الورد لا يليق بالسوريين في بلغاريا

24 مايو 2014

المنزل الذي طردت منه الأسر السورية اللاجئة في بلغاريا

+ الخط -
صدر، قبل أيام، تقرير منظمة حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية ومنظمة رقابة الحدود، بشأن أوضاع اللاجئين السوريين وغيرها من القضايا ذات العلاقة. ووجهت هذه المنظمات، بشكل منفصل، الاتهام للحكومة البلغارية، ومؤسساتها الرسمية، بممارسة العنف ضدّ اللاجئين غير الشرعيين القادمين من تركيا، وغالبيتهم من السوريين. وجاء في التقرير، أيضاً، أنّ الدوريات العسكرية وحرس الحدود البلغار يضربون اللاجئين السوريين في المناطق الحدودية الوعرة الشاسعة على الحدود المشتركة مع تركيا، ويجبرونهم، باستخدام القوة الجسدية، على العودة من حيث أتوا، ويسلبونهم هواتفهم وممتلكاتهم، الأمر الذي أنكرته، جملة وتفصيلاً، المؤسسات الحكومية ووكالة اللجوء الرسمية التابعة مباشرة للمجلس الوزاري.

تأتي أهمية بلغاريا باعتبارها تمثل الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من إمكاناتها المالية المتواضعة، إلا أنّ الاتحاد الأوروبي ألزمها بتبني اللاجئين الراغبين بالبقاء فوق أراضيها، وفق معاهدة دبلن الثانية، والتي تمنع اللاجئين الذين حصلوا على وثائق لجوء في إحدى المحطات الأوروبية (بلغاريا المحطة الأولى) عدم المطالبة بحقّ اللجوء ثانية،  واعتبار الوثائق الأولى سارية المفعول في كامل دول المنظومة، ولم يعد ممكناً الالتفاف على القانون، والمطالبة بلجوء آخر في الدول الغنية، كألمانيا وفرنسا والدول الاسكندنافية. وبعد تأسيس شبكة المعلومات المشتركة، تعمّم البيانات الشخصية وبصمات الأصابع لدى المؤسسات الأوروبية في كافة دول المنظومة.

دفعني لكتابة هذه السطور نهج الأحزاب القومية في العامين الماضيين، وتعبئة الرأي العام الشعبي في بلغاريا ضدّ اللاجئين، إلى درجة تشبيه اللاجئين السوريين بالقَتَلة والمغتصِبين (بكسر الصاد)، الباحثين عن المتعة لدى الأمهات الشابّات و"كانيبال" أكَلَة لحوم البشر! ولا يزال الإعلام يتناول ما حدث في قرية روزوفو، والاسم مشتق من كلمة Rose ـ وردة، حيث استأجرت ثلاث عائلات سورية "فيلّا" مهجورة في هذه القرية، التي لا يزيد عدد سكانها على ألف فقط، ليحاصر مواطنو القرية، على الفور، الفيلا، ويهددون العائلات السورية فيها بالانتقام والضرب إذا لم يغادروا المسكن، ورفضوا حتى التعرّف إليهم، ورفعوا الأعلام الوطنية البلغارية، علماً أنّ هذه العائلات الثلاث مكوّنة من أطفال وكبار سنّ، وأصيب أحد الرجال منها بذبحة صدرية، نتيجة للقلق والخوف والشتات الفيزيائي والاغتراب، وكاد هذا اللاجئ أن يفقد حياته بعدما نجا من موت محقق، تحت نيران النظام السوريّ وقذائفه. غادرت الأسر إلى قرية بعيدة أخرى، بعد تدخّل الإعلام وتعاطف الأهالي.
وقبل عام، فقدت أمّ سورية شابة عشرينية حياتها من شدّة البرد في المناطق الجبلية المغطّاة بالثلوج، وُجدت ميّتة من شدّة البرودة، بعدما وضعت كل ما تملك من الأغطية فوق ابنتها لإنقاذ حياة الصغيرة على الأقل، وقد تبنّتها عائلة عربية في صوفيا، بعد دفن والدتها في مقبرة نائية. ويبقى السؤال، مَن سيدفع ثمن هذا الشقاء الإنسانيّ في رحلة البحث عن الخلاص الأبدية في أنحاء الدنيا؟

