02 نوفمبر 2024
أوهام عن الرئاسة في تونس
بعد سنوات من التمرين على الديمقراطية، ومزاولة التعدّدية في عصر الثورة، أصبح الترشح لرئاسة الجمهورية التونسية فعلا شائعا، وخيارا متاحا لعموم التونسيين، ولم يعد الأمر حكرا على الرّئيس القائم أو حاشيته أو المنتمين إلى الحزب الحاكم، كما كان الحال على عهد الحبيب بورقيبة وخلفه زين العابدين بن علي. ببساطة، ارتفعت القداسة عن الرّئاسة، وأصبح الترشّح لتولّي هذه المؤسّسة حقّا مشروعا للتونسيين. وبعد تلقّي ما يزيد عن تسعين مطلبا للتنافس على رئاسة الجمهورية، أقرّت الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات توفّر الشروط القانونية في مطالب 26 مرشّحا للرئاسة، وحكمت ببطلان البقية. ودلّ ذلك على ديناميكية المشهد السياسي في تونس، وتنوّعه واحتكامه إلى هيئة دستورية محايدة لاختيار المؤهلين للتسابق على الاستحقاق الرّئاسي. ولكن مراجعة ما رشح من برامج بعض المترشحين تبيّن أنّهم يُحمّلون الرّئاسة ما لا تحتمل، ويزعمون أنّها تملك سلطات تنفيذية تغييرية واسعة، ويوهمون النّاس بأنّ الرئيس يملك المفتاح السحري لحلّ كلّ مشكلات البلاد. وذلك في خلط واضح بين صلاحيات الرئيس المحدودة دستوريا وصلاحيات بقية الهياكل المؤسّسية في الجمهورية التونسية.
بالعودة إلى الدستور التونسي الجديد الصادر سنة 2014 (الباب الرابع: من الفصل 72 إلى الفصل 88)، يتبيّن الدارس أنّ صلاحيات رئيس الجمهورية على أهميتها تبقى محدودة، وغالبا ما يمارس مسؤولياته بالشراكة مع رئيس الحكومة ومجلس نوّاب الشعب، ومنوط بعهدته تمثيل
الدولة داخليا وخارجيا، وضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع، والعلاقات الخارجية، والأمن القومي، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة. ومن أهمّ صلاحياته القيادة العليا للقوات المسلحة، ورئاسة مجلس الأمن القومي الذي يكون من بين أعضائه رئيسا الحكومة التونسية ومجلس نواب الشعب، وإعلان الحرب، وإبرام السلم بعد موافقة مجلس نواب الشعب بأغلبية ثلاثة أخماس أعضائه، وإرسال قواتٍ إلى الخارج بموافقة رئيسي مجلس نواب الشعب والحكومة، واتخاذ التدابير التي يقتضيها إعلانه حالة الطوارئ. ومن مهامّه إسناد الأوسمة، ومنح العفو الخاص، وختم القوانين والمعاهدات والإذن بنشرها. كما يتولّى التعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا برئاسة الجمهورية والمؤسسات التابعة لها. ويحقّ له تقديم مبادرات تشريعية لعرضها على البرلمان، وفي مقدوره ردّ مشاريع قوانين صادق عليها البرلمان، قصد مراجعتها أو إحالتها على المحكمة الدستورية (لم تتشكّل بعد). وبإمكانه اقتراح تعديل بنود في الدستور، باستثناء ما تعلّق بعدد الدورات الرئاسية، أو ما مسّ من جوهر الحريات. وله أن يعرض مشاريع قوانين تتعلق مثلا بالمعاهدات والحريات والأحوال الشخصية على الاستفتاء، ولا يكون له ذلك إلاّ بعد موافقة ثلثي أعضاء مجلس نوّاب الشعب.
ومن ثمّة، فقد ولّى مع دستور الجمهورية الثانية عصر الحكم الفردي الذي كان يضع بموجبه الرئيس كلّ السلطات تحت إمرته، وغدا الحكم بعد الثورة فعلا مدنيا تشاركيا، يوازن بين السلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، ويضبط صلاحياتها المخصوصة، ويعقد بينها علاقات تجاور، وتعاون، ورقابة متبادلة. ولكن يبدو أنّ هذا التحديد الدستوري لمهامّ الرئيس لا يروق لمتسابقين على الظفر بكرسي قصر قرطاج، فتراهم ميّالين إلى مجافاة محامل الدستور
في هذا الخصوص، حريصين على تمطيط صلاحيات الرئيس وتوسيعها، لتشمل ما ليس من مشمولاتها. وذلك لرغبةٍ معلنة، أو مضمرة، لاستعادة ملامح الحكم الرئاسوي/ الفرداني على كيف ما. والأمثلة في هذا الخصوص كثيرة.
