30 اغسطس 2024
رأس المال الاجتماعي السوري.. التشظّي والانحراف
يُراكم البشر، في اجتماعهم، حزمةً من الموارد والثروات المادية والرمزية التي تشكّل رأس مال الجماعة، ويمتلك الاجتماع البشري المقدرة على تكوين رأس المال الاجتماعي ومراكمته نتيجةً لتقوية شبكات الثقة التي يبنيها البشر في ما بينهم، من ثمّ يمكن أن يتم استثماره لخدمة الهدف والغاية الوجودية التي تحدّدها الجماعة لنفسها. وللتمهيد للموضوع والاقتراب أكثر من المفهوم، تُستحضر هنا واقعتان مختلفتان، من الهند ورواندا، لتوصيف نوعين متمايزين من ماهية رأس المال الاجتماعي، وكيفية استثماره. تستند الواقعة الأولى إلى استنتاج الكاتب أشوتوش فارشني، في أثناء بحثه عن وصفة السلام السحرية التي حافظت على بعض المدن الهندية بعيدةً عن النزاع الإسلامي الهندوسي. واستنتج فارشني أن الوصفة تكمن في وجود شبكات ثقة اجتماعية في هذه المدن، تتجاوز البعد الديني، مثل شبكات الأعمال التجارية، ومجموعات القراءة في المكتبة المحلية، وهواة ركوب الدرّاجة، وغيرها من الشبكات الاجتماعية التي ضمّت مسلمين وهندوسا، وجمعتهم بروابط تميل إلى العقلانية والمدنية والفردانية بدل الدينية. في هذا المثال، ساهم رأس المال الاجتماعي في إنقاذ المدن من نزاعٍ مسلح، وهذه صورة لأحد الأوجه الإيجابية للمفهوم. أما في الواقعة الثانية التي نستحضرها فذلك التضامن الكبير الذي تولّد بين أفراد قبيلة "الهوتو" في رواندا، نتيجة التلاعب بخوفهم وكرههم "التوتسي"، قبيل الإبادة الجماعية وخلالها والعكس. وارتبط مرتكبو المجزرة بروابط تستند إلى فعل القتل الذي يقومون به متعاونين ومتضامنين، ما شكَّل لديهم وحدة مصير، ومشاعر جعلتهم يركّزون على مشتركاتهم وأهدافهم المشتركة في قتل الآخر المختلف، وهذا ما تُحيل إليه معاني تسمية تنظيماتهم المسلحة، مثل "أنتراهاومي"، والتي تعني "الذين يرتبطون بعضهم ببعض".
تراكمَ رأسُ مالٍ اجتماعي في كلٍ من الواقعتين، في الأولى تم بناؤه على أسسٍ مدنية واعتبارات جمالية، تستند، في العمق، إلى تشارك مجموعة من القيم الأخلاقية الناتجة عن القيام بنشاط إنساني متطوّر بشكل جماعي، بما يناسب نمط التفكير المدني، من ثم يصلح لبناء الوطن والإنسان، ويجنّب الأفراد النزاعٍ المسلح القاتل، ويتّسم بقابلية التطوّر ليصنع رأس المال الوطني ويراكمه. وفي الثانية، جاء نتيجةً لنمط التفكير "التشبيحي"، وبناء الكراهية والحقد، من ثم "التعفيش" والقتل والمجازر، وهو الذي يضمن استمرار الحروب أطول فترةٍ ممكنة، ويؤدي إلى انحرافات رأس المال الوطني، فيتم تسويق القتل بوصفه واجبًا مدنيًا ووطنيًا أو دينيًا، كما حصل في رواندا، وكما يحصل في سورية اليوم، حيث تم إقناع "الشّبيح" بأنه يقوم بواجب وطني، وإقناع مقاتلي حزب الله بأنهم في مهمةٍ جهادية. وقس على ذلك لمقاربة حجم تراكم رأس المال الاجتماعي القاتل، فرأس المال الاجتماعي، على عكس رأس المال المادي، يزيد عندما يتم استهلاكه، وينضب إذا توقفنا عن استهلاكه. يمكن وفق هذه المقاربة رصد المجموعة الآتية من أنواع رأس المال الاجتماعي المتراكمة بنسبٍ متفاوتة في سورية اليوم:
أولًا: رأس مال اجتماعي علوي سياسي: وهو ليس حكرًا على العلويين، ولا يشملهم جميعًا، بل هو رأس المال الذي يستند إلى اختطاف الطائفة العلوية واحتلالها، ثم إضافة محتواها بعد الاختطاف إلى المنظومة الأمنية، الأمر الذي يبني عصبيّة الطغمة الحاكمة. يموّل هذا النوع استثمارات النظام، بوصفه الرابح الأساسي من تراكمه؛ وهو الذي يضمن استمرار القتل تحت التعذيب، وتحت البراميل، وبأبشع الصور، وبوصفها واجباتٍ وطنيةً لحماية سورية الأسد.
