عشرون عاماً من مقاومة التطبيع مع إسرائيل في الأردن

01 نوفمبر 2014

وقفة نقابية في عمّان ضد التطبيع (إنترنت)

+ الخط -
قبل أيام، وبالتزامن مع الذكرى العشرين لتوقيع اتفاقية السلام بين الحكومة الأردنية وإسرائيل، ألصق خمسة شبان شاركوا في ماراثون عمان السنوي للركض على ملابسهم شعارات تندد بعزم الحكومة الأردنية استيراد غاز من إسرائيل مدة 15 عاماً، رافضين ما اعتبروه إجباراً حكوميا للشعب للتطبيع مع إسرائيل. وفي الأثناء، ما تزال شعارات شعبية مناهضة للتطبيع مع إسرائيل يزخر بها مجمع النقابات المهنية في عمان، ومقار المجمع في محافظات أردنية أخرى، وتجد مثلها أحياناً في شوارع رئيسية في العاصمة، أو لدى مرورك من مخيمات فلسطينية في الأردن
بدأت الحركة الشعبية لـ"مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني" منذ اليوم الأول لتوقيع "معاهدة وادي عربة" في 26 من أكتوبر/تشرين الأول عام 1994، واستمرت إلى اليوم، وما بين التاريخين تعرضت مقاومة التطبيع لمراحل مد وجزر متفاوتة.

شعبياً، لم تجد المعاهدة ترحيباً في الأردن، شأن معاهدة كامب ديفيد في مصر، ولكن ذلك لم يحل دون تنفيذ بنودها، خصوصا في ما يتعلق بإنهاء المقاطعة الاقتصادية الأردنية لإسرائيل، وتنمية العلاقات الاقتصادية والسياحية معها، وهو ما ترجم بعشرات الاتفاقيات والبروتوكولات التي وقعت غالبيتها بين عامي 1994 و1998، وبتبادل تجاري مستمر، على الرغم من مروره بفترات تراجع، أحياناً، وانتعاش أحياناً أخرى.

في البدايات الأولى لمعاهدة وادي عربة، وتزامنا مع ما رافقها من حملات إعلامية مكثفة لإظهار مزايا وإيجابيات لها، تحدث عنها رسميون أردنيون، وجدت تلك الحملات قبولاً عند برلمانيين وفنانين وتجار، بنسب متدنية، بيد أن ذاك على قلته ما لبث أن تراجع سريعاً إثر الحملات الشعبية التي تزامنت مع الاتفاقية، وما يختزله الوجدان الأردني من عداء فطري لإسرائيل، جراء سياساتها العدوانية في المنطقة، واحتلالها أراضي فلسطينية وعربية.

شعبياً، نجحت حملات (مقاومة التطبيع) في إقناع شرائح واسعة من المجتمع الأردني برفض فكرة التطبيع مع (الكيان الغاصب)، واستطاعت أن تجد لها قدماً في مجالات مختلفة، فبات لها مناصرون، كتاب وأدباء وسياسيون ونقابيون وحزبيون من تيارات سياسية أردنية (إسلامية، وسطية ويسارية). وأخذ هؤلاء على عاتقهم إقامة حواجز صد شعبية ضد ما اعتبروه سعياً إسرائيلياً إلى إحداث "تغلغل" سياسي وثقافي واجتماعي وفكري، على صعيد نيابي، زراعي، صناعي، ثقافي، فني، رياضي، تعليمي وشعبي.

في المقلب الآخر، كان دعاة التطبيع مع إسرائيل يجدون رعاية رسمية لهم، وكان هؤلاء يجاهرون، في بدايات المعاهدة، بمواقفهم، ويعتبرون أن موقفهم ينبع من حبهم الأردن وسياسته، وإن دعواتهم للتطبيع تصب في التوجه الرسمي للدولة.