عبّر أكثر من مرشح لمنصب رئاسة الجمهورية عن طموحه الجامح لتغيير الدستور، وتبديل هوية النظام السياسي في البلاد، في حال تولّيه زمام الأمور في قصر قرطاج. وفي هذا الشأن، ورد في الصفحة الرسمية لمرشح حزبي نداء تونس وآفاق تونس، عبد الكريم الزبيدي، تعهّده "تقديم مشروع استفتاء لتعديل الدستور والمنظومة السياسية والانتخابية". وصرّحت مرشحة الحزب الدستوري الحر، عبير موسى، مرارا، إنّها لا تعترف بمخرجات الثورة من دستور وقوانين، وفي خصوص برنامجها الانتخابي، قالت: "سأغيّر الدستور والنظام السياسي إذا فزت بالرئاسة". ومعلوم أنّ هذا الطموح يتجاوز الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية الذي يملك حقّ الاقتراح، وتقديم مبادرات تشريعية. أمّا تمرير مشاريع القوانين أو رفضها، فمن اختصاص الأغلبية البرلمانية. ومن ثمّة، التصرّف في الدستور بالتعديل أو التغيير أو الاستفتاء من اختصاص مجلس نوّاب الشعب، وليس من الصلاحيات المباشرة لرئيس الدولة التونسية.
واللافت من متابعة تصريحات مرشحين للانتخابات الرئاسية 2019 أنّ بعضهم اعتبر التحقيق في ملفاتٍ قضائية من مشمولاته. وفي هذا السياق، تعهد مرشح حزب الجبهة الشعبية، منجي الرحوي، وعبد الكريم الزبيدي، ومرشح "مشروع تونس"، محسن مرزوق، بالتحقيق في الاغتيالات السياسية سنة 2013. وفي موجة التسفير إلى بؤر التوتّر، والكشف عمّا يُسمّى "الجهاز السرّي لحركة النهضة"، عدّوا تلك الملفّات محور برنامجهم الانتخابي. والحال أنّها من مشمولات القضاء، والتقصّي في ملابساتها ليس من اختصاص الرئيس، بل من مهامّ القطب القضائي لمكافحة الإرهاب. ويُخشى هنا أن يستثمر بعضهم صفة الرئيس للتأثير على سيرورة المرفق القضائي، والمسّ باستقلاليته ونزاهته، على خلفية تصفية حساباتٍ مع منافسين سياسيين محتملين. وسبق لعبير موسى أن صرّحت عن سعيها، في حال وصولها إلى كرسي السلطة، إلى "تطهير البلاد من الأحزاب ذات المرجعية الدينية والأحزاب المرتبطة بأجندات أجنبية، وهو ما يوفّر المناخ السياسي للإصلاحات"، في رأيها. وسبق أن هدّدت الإسلاميين بزجّهم في السجن، في حال بلوغها سدّة الحكم. ومعلوم أنّ هذا الخطاب يفرّق التونسيين، ويُنذر بنقض التعدّدية، وتأليب الناس بعضهم على بعض، وتهديد السلم الاجتماعي، وهو ما يتعارض مع الفصلين 6 و7 من قانون الأحزاب ومع صورة رئيس الجمهورية الذي يُفترض أن يكون ضامنا للدستور، حاميا لمؤسسات الدولة، حريصا على توثيق عُرى الوحدة الوطنية. وعلى صعيد آخر، قال مرشح "قلب تونس"، نبيل القروي ( قبل احتجازه) إنّه سيكون الممثل التجاري لتونس في الخارج، وسيركّز برنامجه الرئاسي على مكافحة الفقر، وتحقيق التنمية في
الجهات الداخلية. ومع أنّ ذلك خطاب جاذب، يستميل قلوب الناخبين، فإنّ الواقع يُخبر بأنّ تلك المهامّ من اختصاص وزارات الاقتصاد، والتجارة، والشؤون الاجتماعية، وليست محور صلاحيات الرئيس. وفي سياق متّصل، تعهّد مرشح "حراك تونس الإرادة، منصف المرزوقي، في حال تقلّد الرّئاسة من جديد بإعلان "النفير العام لمواجهة أزمة نقص المياه في البلاد". وقدّم مرشح حزب البديل التونسي، مهدي جمعة، وعودا في هذا الخصوص، وذلك مهمّ، لكنّ الرّئيس لا يمتلك السلطة التنفيذية في هذا الخصوص، والأمر موكول إلى وزارة الفلاحة بامتياز. أمّا مرشح حركة الشعب، صافي سعيد، فقال: "أعطوني الدولة ثلاث سنوات، وسأجعلها في مصافّ البلدان المتقدّمة" والحلم هنا وردي، ولكن لا يُمكن أن ينهض بتحقيقه رئيس وحده في مدّة وجيزة، وفي دولة عانت طويلا الدكتاتورية، والبيروقراطية، والفساد، والتوزيع غير العادل للسلطة والثروة.