الأحزاب القومية الأوروبية، ومنها الحزب البلغاري "أتاكا"، حرصت، طوال الوقت، على ترويج كراهية الآخر والعنصرية. ولا يختلف الأمر كثيراً في دول أوروبية عديدة، غارقة في همومها ومشكلاتها الأصولية والاقتصادية. وذهبت هذه الأحزاب إلى أبعد من ذلك بكثير، وزارت رسمياً نظام بشار الأسد ومؤسساته الحكومية في دمشق، قبل أشهر، وطالبت بعد عودتها من سورية اللاجئين السوريين بالعودة إلى مدنهم وقراهم، إثر حصولها على ضمانات من القيادات السورية بعدم التعرّض لهم بالأذى والملاحقة والترويع! متناسين، ربّما، أنّ الملايين التي غادرت منازلها اضطرت لذلك، بعد هدم بيوتها، وفقدانها مصادر دخلها. واتهمت الأحزاب القومية، مدعومة بطريقة غير مباشرة من اليسار السياسي، غير القادر عملياً على ممارسة السلطة، من دون دعم القوميين، اتهمت لاجئين كثيرين بالإرهاب، وهي تهمة في غاية الخطورة، تُفقد المشتبه به، عملياً، كل الحقوق المدنية، ويُعتقل بانتظار تسفيره في أقرب وقت ممكن. وقد رفضت قرية الورود البلغارية تقديم الخبز والماء إلى اللاجئين.

تسمح معاهدة دبلن الثانية للدول الأوروبية بمطالبة الحكومة البلغارية بإعادة اللاجئين إلى أراضيها في أي وقت، لأنّهم يحملون وثائق لجوء بلغارية، ولا يحقّ لهم المطالبة بوثائق جديدة. من جهة أخرى، لا يحقّ للاجئين العودة إلى مراكز اللجوء البائسة للغاية، والتي تضمن، على أيّ حال، الحدّ الأدنى من المتطلبات، كالطعام الذي يعمل الجيش على تحضيره، وسقفاً عريضاً بمثابة غطاء لعشرات الأشخاص في مساحة لا تزيد على عشرة أمتار مربّعة. ويُجبر اللاجئون، فور حصولهم، على الوثائق بمغادرة هذه المراكز، والبحث عن طريقة ما للعمل والحصول على الدخل.

وتُلزم اتفاقية أُبرمت بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، الأخيرة بقبول وإعادة اللاجئين ثانية إلى أراضيها، في مقابل تعديل القوانين الأوروبية في السنوات الثلاث المقبلة، لتسهيل حرية التنقل للمواطنين الأتراك في المنظومة الأوروبية، وتخفيف العبء على الدول الأوروبية المتاخمة لتركيا، بلغاريا واليونان، وتمكينها من إعادة اللاجئين إلى تركيا، بطريقة قانونية بالطبع، وليس بالدفع والضرب والرمي بالحجارة.

أصعب ما أواجهه خلال زياراتي للاجئين في بلغاريا، وتحديداً السوريين منهم، التيه الذي رافق ويرافق الأطفال والمراهقين من الجنسين، بعدما وجدوا أنفسهم أسرى بيئة غير صحّية، وكانوا يتوقعون أنّ يجدوا في أوروبا الرفاهية والأمان المرتقب. أجيالٌ بأكملها هجرت المدارس والمعاهد العليا، واستبدلتها بساحات لمبانٍ شبه مهجورة قرب المطارات، وكأنّ الحياة أصبحت مجرّد مشروع سفر طوال الوقت.

الحلول المتوفرة لمساعدة اللاجئين السوريين محدودة، ويدرك كثيرون منهم أن العودة إلى مسقط الرأس في بلادهم صعب المنال. ولن أنسى اللاجئ الذي اختزل مصير جيل الشيوخ في السبعينيات من العمر، حين أخذ يسير يومياً ساعات طويلة على الطريق السريع لمدينة سيفلنغراد، قرب الحدود التركية، ثمّ يعود أدراجه، قبل مغيب الشمس، لينام فوراً من شدّة التعب والإرهاق. لا يهمه المطر، ولا زحمة الشاحنات والدوريات ولا لباسه الشعبي التقليدي اللافت للأنظار. يسير ساعات باتجاه سورية، وهو يدرك أنّ طريق العودة مغلق إلى إشعار آخر، وحين أوقفته قنوات التلفزة لمعرفة ما يجول في خاطره، وليعبّر عن مشاعره المتأججة، قال إنّه لا يريد سوى بيته الريفيّ وحقله ليفلحه، ويقطف ثماره بعرق جبينه، ما طاب له ذلك. من الصعب فهم هذا الشيخ بالطبع، في حمّى رتابة الحياة المعاصرة، وحمّى نقل البضائع والسلع على الطريق السريع بين آسيا وأوروبا، من الصعب إقناع هذا الرجل وأترابه بأنّ للحياة طعماً حلواً ومقبولاً بعيداً عن وطنه سورية، ومن الصعب أن يقبل باقة من الورد والزهور، في مقابل رائحة التراب في أرض بلده.      
     
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح