز في موسكو، موضحاً أنّ تحوّل أوكرانيا إلى دولة لامركزية تتمتع بدرجة عالية من الحكم الذاتي الإقليمي مع وضع خاص لمنطقة دونباس، والتي لم يعد من الممكن إجبارها على مناهضة روسيا، سيكون حلاً مقبولاً لموسكو.
ورأى الكاتب في هذا الإطار أنّ دعوة مجلس الدوما للاعتراف باستقلال "جمهورية دونيتسك الشعبية" و"جمهورية لوغانسك الشعبية" هي "وسيلة ضغط إضافية" على كييف وباريس وبرلين من أجل الدفع بتنفيذ مسار مينسك، مقرّاً في الوقت عينه بأنّ مثل هذا الاعتراف ستكون له نتائج عكسية بالنسبة لموسكو، مفادها بأنّ أوكرانيا لن تتوحد بشكل أكبر إلا على أساس مناهضة روسيا.
وأوضح أنّ موسكو تنطلق، في هذا السيناريو، من حقيقة مفادها بأنّ كل الحديث عن عدم قدرة كييف على الامتثال لاتفاقيات مينسك بسبب القيود السياسية الداخلية "هو خطاب شرير"، ولا يستخدم إلا ذريعةً لـ "التخريب" المستمر من جانبها، مشيراً إلى أنّ أوكرانيا "تعتمد وجودياً تقريباً على الغرب؛ مالياً واقتصادياً وسياسياً، وإذا استخدمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هذه الموارد ولو قليلاً، فإنّ كييف ستفي بالتزاماتها بأفضل طريقة ممكنة، إذ سيكون البديل أمامها الانهيار التام".
ورأى أنّ المشكلة هنا هي أنّ الغرب لا يزال يفتقر إلى الإرادة السياسية لممارسة الضغط المناسب على أوكرانيا، وهذا يعني، في المقابل، الاستمرار في الضغط على روسيا نفسها، "ما يدل على أنّ الضرر السياسي الذي ستعاني منه الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، نتيجة الانهيار التام لاتفاقيات مينسك، سيكون أكبر من الصعوبات التي سيتعين التغلب عليها من أجل ممارسة تأثير أقوى على كييف".
ويتمثل السيناريو الثالث في تواصل الضغط الروسي على كل من "الناتو" وأوكرانيا، مذكّراً بأنّ تاريخ العلاقات الروسية الغربية، خلال السنوات الثلاثين الماضية بشكل عام، والأسابيع الأخيرة على وجه الخصوص، لا يضمن للمرء أن يعتمد على التقدّم في المفاوضات. وفي هذا الصدد، اعتبر أنّ مناورات القوات الاستراتيجية الروسية "خطوة منطقية وضرورية"، فضلاً عن "ضرورة" استمرار وجود القوات الروسية بالقرب من الحدود مع أوكرانيا.
قد يتمثل التهديد الرئيسي لتنفيذ سيناريو استمرار المفاوضات، بالتزامن مع الضغط العسكري، في قرار كييف شنّ عمليات عسكرية واسعة النطاق ضد "جمهورية دونيتسك الشعبية" و"جمهورية لوغانسك الشعبية"، بحسب الكاتب، معتبراً أنّ أوكرانيا ربما توصلت إلى استنتاج "خطير"، مفاده أنّه نظراً لعدم حدوث "الغزو" الروسي الذي رجّح بايدن حدوثه في 16 فبراير/شباط، وعدم قدرة الغرب على ممارسة الضغط اللازم (بل إن البعض في الغرب يشجعون كييف على التصرف بشكل أكثر حسماً)، فإنها قادرة على القيام بأي شيء من دون خوف من انتقام عسكري من موسكو، وقد يعكس التصعيد الجديد في الدونباس هذا المنطق.
وختم سوسلوف بالقول "لا يسعنا إلا أن نأمل أن تكون واشنطن وعواصم أوروبا الغربية قادرة على مدّ يد المساعدة لأوكرانيا في الوقت المناسب"، معتبراً أنّ الدرس المستفاد من الإجلاء الجماعي لأفراد الدبلوماسية الغربية من كييف، تحت تأكيدات من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بأنهم لن يخوضوا حرباً مع روسيا في حالة "غزوها" أوكرانيا، "لم يكن عبثاً".