تظاهرات ومواقف

ولأن المعاهدة كانت، حتى ذلك الوقت، جديدة، فقد اعتمد أولئك في تسويق رؤيتهم على أن الناس لم تلمس فوائد السلام أو سلبياته، وكان لسان حالهم يقول "دعونا نجرب!"، غير أن موقف "رافضي التطبيع" كان أقوى، ووجد له رواجاً بين شرائح مختلفة، مستفيداً من حالة عداء إسرائيل لدى مكونات الشعب الأردني. ثم أخذت حركة مقاومة التطبيع دفعاً كبيراً بعد عامين من توقيع المعاهدة، إبان تنظيم معرض للصناعات الإسرائيلية، كانت تعتزم جهات إقامته في منطقة مرج الحمام (جنوب غرب العاصمة)، فنظم رافضو التطبيع اعتصاماً قرب مكان إقامة المعرض المفترض، فأقدمت أجهزة الأمن على الاعتداء عليهم، واعتقال بعضهم.

وما منح التحرك وقت ذاك زخماً قوياً وجود رئيس وزراء الأردن ومدير مخابراته الأسبق، أحمد عبيدات، والمعارض الأردني البارز، ليث شبيلات، ضمن المحتجين عليه، واعتداء قوات الأمن عليهم أيضاً.

أحمد عبيدات

استند عبيدات في موقفه الرافض للتطبيع مع إسرائيل باعتبار أن الاتفاقية "تضر بمصالح الأردن، ولم تعد حقوقه في الأرض والماء، فضلاً عن أنها لن تكون كافية لإنهاء حالة العداء الإسرائيلي للمملكة وحقوقها". وقد أدى موقفه ذاك، لاحقاً، إلى إخراجه من تشكيلة مجلس الأعيان المعروف بـ"مجلس الملك"، غير أن هذا الأمر لم يجعل الرجل يتراجع عن رفضه المعاهدة والتطبيع، وإنما جعله يتبنى أفكاراً إصلاحية، ويقود لاحقاً الجبهة الأردنية للإصلاح التي شارك فيها إسلاميون وقوميون ويساريون معارضون.


ما جرى عاد بثمار إيجابية على مقاومي التطبيع، وجعلهم أكثر قبولاً على المستوى الشعبي، وجعل رسميين أردنيين يقبلون فكرة وجود تحرك في هذا الجانب، ولا يتعاملون معه باعتباره موجهاً ضد الأردن كدولة، بقدر ما كانوا يعتبرونه موجهاً ضد "تغلغل إسرائيل" في البلاد. وكان مثل هذا الطرح يجد قبولاً من عشائر أردنية تعتقد أن السماح لإسرائيل بأن "تسرح وتمرح" في البلاد من شأنه التأثير سلباً على المجتمع، وكان هؤلاء يرون في "مقاومة التطبيع" تعبيراً عما في داخلهم.

وقد عبر عن مثل هذا النهج النائب عدنان الفرجات الذي كان، قبل نيابته، ضابطاً كبيراً في الأمن العام، وقد قال، تحت قبة البرلمان الأردني، إنه كان يتعاطف ويؤيد فكرة مقاومة التطبيع، وذهب إلى حد أن أبدى تعاطفاً مع الجندي الأردني المسرح المحكوم، أحمد الدقامسة، الذي أطلق في 1997 النار على سبع طالبات إسرائيليات في أثناء خدمته في منطقة الباقورة.

وقد أخذت إسرائيل، بدورها، وبالتعاون مع الأردن الرسمي، على عاتقها تنويع حوافزها، فعمدت إلى استغلال امتيازات أميركية، من قبيل المناطق الاقتصادية المؤهلة QIZ، وسيلة لتسويق "الفكر التطبيعي"، كما تقول اللجنة.

لجان نقابية ورافضة

وقد رصدت هذا التغلغل لجان مقاومة التطبيع، فاعتبرته تنوعاً في خيارات التطبيع ومحاولات للتأثير على الناس، فتعاملت معه بكشف جوانبه السلبية على الاقتصاد الأردني.

ويقول رئيس لجنة مقاومة التطبيع النقابية السابق، بادي الرفايعة، إن المناطق المؤهلة التي تقوم على فكرة استيراد مواد أولية من إسرائيل، في مقابل السماح بالتصدير إلى أسواق الولايات المتحدة، لم تستطع إقناع الناس بها، وخصوصاً أن المواطن الأردني لم يلمس انعكاساً اقتصادياً إيجابياً على قوته الشرائية. 

جاءت محاولة الموساد الإسرائيلي اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، خالد مشعل، في عمّان لتشكل ضربة لجهود رسميين لفتح طاقة في أفق تطبيع شعبي مفترض، ومنحت مقاومي التطبيع مجالاً أوسع وأرحب للعمل.