ثانيًا: رأس مال اجتماعي مخصّص للحرب، وهو الجناح التنفيذي والمقاتل من النوع الأول، ويراكم روابط إضافية، تتكون من فعل القتل المشترك، والتضامن من أجل "تطهير الوطن من الأعداء". ويمكن أن نسميه رأس المال "الإنتراهاومي السوري".
ثالثًا: رأس مال إرهابي، يتشكل بين أعضاء التنظيمات التي تنتج الدين "المحض" الذي ينفصل عن كل إسناد ثقافي، فيؤدي إلى انعدام الانتماء الوطني، وتكون الصيغة الأكثر تطوراً لهذا الفصل بين الدين وثقافته هي إنتاج منهج ديني، لا يشترط معرفة أتباعه به: أي لا يعزّز المعرفة شرطاً للخلاص، بل يكفي التقديس والانتماء إلى هذا الدين المنزوع من ثقافته، لنيل الخلاص السرمدي. مثل تنظيم داعش وجبهة النصرة وما إليهما.
رابعًا: رأس المال الاجتماعي المغلق: هو رأس المال المتراكم في تجمعاتٍ مثل الدروز، حيث يشكلون عصبية ثقافية متماهية مع الدين، ومثل الأكراد، حيث يشكلون عصبية إثنية. وتستطيع تلمس طبيعة هذا الانغلاق وذهنية هذه التجمعات من خلال الرسائل الركيكة التي دارت بين هاتين الجماعتين المغلقتين على خلفية ارتكاب "داعش" مجزرةً في قرى السويداء الشرقية أخيرا، حيث وصف بيان لقوات سورية الديمقراطية (قسد) هجوم "داعش" على السويداء بأنه "يستهدف الثقافة الدرزية"، ووصف السوريين في السويداء بـ"شعب السويداء"، وكأنه يخاطب شعب دولةٍ أخرى. وبالطبع، ليس هذا بالضرورة، لأنهم ينظرون إلى سكان السويداء بأنهم شعب، بل لأنهم يرون في أنفسهم "شعبًا" تنقصُه دولة، ويجدون في توصيف شعب السويداء خدمةً لهذه الفكرة، وقد عرضت "قسد" لاحقًا مبادلة مخطوفي السويداء بأسرى لديهم من تنظيم داعش. وردّت مشيخة العقل باسم "شعب السويداء"، وأثنت على ما هو "مكتوبٌ في أسفار مجد الأكراد ونخوتهم"، حسب تعبير البيان، ثم عبروا عن تضامنهم مع كوباني (عين العرب)، وحرصهم على تحريرها من الأتراك، "أوغاد هذا الزمان" بحسب تعبيرهم.
خامسًا: رأس المال الأقلوي المستند إلى الطائفة أو الدين، ونجده عند بعض الجهات التي تحاول مأسسة الانتماء إلى دين أقلوي، مثل المسيحية، أو عند القوميات التي تعرّف نفسها بمزيج إثني ومسيحي لا ينفصل، وكذلك عند مؤسساتٍ مثل مؤسسة الآغا خان التي تعمل بين الإسماعيليين.
سادسًا: رأس المال الاجتماعي المؤدلج الذي يجمع الواهمين، ومنهم (اليسار التقليدي المنفعل المغيب عن الواقع، وهؤلاء الساخطون على كل شيء، والغاضبون دائمًا، والمرضى بالثقافة الغربية.. إلخ) وهذا النوع ضعيف مهما تراكم، لا يصلح لاستثماراتٍ أكبر من إطلاق عيارات صوتية.
