جدل الحرّية والمسؤولية في تونس

07 مارس 2019
+ الخط -
في وقت يشهد فيه النظام الديمقراطي عموما، وواقع الحرّيات خصوصا، حالة من الانحسار والتراجع عربيّا ودوليّا، تصدّرت تونس للمرّة الثالثة على التوالي المرتبة الأولى عربيا في مؤشّر الحرّيات لعام 2018، بحسب التقرير الصادر عن منظمة فريدوم هاوس الأميركية غير الحكوميّة. واستند التقرير، في اعتباره تونس دولة حرّة، إلى تطوّر أوضاع الحرّيات العامّة والخاصّة في البلاد، ووجود ميلٍ عام إلى احترام الدستور والقبول بمقتضيات العملية الديمقراطية في إدارة الشأن العام. ومع أهمّية التمكين للحرّية في سياق تونسي، فإنّ ذلك يستدعي، في الوقت نفسه، التمكين للشعور بالمسؤولية، ولثقافة إدارة الحقوق وممارستها بطريقةٍ لا تضرّ بالآخر، ولا تعتدي على الصّالح العام. كما يقتضي إعلاء الحرّية تعميم الحوكمة، وتحسين الجانب المعيشي للمواطنين، حتّى يمارسوا حرّيتهم في كنف العدالة والنزاهة والرّفاه.
يُدرك المتابع للشأن التونسي، قبل الثورة وبعدها، أنّ البلاد عرفت تحوّلا حقوقيّا نوعيّا بعد سقوط الدكتاتور المخلوع زين العابدين بن علي. فانتقلت تونس بعد2011 من حيّز الأحاديّة إلى رحاب التعدّدية وتحرّر النظام السياسي من أتون الحكم الفرْدي، لينفتح على تمرين التداول السلمي على السلطة. واحتكم المواطنون إلى صناديق الاقتراع، لاختيار ممثّليهم في مجلس نوّاب الشعب، وفي مؤسّسة الرّئاسة، وفي المجالس البلديّة في أجواء انتخابية غلبت عليها النزاهة والشفافية بشهادة منظمات حقوقية موثوقة. وتمّت على التدريج عمليّة دسترة الحقوق والحرّيات، وترجمتها ولو نسبيّا إلى واقع يحياه النّاس، فالمواطن بعد الثورة يمارس حقّه في التعبير والتنظّم، والتجمّع والتظاهر ضدّ سياسات النظام الحاكم. ويمارس حقّه في التحزّب والتديّن من عدمه، بموجب حرّية الضمير. وينصّ دستور 2014 على المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، وتوفير أسباب المحاكمة العادلة. ويحظُر التعذيب والتمييز بكل أشكالهما. ويفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، فلكلّ جهاز من أجهزة الدولة حدوده المعلومة وصلاحياته المخصوصة. والعلاقة بين السلطات المذكورة تنبني على التجاور والتواصل والتعاون، لا على منطق الاستتباع والهيمنة، فكلّ سلطة تتمتّع بقدرٍ معتبر من الاستقلالية. ومعلوم أن هذا التوجّه نحو الاعتراف بالحقوق والحريات وتضمينها في المدونة الدستورية، والعمل على مأسستها وتنزيلها في الواقع، عزّز حظوظ تونس في الالتحاق بمصاف الدول الديمقراطية، وأتاح لها الحصول على 69 نقطة من مجموع مائة نقطة في مؤشّر الحرّيات.
ولكنّ ما حققته تونس من تقدّم في مجال الحرّيات يبقى مهدّدا بعدّة تحدّيات، منها، بحسب 
"فريدوم هاوس"، عودة وجوه النّظام القديم وتصدّرهم المشهديْن، الإعلامي والسياسي، وسعيهم المحموم إلى إعادة البلد إلى الخلْف، فقد استغلّ هؤلاء مناخ الحرّية لينشئوا أحزابا وجمعيات ومنابر إعلامية، تحوم حول تمويلها شبهاتٌ، وتنشغل بتبييض الدكتاتورية، وشيطنة الثورة، وتيئيس النّاس من الديمقراطية، كما أنّ تمديد حالة الطوارئ، وسطوة الأجهزة الأمنية واستهداف بعض الأطراف استقلالية القضاء، وتجاوز السلطة التنفيذية، في بعض الأحيان، الصلاحيات المنسوبة إليها دستوريا، يعطل ذلك كله السيرورة الديمقراطية، ويُعزّز من إمكان حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان.