المأمول لو يُحدّث مرشحون للرئاسة التونسيين عن مشاغل تتعلّق بصلاحياتهم، قبل الخوض في صلاحيات غيرهم ومحاولة الاستيلاء عليها. إلى الآن ليس من كلام مفصّل منهم في شأن كيفيات تطوير الديبلوماسية التونسية وتفعيلها، واقتراح معايير واضحة لتعيين مستشاري الرئيس وسفراء تونس وممثليها في الخارج، وتحديد موقف واضح من النزاع في ليبيا، ومن القضية الفلسطينية، ومن مسار الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ونزيف هجرة الأدمغة التونسية. وليس لمعظمهم موقف بيّن من المحكمة الدستورية، ومن حالة الطوارئ. ثمّ ما مقاييس إسناد الرئيس الأوسمة، الولاء أم المحاصصة أم الكفاءة؟ هل سيزور الرئيس مناطق الظّل وسيستمع إلى المهمّشين؟ وما مصير مخرجات العدالة الانتقالية؟ هل سيعتذر الرئيس القادم لضحايا الاستبداد، ويؤيّد جبر ضررهم، أم الأمر خلاف ذلك؟
أسئلة يتفادى متسابقون على كرسي قصر قرطاج الإجابة عليها، ويسعون بدل ذلك إلى تضخيم صورة الرئيس، وتلبيس الرئاسة صلاحياتٍ ليست من مشمولاتها، وذلك لميل بعضهم إلى الشعبوية، ورغبتهم في استقطاب أكبر عدد ممكن من المناصرين، وكذا لافتقار آخرين لثقافة الدولة ومحدودية اطلاعهم على محامل الدستور، فضلا عن رغبة سواهم في استعادة نموذج الرئيس الحاكم بأمره، وهو نموذجٌ عانى تونسيون ويلاته، ومن المحال في الظرف الرّاهن استعادته، خصوصا في ظلّ قوّة المجتمع المدني، وازدهار ثقافة التعدّدية، والديمقراطية، واحترام الدستور في السياق التونسي.
ومن ثمّة، فقد ولّى مع دستور الجمهورية الثانية عصر الحكم الفردي الذي كان يضع بموجبه الرئيس كلّ السلطات تحت إمرته، وغدا الحكم بعد الثورة فعلا مدنيا تشاركيا، يوازن بين السلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، ويضبط صلاحياتها المخصوصة، ويعقد بينها علاقات تجاور، وتعاون، ورقابة متبادلة. ولكن يبدو أنّ هذا التحديد الدستوري لمهامّ الرئيس لا يروق لمتسابقين على الظفر بكرسي قصر قرطاج، فتراهم ميّالين إلى مجافاة محامل الدستور
عبّر أكثر من مرشح لمنصب رئاسة الجمهورية عن طموحه الجامح لتغيير الدستور، وتبديل هوية النظام السياسي في البلاد، في حال تولّيه زمام الأمور في قصر قرطاج. وفي هذا الشأن، ورد في الصفحة الرسمية لمرشح حزبي نداء تونس وآفاق تونس، عبد الكريم الزبيدي، تعهّده "تقديم مشروع استفتاء لتعديل الدستور والمنظومة السياسية والانتخابية". وصرّحت مرشحة الحزب الدستوري الحر، عبير موسى، مرارا، إنّها لا تعترف بمخرجات الثورة من دستور وقوانين، وفي خصوص برنامجها الانتخابي، قالت: "سأغيّر الدستور والنظام السياسي إذا فزت بالرئاسة". ومعلوم أنّ هذا الطموح يتجاوز الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية الذي يملك حقّ الاقتراح، وتقديم مبادرات تشريعية. أمّا تمرير مشاريع القوانين أو رفضها، فمن اختصاص الأغلبية البرلمانية. ومن ثمّة، التصرّف في الدستور بالتعديل أو التغيير أو الاستفتاء من اختصاص مجلس نوّاب الشعب، وليس من الصلاحيات المباشرة لرئيس الدولة التونسية.