سابعًا: رأس المال المدني، الوطني الذي يستند إلى ارتباطاتٍ مدنيةٍ تقبع خلفها معايير جمالية ووطنية، وتكمن المشكلة في صعوبة استهلاك هذا النوع من رأس المال الاجتماعي، في ظل وجود الأنواع السابق ذكرها، ومن ثم تأتي الصعوبة في مراكمته في هذا الوقت، على الرغم من أنه ما زال قادرًا على التعبير عن نفسه، ويمكن قراءة هذا التعبير بوضوحٍ يدعو إلى التفاؤل في أحيان كثيرة، منها مثلًا ذلك التضامن والمشاعر الوطنية التي سادت أخيرا في نعي الفنانة السورية مي سكاف.
هذا بعض ما يرى صاحب هذه السطور الأكثر وضوحًا من أنواع رأس المال الاجتماعي في سورية، وقد تضخّمت هذه الأنواع الستة الأولى نتيجة ضمور الأخير أو انحرافه، لذلك تكون الخاتمة المنطقية لهذه المقاربة على شكل سؤال مهم، كل السوريين مطالبون بالإجابة عنه، وخصوصًا "النخبة السياسية": كيف نبني مؤسساتٍ سياسية ومدنية، تؤدي إلى إعادة بناء رأس مال اجتماعي سوري وطني ومراكمته؟ أي بصيغة أخرى، كيف نستثمر بالقليل الموجود من رأس مال سوري وطني، من ثم نراكمه ونخزّنه إلى الحد الكافي لوقف الحرب وتحقيق السلام على أقل تقدير؟
تراكمَ رأسُ مالٍ اجتماعي في كلٍ من الواقعتين، في الأولى تم بناؤه على أسسٍ مدنية واعتبارات جمالية، تستند، في العمق، إلى تشارك مجموعة من القيم الأخلاقية الناتجة عن القيام بنشاط إنساني متطوّر بشكل جماعي، بما يناسب نمط التفكير المدني، من ثم يصلح لبناء الوطن والإنسان، ويجنّب الأفراد النزاعٍ المسلح القاتل، ويتّسم بقابلية التطوّر ليصنع رأس المال الوطني ويراكمه. وفي الثانية، جاء نتيجةً لنمط التفكير "التشبيحي"، وبناء الكراهية والحقد، من ثم "التعفيش" والقتل والمجازر، وهو الذي يضمن استمرار الحروب أطول فترةٍ ممكنة، ويؤدي إلى انحرافات رأس المال الوطني، فيتم تسويق القتل بوصفه واجبًا مدنيًا ووطنيًا أو دينيًا، كما حصل في رواندا، وكما يحصل في سورية اليوم، حيث تم إقناع "الشّبيح" بأنه يقوم بواجب وطني، وإقناع مقاتلي حزب الله بأنهم في مهمةٍ جهادية. وقس على ذلك لمقاربة حجم تراكم رأس المال الاجتماعي القاتل، فرأس المال الاجتماعي، على عكس رأس المال المادي، يزيد عندما يتم استهلاكه، وينضب إذا توقفنا عن استهلاكه. يمكن وفق هذه المقاربة رصد المجموعة الآتية من أنواع رأس المال الاجتماعي المتراكمة بنسبٍ متفاوتة في سورية اليوم:
أولًا: رأس مال اجتماعي علوي سياسي: وهو ليس حكرًا على العلويين، ولا يشملهم جميعًا، بل هو رأس المال الذي يستند إلى اختطاف الطائفة العلوية واحتلالها، ثم إضافة محتواها بعد الاختطاف إلى المنظومة الأمنية، الأمر الذي يبني عصبيّة الطغمة الحاكمة. يموّل هذا النوع استثمارات النظام، بوصفه الرابح الأساسي من تراكمه؛ وهو الذي يضمن استمرار القتل تحت التعذيب، وتحت البراميل، وبأبشع الصور، وبوصفها واجباتٍ وطنيةً لحماية سورية الأسد.
ثانيًا: رأس مال اجتماعي مخصّص للحرب، وهو الجناح التنفيذي والمقاتل من النوع الأول، ويراكم روابط إضافية، تتكون من فعل القتل المشترك، والتضامن من أجل "تطهير الوطن من الأعداء". ويمكن أن نسميه رأس المال "الإنتراهاومي السوري".
ثالثًا: رأس مال إرهابي، يتشكل بين أعضاء التنظيمات التي تنتج الدين "المحض" الذي ينفصل عن كل إسناد ثقافي، فيؤدي إلى انعدام الانتماء الوطني، وتكون الصيغة الأكثر تطوراً لهذا الفصل بين الدين وثقافته هي إنتاج منهج ديني، لا يشترط معرفة أتباعه به: أي لا يعزّز المعرفة شرطاً للخلاص، بل يكفي التقديس والانتماء إلى هذا الدين المنزوع من ثقافته، لنيل الخلاص السرمدي. مثل تنظيم داعش وجبهة النصرة وما إليهما.
