24 أكتوبر 2024
ليبيا .. مسارات ما بعد سقوط الوطية وأسئلة التدخل الروسي
سيطرت قوات حكومة الوفاق الوطني على قاعدة الوطية الجوية في 18 أيار/ مايو 2020. وتأتي السيطرة على هذه القاعدة الاستراتيجية في سياق تحوّلٍ تشهده المعارك الجارية في المنطقة الغربية من ليبيا، منذ أطلق اللواء المتقاعد خليفة حفتر هجومه على العاصمة طرابلس في 4 نيسان/ أبريل 2019، وتمثّل منطلقًا لاستعادة حكومة الوفاق جميع مدن الساحل الغربي والتقدم في اتجاه مدينة ترهونة، واستهداف خطوط الإمداد بين قاعدة الجفرة الجوية ومحاور القتال في المنطقة الغربية.
مغزى سقوط الوطية
تقع قاعدة الوطية الجوية جنوب غرب طرابلس، وتبعد عنها مسافة 140 كيلومترًا، وتتبع إداريًا مدينة الجميل، ولا يفصلها عن الحدود التونسية سوى 27 كيلومترًا. أنشأت القوات الأميركية القاعدة عام 1942، في أثناء الوصاية الأميركية البريطانية الفرنسية على ليبيا، خلال الحرب العالمية الثانية، وتم تطوير بنيتها التحتية ومنشآتها في أثناء حكم معمر القذافي، وأصبحت قادرة على استيعاب أعداد كبيرة من الطائرات فضلًا عن 7000 عسكري. تقع القاعدة في وسطٍ جغرافي خالٍ من السكان، ويتاخمها محيطٌ تضاريسي يوفر تحصيناتٍ طبيعيةً لها. تعرّضت القاعدة لقصفٍ جوي من قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 2011 قبل أن تسيطر عليها تشكيلات عسكرية من الزنتان والمكونات القبلية المتحالفة معها. وعادت القاعدة إلى واجهة الأحداث عام 2014 عقب الانقسام الذي صاحب إطلاق حفتر "عملية الكرامة" وتحالف قوات الزنتان معه. ومنذ ذلك التاريخ، ظلت القاعدة أحد المواقع المتقدمة لـ "عملية الكرامة" في المنطقة الغربية.
اضطلعت القاعدة بأدوار عسكرية مهمة، منذ إطلاق حفتر الهجوم على العاصمة طرابلس، العام
الماضي، حيث تحوّلت إلى مركز تجمعٍ وإمداد لقوات حفتر وعناصر المرتزقة المتحالفة معها ونقطة إقلاع للطائرات التي استهدفت طرابلس والزاوية وسائر المدن الواقعة تحت سيطرة حكومة الوفاق غرب العاصمة وجنوب غربها.
منذ إطلاق حكومة الوفاق الوطني عملية "عاصفة السلام"، تعرّضت القاعدة لسلسلة ضربات جوية نفذتها طائرات مسيّرة، ألحقت أضرارًا بالغة بتجهيزاتها وبنيتها التحتية، وأدّت إلى مقتل عددٍ من الأفراد المتحصنين فيها؛ وهم، أساسًا، من الرجبان والزنتان والفارّين من مدن الساحل الغربي، بينهم آمرها أسامة مسيك. وكانت قوات مشتركة تابعة لحكومة الوفاق حاولت اقتحام القاعدة والسيطرة عليها، في 5 أيار/ مايو 2020، غير أنها اضطرت إلى التراجع، بعد أن تكبدت خسائرَ بشرية، لتعيد الكرة في 18 أيار/ مايو، وتبسط سيطرتها الكاملة على القاعدة إثر انسحاب المسلحين التابعين لحفتر منها. ويبدو أنّ انقطاع الإمدادات عن المتحصنين بالقاعدة، والضغط العسكري والخسائر البشرية والمادية التي ألحقتها الضربات الجوية المتواصلة بهم، على امتداد أسابيع، إضافة إلى ترتيباتٍ أجرتها حكومة الوفاق مع مكونات اجتماعية في المنطقة ضمنت سيطرة قوات "الوفاق" عليها مقابل السماح بانسحاب مسلّحي الزنتان والرجبان نحو مناطقهم، ومغادرة الآخرين إلى مناطق واقعة ضمن نفوذ حفتر.