يُضاف إلى ذلك أنّ تشكيل المحكمة الدستورية ما زال مؤجّلا، والحال أنّها إحدى الضمانات الأساسية لضمان تطبيق محامل الدستور، والحدّ من سطوة السلطة. ويؤثّر هذا التأجيل المتعمّد سلبا على مسارات العدالة، وعلى جهود حوكمة الانتقال الديمقراطي في تونس. وفي سياق آخر، تُنذر محدوديّة الوصل بين الحرّية والمسؤولية في الوعي الجمعي التونسي بتهديد المنجز الديمقراطي. ذلك أنّ بعضهم يُسيء فهم الحرّية، إذ يعتبرها فرصة للتجرّد من كلّ إكراهات الواجب، ومقتضيات العيش المشترك، فينصرف إلى الاحتجاج بطريقة فوضوية/ عشوائية، عنيفة أحيانا على نحو يضرّ بالممتلكات العامّة والخاصّة، ويُعطّل نسق العمل والإنتاج، وذلك على خلفية مطالب جهويةٍ أو قطاعيةٍ ضيّقة. فيما يركب آخرون الحرّية للتأسيس للذّات عبر إلغاء الآخر، فتراهم يرفضون التنسيب والغيرية، ويدّعون امتلاك الحقيقة واحتكارها، وينسبون إلى أنفسهم صفات الكمال، والنضال، ورجاحة العقل، ويعدّون المخالف متخلّفا بل عدوّا يجوز تسفيهه وتهميشه وترهيبه. ويؤدّي ذلك عمليّا إلى نشر الكراهية، وثقافة الإقصاء والإقصاء المضادّ، وهو ما يتعارض مع فلسفة الاختلاف وروح التسامح، ويُنذر بتهديد السلم الاجتماعي وتقويض البناء الديمقراطي. لذلك من المهمّ بمكان تحصين الحرّية بضوابط المسؤولية، واحترام الآخر، ومراعاة الصالح العام.
والثابت أنّ الحرّية وحدها لا تكفي لإسعاد النّاس وصناعة الرّبيع الديمقراطي في بلد ما، ذلك أنّ الحاجة أكيدة لرفد الحرّية بالتنمية، ووصل ثقافة الحقّ بثقافة الواجب، وتوفير الظروف المناسبة التي تحفّز على العمل والإبداع، وتمكّن من اكتشاف طاقات الفرد، ومهاراته وتوظيفها في تحقيق التنمية الشاملة/ المستدامة. وتحويل المنجز الحقوقي إلى منجز تنموي شامل مسؤولية مشتركة بين الحاكم والمحكوم، فأجهزة الدولة الرسمية مطالبة بترسيخ احترام الحرّيات، وتكريس اللامركزية، وتأمين توزيع عادل للثروة، وتوفير خدمات القُرب للمواطنين
 مع العمل على وضع برامج اقتصادية ناجعة، لا تهدّد النّاس في قوتهم، بل تضمن لهم أسباب العيش الكريم، وتجعلهم ينعمون بالحرّية والرّخاء في آن، حتّى يُدركوا أهمّية العائد المادّي والقيمي لمشروع الدمقرطة. ومن المهمّ في سياق متّصل مقاومة التمثّل المغلوط للحرية، القائم على التنصّل من المسؤولية. ومن تجلياته التعسّف في استخدام السلطة، وإهدار المال العام، والإفلات من العقاب، والانخراط في دوائر الإقصاء والتعصّب، والتهرّب الضريبي. ويُفترض أن تضطلع مكوّنات المجتمع المدني بدورٍ حيويٍّ في نشر ثقافة الحرّية والمسؤولية، وتوعية المواطنين بحتمية احترام الآخر، وأهمّية الانتماء إلى فضاء عمراني متنوّع. ذلك أنّ الاختلاف حرّية، و"الحرية جوهر كينونة الإنسان"، على حدّ تعبير جان جاك روسو.
يمكن القول، ختاما، إنّ تركيم الحرّيات بعد الثورة أدّى إلى تحرير الفعل الاحتجاجي والعقل النقدي في تونس، وأنتج حالة من التعدّد والتحرّر، اتسع معها مجال الاختيار، وأصبح معها المواطن فاعلا حيويا في المجال العام، غير ملحقٍ بالحاكم، وغير ملزم بإكراهات الحزب الواحد. بل يمتلك إرادته، ويختار نمط عيشه، ويرسم مصيره بالطريقة التي يريد، شرط ألاّ يتجاوز حدود القانون. وفي ذلك تعزيزٌ لمبدأ المواطنة في بعده الجوهراني. وهو مبدأ يقتضي احترام الآخر والحفاظ على الصالح العام، ورفد الحرية بالمسؤولية عملا بمقولة: "أنا حرّ، إذن أنا مسؤول".
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.