رابعًا: رأس المال الاجتماعي المغلق: هو رأس المال المتراكم في تجمعاتٍ مثل الدروز، حيث يشكلون عصبية ثقافية متماهية مع الدين، ومثل الأكراد، حيث يشكلون عصبية إثنية. وتستطيع تلمس طبيعة هذا الانغلاق وذهنية هذه التجمعات من خلال الرسائل الركيكة التي دارت بين هاتين الجماعتين المغلقتين على خلفية ارتكاب "داعش" مجزرةً في قرى السويداء الشرقية أخيرا، حيث وصف بيان لقوات سورية الديمقراطية (قسد) هجوم "داعش" على السويداء بأنه "يستهدف الثقافة الدرزية"، ووصف السوريين في السويداء بـ"شعب السويداء"، وكأنه يخاطب شعب دولةٍ أخرى. وبالطبع، ليس هذا بالضرورة، لأنهم ينظرون إلى سكان السويداء بأنهم شعب، بل لأنهم يرون في أنفسهم "شعبًا" تنقصُه دولة، ويجدون في توصيف شعب السويداء خدمةً لهذه الفكرة، وقد عرضت "قسد" لاحقًا مبادلة مخطوفي السويداء بأسرى لديهم من تنظيم داعش. وردّت مشيخة العقل باسم "شعب السويداء"، وأثنت على ما هو "مكتوبٌ في أسفار مجد الأكراد ونخوتهم"، حسب تعبير البيان، ثم عبروا عن تضامنهم مع كوباني (عين العرب)، وحرصهم على تحريرها من الأتراك، "أوغاد هذا الزمان" بحسب تعبيرهم.
خامسًا: رأس المال الأقلوي المستند إلى الطائفة أو الدين، ونجده عند بعض الجهات التي تحاول مأسسة الانتماء إلى دين أقلوي، مثل المسيحية، أو عند القوميات التي تعرّف نفسها بمزيج إثني ومسيحي لا ينفصل، وكذلك عند مؤسساتٍ مثل مؤسسة الآغا خان التي تعمل بين الإسماعيليين.
سادسًا: رأس المال الاجتماعي المؤدلج الذي يجمع الواهمين، ومنهم (اليسار التقليدي المنفعل المغيب عن الواقع، وهؤلاء الساخطون على كل شيء، والغاضبون دائمًا، والمرضى بالثقافة الغربية.. إلخ) وهذا النوع ضعيف مهما تراكم، لا يصلح لاستثماراتٍ أكبر من إطلاق عيارات صوتية.
سابعًا: رأس المال المدني، الوطني الذي يستند إلى ارتباطاتٍ مدنيةٍ تقبع خلفها معايير جمالية ووطنية، وتكمن المشكلة في صعوبة استهلاك هذا النوع من رأس المال الاجتماعي، في ظل وجود الأنواع السابق ذكرها، ومن ثم تأتي الصعوبة في مراكمته في هذا الوقت، على الرغم من أنه ما زال قادرًا على التعبير عن نفسه، ويمكن قراءة هذا التعبير بوضوحٍ يدعو إلى التفاؤل في أحيان كثيرة، منها مثلًا ذلك التضامن والمشاعر الوطنية التي سادت أخيرا في نعي الفنانة السورية مي سكاف.
هذا بعض ما يرى صاحب هذه السطور الأكثر وضوحًا من أنواع رأس المال الاجتماعي في سورية، وقد تضخّمت هذه الأنواع الستة الأولى نتيجة ضمور الأخير أو انحرافه، لذلك تكون الخاتمة المنطقية لهذه المقاربة على شكل سؤال مهم، كل السوريين مطالبون بالإجابة عنه، وخصوصًا "النخبة السياسية": كيف نبني مؤسساتٍ سياسية ومدنية، تؤدي إلى إعادة بناء رأس مال اجتماعي سوري وطني ومراكمته؟ أي بصيغة أخرى، كيف نستثمر بالقليل الموجود من رأس مال سوري وطني، من ثم نراكمه ونخزّنه إلى الحد الكافي لوقف الحرب وتحقيق السلام على أقل تقدير؟