حسم محاور العاصمة
بعد أن استعادت قوات حكومة الوفاق السيطرة على جميع مدن الساحل الغربي وقاعدة الوطية، يظل أمامها ثلاث جبهات عسكرية مهمة لتأمين العاصمة والمنطقة الغربية بالكامل، وتعزيز مواقعها التفاوضية في أي تسويةٍ سياسيةٍ قادمة. وتتمثل هذه الجبهات في محاور جنوب طرابلس، وترهونة، وسرت - الجفرة. وعلى الرغم من أن السياق العام للمعركة يظهر على شكل حلقات مترابطة تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى، فإنّ تفاصيلَ ميدانية واجتماعية كثيرة تجعل لكل جبهة وضعًا خاصًا بها.
وما إن تمت استعادة الوطية، حتى بادرت القوات الداعمة لحكومة الوفاق إلى التحرّك نحو مدينة الأصابعة التي كانت أحد المنافذ التي دخلت منها قوات حفتر إلى غريان ثم طرابلس في 4 نيسان/ أبريل 2019، وسيطرت عليها بعد اشتباكاتٍ دامت يومًا واحدًا. وعلى الرغم من الحجم السكاني المحدود لمدينة الأصابعة، فإن السيطرة عليها تضمن تأمين الخاصرة الجنوبية لمدينة غريان والطريق المؤدية إلى الزنتان والرجبان وباقي مدن جبل نفوسة، كما تفتح الطريق نحو بلدات مزدة والقريات والشويرف التي تعدّ محطات رئيسة لقوافل الإمداد القادمة من قاعدة الجفرة الجوية.
وعلى الرغم من عدم وجود مؤشرات تدل على استعداد قوات حكومة الوفاق للتقدم نحو هذه البلدات، فإنّ استهداف القوافل المارّة عبرها بالطائرات المسيّرة طيلة الأسابيع الأخيرة حدّ بوضوح من قدرة قوات حفتر في المنطقة الغربية على الصمود، في ظل شحّ إمدادات الوقود والذخائر. ويبدو أنّ حكومة الوفاق تعوّل على سياسة الضغط المتواصل لإنضاج تفاهمات مع المكونات الاجتماعية بهذه المناطق على غرار ما جرى في قاعدة الوطية. وتذهب المؤشرات الأولية إلى إمكانية تحقيق اختراقٍ في هذا الاتجاه، في ضوء البيان الذي أصدرته قبائل مدينة مزدة، وأعلنت فيه ولاءها لحكومة الوفاق، ورغبتها في النأي بالمنطقة عن أيّ صراع مسلح.
مثّلت السيطرة على قاعدة الوطية الجوية نصرًا معنويًا كبيرًا لقوات الوفاق، يتجاوز قيمة المكسب
الميداني، على الرغم من أنّ إخراجها من الخدمة جعل العاصمة ومدن المنطقة الغربية أكثر أمنًا، غير أن ذلك لا يعني انهيار محاور جنوب العاصمة ومدينة ترهونة؛ وهما الجبهتان الأشد أهمية في محيط طرابلس، كما جرى في مدن الشريط الغربي. ويدرك حفتر وداعموه الإقليميون أنّ سقوط محاور ترهونة وجنوب العاصمة سيمثل الضربة الأكبر لمساعي السيطرة على غرب ليبيا، وأن تداعياته لن تقف عند حدود طرابلس والمنطقة الغربية. لذلك عمدت قوات حفتر إلى عمليات تفخيخ واسعة للشوارع والمزارع والمساكن والمساجد والمدارس في محاور جنوب طرابلس، لتعرقل تقدّم قوات "الوفاق"، وتمنع تطبيع الحياة وعودة المهجرين؛ ما مثّل تحديًا حقيقيًا عرقل التقدم، وأودى بحياة أعداد كبيرة من مقاتلي الوفاق في الأيام الأخيرة. وعلى الرغم من هذه الصعوبات الميدانية، ما زالت قوات "الوفاق" تتقدم ببطء وتسترجع مساحات ظلت تحت سيطرة قوات حفتر منذ نيسان/ أبريل 2019، وتقترب من ضرب طوقٍ حول مطار طرابلس وقصر بن غشير؛ وهما الموقعان الأكثر تحصينًا من بين محاور جنوب العاصمة. وفي السياق ذاته، تدرك قوة "الكانيات" (نسبة إلى عائلة الكاني) التي تشكّل النواة الصلبة لقوات حفتر في محاور ترهونة وجنوب طرابلس، أنّ سقوط محاور جنوب العاصمة سيؤدي إلى إحكام الطوق حول ترهونة.