بعد ذاك، بدت حركة مقاومة التطبيع أقوى وأكثر إقناعاً للشارع الأردني، ووجدت لها مؤيدين، واستطاعت استقطاب شخصيات أوسع، وبات لها حضور في قطاعات مختلفة، وهذا ما جعلها قوية، ولديها القدرة على نشر أسماء شركات ومؤسسات وشخصيات أردنية "طبعت" مع إسرائيل.

تظاهرة في عمّان ضد استيراد منتجات زراعية إسرائيلية (إنترنت)



وجدت القائمة الأولى ردود فعل كبيرة، وأدت إلى إحداث "رجة" ارتدادية لدى مطبعين، وخوفاً من تأثير نشر أسمائهم ضمن تلك القوائم على تجارتهم وحضورهم في الحياة العامة.

رسمياً، قوبل نشر أسماء المطبعين بردة فعل كبيرة من السلطات الأردنية التي أقدمت في بداية الألفية في العام 2001 على اعتقال أربعة من أبرز أعضاء اللجنة، وهم علي أبو السكر (أصبح نائباً فيما بعد)، وميسرة ملص، وبادي الرفايعة وعلي حتر، ثم أفرجت عنهم بعد أسابيع، وسط تعاطف شعبي. وكان تحرك السلطات الأردنية تجاه اعتقال أعضاء اللجنة بهدف طمأنة أشخاص نُشرت أسماؤهم ضمن قائمة المطبعين، وإرسال رسالة لقوى مجتمعية مفادها بأن الأردن الرسمي ملتزم بالحيلولة دون مأسسة مناهضة التطبيع، وفق ما يعتقد أبو السكر.

في المقابل، استفاد مناهضو التطبيع والقوى السياسية من حالة الاعتقال، كما أن تصاعد أحداث انتفاضة الأقصى، والتعاضد الشعبي الكبير معها، بإقامة فعاليات واسعة لكل منظمات المجتمع المدني الأردني، ومسيرات شعبية منحت مناهضي التطبيع قوة وحضورا أكبر.

تزامن ذلك مع فتور رسمي مع إسرائيل لم يعد يعتبر أن التطبيع معها ضمن قائمة أولوياته، كما كان عند توقيع المعاهدة، بسبب ممارساتها الاستفزازية في قطاع غزة والضفة الغربية، فاختار الأردن الرسمي الانفتاح المباشر على العالم، متجاوزاً النافذة الإسرائيلية، وحفلت المرحلة بإشارات وانتقادات لإسرائيل، بسبب عدم جديتها في الذهاب إلى السلام، وشهدت ترميماً أردنياً للعلاقات الاقتصادية مع العمق العربي.


منتجات زراعية إسرائيلية

على الرغم من انكفاء الاندفاع الرسمي باتجاه فتح بوابات علاقات تطبيعية مع إسرائيل، إلا أن ذلك لم يمنعها من مواصلة محاولاتها لإيجاد موطئ قدم، فوجدت في القطاع الزراعي مكاناً أمثل لذلك، فباتت السوق الأردنية مليئة بمنتجات زراعية إسرائيلية. فعلت أصوات أردنية تطالب بمقاطعة الخضروات والفواكه الإسرائيلية، وأطلقت النقابات المهنية الأردنية حملة تحت شعار "نحو أردن خال من بضائع العدو الصهيوني".

ودانت اللجنة التنفيذية العليا لحماية الوطن ومجابهة التطبيع إغراق السوق الأردنية بالبطاطا المنتجة من مزارع إسرائيلية، واستنكرت مواصلة استيراد تجار منتجات إسرائيلية. واستدعى الحدث مطالبة رئيس لجنة حماية الوطن ومقاومة التطبيع النقابية، الدكتور مناف مجلي، القوى السياسية والمواطنين وشرائح المجتمع المختلفة لإحكام طوق المقاطعة على منتجات إسرائيل ومقاطعة من يدعمه، معتبراً أن شراء أي" منتج صهيوني، يعادل إطلاق رصاصة على أهلنا في فلسطين"، كما دعا إلى "نبذ ومقاطعة المطبعين الشركاء في جرائم العدو الصهيوني".