واللافت من متابعة تصريحات مرشحين للانتخابات الرئاسية 2019 أنّ بعضهم اعتبر التحقيق في ملفاتٍ قضائية من مشمولاته. وفي هذا السياق، تعهد مرشح حزب الجبهة الشعبية، منجي الرحوي، وعبد الكريم الزبيدي، ومرشح "مشروع تونس"، محسن مرزوق، بالتحقيق في الاغتيالات السياسية سنة 2013. وفي موجة التسفير إلى بؤر التوتّر، والكشف عمّا يُسمّى "الجهاز السرّي لحركة النهضة"، عدّوا تلك الملفّات محور برنامجهم الانتخابي. والحال أنّها من مشمولات القضاء، والتقصّي في ملابساتها ليس من اختصاص الرئيس، بل من مهامّ القطب القضائي لمكافحة الإرهاب. ويُخشى هنا أن يستثمر بعضهم صفة الرئيس للتأثير على سيرورة المرفق القضائي، والمسّ باستقلاليته ونزاهته، على خلفية تصفية حساباتٍ مع منافسين سياسيين محتملين. وسبق لعبير موسى أن صرّحت عن سعيها، في حال وصولها إلى كرسي السلطة، إلى "تطهير البلاد من الأحزاب ذات المرجعية الدينية والأحزاب المرتبطة بأجندات أجنبية، وهو ما يوفّر المناخ السياسي للإصلاحات"، في رأيها. وسبق أن هدّدت الإسلاميين بزجّهم في السجن، في حال بلوغها سدّة الحكم. ومعلوم أنّ هذا الخطاب يفرّق التونسيين، ويُنذر بنقض التعدّدية، وتأليب الناس بعضهم على بعض، وتهديد السلم الاجتماعي، وهو ما يتعارض مع الفصلين 6 و7 من قانون الأحزاب ومع صورة رئيس الجمهورية الذي يُفترض أن يكون ضامنا للدستور، حاميا لمؤسسات الدولة، حريصا على توثيق عُرى الوحدة الوطنية. وعلى صعيد آخر، قال مرشح "قلب تونس"، نبيل القروي ( قبل احتجازه) إنّه سيكون الممثل التجاري لتونس في الخارج، وسيركّز برنامجه الرئاسي على مكافحة الفقر، وتحقيق التنمية في
المأمول لو يُحدّث مرشحون للرئاسة التونسيين عن مشاغل تتعلّق بصلاحياتهم، قبل الخوض في صلاحيات غيرهم ومحاولة الاستيلاء عليها. إلى الآن ليس من كلام مفصّل منهم في شأن كيفيات تطوير الديبلوماسية التونسية وتفعيلها، واقتراح معايير واضحة لتعيين مستشاري الرئيس وسفراء تونس وممثليها في الخارج، وتحديد موقف واضح من النزاع في ليبيا، ومن القضية الفلسطينية، ومن مسار الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ونزيف هجرة الأدمغة التونسية. وليس لمعظمهم موقف بيّن من المحكمة الدستورية، ومن حالة الطوارئ. ثمّ ما مقاييس إسناد الرئيس الأوسمة، الولاء أم المحاصصة أم الكفاءة؟ هل سيزور الرئيس مناطق الظّل وسيستمع إلى المهمّشين؟ وما مصير مخرجات العدالة الانتقالية؟ هل سيعتذر الرئيس القادم لضحايا الاستبداد، ويؤيّد جبر ضررهم، أم الأمر خلاف ذلك؟
أسئلة يتفادى متسابقون على كرسي قصر قرطاج الإجابة عليها، ويسعون بدل ذلك إلى تضخيم صورة الرئيس، وتلبيس الرئاسة صلاحياتٍ ليست من مشمولاتها، وذلك لميل بعضهم إلى الشعبوية، ورغبتهم في استقطاب أكبر عدد ممكن من المناصرين، وكذا لافتقار آخرين لثقافة الدولة ومحدودية اطلاعهم على محامل الدستور، فضلا عن رغبة سواهم في استعادة نموذج الرئيس الحاكم بأمره، وهو نموذجٌ عانى تونسيون ويلاته، ومن المحال في الظرف الرّاهن استعادته، خصوصا في ظلّ قوّة المجتمع المدني، وازدهار ثقافة التعدّدية، والديمقراطية، واحترام الدستور في السياق التونسي.