وقد ضاعف الضغط على خطوط الإمداد وانسحاب مرتزقة "فاغنر" الروس من صعوبة المعركة التي تخوضها قوات حفتر في مواقعها الأخيرة في المنطقة، بعد أن ظل المرتزقة المدربون تدريبًا عاليًا، يؤمّنون، طوال الأشهر الأخيرة، العمليات المتقدمة على امتداد المحاور الجنوبية للعاصمة. وبالنظر إلى هذه المعطيات مجتمعةً، يبدو أنّ ما بقي من مواقع قوات حفتر في المنطقة آيلٌ للسقوط في نهاية المطاف، وإلى انتقال المعارك إلى تخوم مدينة ترهونة.
معركة ترهونة وحساباتها
تحولت مدينة ترهونة، منذ نيسان/ أبريل 2019 إلى غرفة العمليات الرئيسة في المنطقة الغربية. ومثّل دخول قوات حفتر إلى ترهونة، إلى جانب غريان، أهم المكاسب الميدانية التي حققتها في بداية هجومها على العاصمة، وتضاعفت أهميتها بعد أن تمكّنت قوات الوفاق من استرجاع مدينة غريان، أواخر حزيران/ يونيو من العام نفسه. وإلى جانب ذلك، تكتسب مدينة ترهونة أهميتها لدى قوات حفتر من موقعها الجغرافي، ومن امتدادها الاجتماعي إلى الحزام الجنوبي والشرقي للعاصمة، إذ تمثل مكونات قبائل ترهونة نسبًا متفاوتة من سكان قصر بن غشير وعين زارة ووادي الربيع وسوق الخميس ومختلف البلدات المجاورة، إضافة إلى قربها من الطريق السريعة المؤدية إلى مصراتة. وإضافة إلى القيمة التي تكتسبها من موقعها الجغرافي ومكوناتها الاجتماعية، تعدّ القوة العسكرية الرئيسة في المدينة المعروفة بـ "الكانيات" إحدى التشكيلات الأكثر تسليحًا بين التشكيلات الموالية لحفتر في المنطقتين الغربية والوسطى.
عندما بسطت قوات الوفاق الوطني سيطرتها على مدن الشريط الساحلي الغربي، توجهت صوب
مدينة ترهونة، ووصلت إلى مسافات قريبة منها، بالتزامن مع قصف الطيران المسيّر معسكرات ومواقع لقوة الكانيات داخل المدينة. وعلى الرغم من المكاسب الميدانية التي حققتها قوات الوفاق في هجومها الذي شنّته في 18 نيسان/ أبريل 2020، فقد اضطرت إلى التراجع مع الإبقاء على الحصار المضروب على معظم المنافذ المؤدية إلى الحدود الإدارية للمدينة. ويبدو أن قوات الوفاق أدركت صعوبة استنساخ سيناريو استعادة مدن الشريط الساحلي الغربي في جبهة ترهونة، وأنّ عوامل عدة تحول دون تحقيق مكاسب ميدانية في هجومٍ سريعٍ ومباغت.