خوفاً من قيام لجان مقاومة التطبيع بما اعتبروه "تشهيراً" بهم، عمد تجار إلى إزالة "الليبل" الملصق على الخضار والفواكه الإسرائيلية المستوردة؛ طمعًا في إغراء الزبائن لشرائها، بحجة أنها بضائع تركية، أو من إنتاج أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية.

ويقول الخبير الزراعي، محمود العوران، إن إسرائيل أغرقت السوق الأردنية بمزروعات مختلفة، وتصدر إلى الأردن البطاطا والجزر والبصل والزعتر، إضافة إلى منتوجات ثروة حيوانية، وفي مقدمتها البيض، معتبراً أن إغراق السوق الأردنية يهدف إلى تراكم المديونية على المزارع الأردني، لإجباره على هجر أرضه، وبالتالي، يصبح الأمن الغذائي الأردني في خطر.

بلغة الأرقام، دخل نحو 60 ألف طن من الفواكه والخضار الإسرائيلية إلى الأسواق الأردنية، العام الماضي، وشملت ثمانية أصناف رئيسية، هي: الجزر والبطاطا والكاكا والأفوكادو والكيوي والمنجا والتفاح والإجاص. وشهد عام 2013 ارتفاعاً في مستوردات الخضار والفواكه الإسرائيلية، وخصوصاً المانجا، حيث وصلت نسبتها المستوردة والمعروضة في الأسواق 78% من كمية المستوردات.

مذكرة الغاز

وتزامناً مع هجمة "التطبيع الزراعي"، جاء توقيع مذكرة تفاهم بين الحكومة الأردنية وإسرائيل تضمنت استيراد غاز إسرائيلي. وشكل هذا الأمر حالة تحدٍّ جديدة لمقاومي التطبيع، فعادت حملات المقاطعة إلى عنفوانها، وخصوصاً أن التوجه الحكومي لاقى رفضاً نيابياً، وحزبياً وطلابياً ومجتمعياً، وأنشأ ناشطون صفحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لإجهاضه.

وقال النائب سمير عويس إن "التوقيع على هذه الاتفاقيات مرفوض، ويعتبر من أعلى درجات التطبيع مع العدو الصهيوني الذي قتل نحو الألفي شهيد، وخلّف نحو عشرة آلاف جريح في عدوانه أخيراً على غزة". وشهد مجلس النواب الأردني حراكاً واسعاً حول الاتفاقية، حيث تبنى أكثر من 40 نائبا مذكرة نيابية، تطالب الحكومة بوقفها، والتوجه إلى مصادر الطاقة المحلية، وأهمها الصخر الزيتي الموجود بكميات كبيرة في الأراضي الأردنية.

ويرى النائب خميس عطية أن عملية التطبيع شهدت تسارعاً في ظل الحكومة الحالية، وخصوصاً بعد جولات وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في المنطقة، مشيرا إلى أن عقود شراء الغاز من إسرائيل تأتي مقدمة لتعاون أكبر. ويستذكر أن توقيع مذكرة التفاهم حول الغاز جاءت متزامنة مع حذف وزارة التربية والتعليم الأردنية درساً تربوياً عن الشهيد الطيار فراس العجلوني الذي استشهد في عدوان 1967، معتبراً أن ذلك يأتي حلقة ضمن مسلسل تطبيع المناهج في الأردن.

بعد 20 عاماً من توقيع المعاهدة، تستشعر حركة "مقاومة التطبيع" الأردنية أن في الأفق محاولات جديدة، برعاية رسمية، لإحياء محاولات تطبيع جديدة، تم التعبير عنها بأشكال مختلفة، وهي أخذت على عاتقها مواصلة التصدي لذلك، وفق ما يعبر عنه رئيس مقاومة التطبيع النقابية، مناف مجلي، والذي يعتقد أن صفقة شراء الغاز ومقاومة استيراد الخضراوات الإسرائيلية تعتبر من أبرز مراحل عمل لجنة مقاومة التطبيع في المرحلة المقبلة، داعياً قوى المجتمع الأردني للتوحد خلف اللجنة ودعم فعالياتها.

27F02F21-AD59-48A1-AD97-57A23C585A0A
جهاد منسي

صحفي أردني، محلل سياسي، تتركز كتاباته على الجوانب السياسية والحزبية والبرلمانية، والحريات العامة وحقوق الإنسان، والمراة والدفاع عن الدولة المدنية.