في المقابل، تدرك قوة الكانيات أنّ الخيارات أمامها محدودة جدًا، وأنّ الحصار المفروض على منافذ الحدود الإدارية للمدينة واستهداف مواقعها بالطيران المسيّر، سيؤثّران، قطعًا، في قدراتها العسكرية. كما تدرك أنّ تهاوي خطوط دفاعها المتقدمة في محاور جنوب طرابلس سينعكس، سلبيًا، على الروح المعنوية لمقاتليها، وسيضيّق مساحة حركتها ميدانيًا، بما ينقل العمليات العسكرية إلى داخل المدينة نفسها. ويضاعف انسحاب المرتزقة الروس من محاور جنوب طرابلس وترهونة من عوامل الضعف الميداني الذي بدأت مؤشراته تظهر من خلال التراجع المستمر لقوات حفتر في محاور المطار وقصر بن غشير وعين زارة. وفي الآن ذاته، تمثّل الجبهة الداخلية في المدينة عامل ضعف آخر لقوة الكانيات، بالنظر إلى حملات التصفية والقتل التي مارستها في حق مكونات عائلية وقبلية وسياسية في المدينة منذ سيطرتها عليها.
قاعدة الجفرة وأسئلة الدور الروسي
تؤدي قاعدة الجفرة الجوية وظيفة متقدّمة في العمليات العسكرية لقوات حفتر منذ انطلاق هجومها على طرابلس والمنطقة الغربية، في نيسان/ أبريل 2019، فهي نقطة الوصل مع قاعدة الخادم الإماراتية جنوب مدينة المرج، ومع قاعدة سويحان الجوية في أبوظبي، حيث تُظهر تطبيقات تتبع حركة الطيران رحلاتٍ متكررةً لطائرات الشحن الإماراتية إلى القاعدة، إضافةً إلى تحولها إلى مركز تجميع للمرتزقة القادمين من دول الجوار الأفريقي. وعلى امتداد عام كامل، ظلت الإمدادات تتدفق من قاعدة الجفرة إلى قوات حفتر في المنطقة الغربية عبر الطريق المارّة من الشويرف والقريات ومزدة، غير أنّ الحركة عبر هذه الطريق شهدت تراجعًا كبيرًا بفعل الضربات المتكرّرة التي وجّهها الطيران المسيّر التابع لحكومة الوفاق لقوافل الإمداد.
وقد عادت قاعدة الجفرة الجوية لتتصدر الاهتمام في الأيام الأخيرة، بعد انسحاب أعداد كبيرة من
المرتزقة الروس من محاور جنوب طرابلس وترهونة إليها، وبعد أن كشفت القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) عن تمركز 14 طائرة عسكرية روسية فيها لدعم المجهود العسكري لقوات حفتر. وعلى الرغم من أنّ الانحياز الروسي لمعسكر حفتر ليس جديدًا، فإنّ وصول طائرات عسكرية من طراز ميغ وسوخوي إلى هذه القاعدة الاستراتيجية، وما رافقه من ردود فعل أميركية، يطرح أسئلة عديدة عن مهمات القوة الجوية الروسية وعن حدود الأدوار التي يمكن أن تؤديها في ظل الانتكاسة المتواصلة التي لحقت بقوات حفتر، وعلاقة ذلك بالدعم التركي لحكومة الوفاق، والذي كان أهم أسباب انقلاب المشهد العسكري لصالحها. وفي حين، لا تزال القيادة الروسية تلتزم الصمت بشأن تفاصيل التدخل المباشر في ليبيا، اكتفت وسائل الإعلام الروسية بالإشارة إلى تصريح مقتضب لنائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الاتحاد الروسي ينفي فيه الخبر، ما زاد من الشكوك بشأن النوايا الروسية وتداعيات تدخّلها الواسع في الشأن الليبي المعقد والمفتوح على احتمالات عديدة.
ومن الواضح أنّ التراجع في المنطقة الغربية أثّر في وضع حفتر السياسي في المنطقة الشرقية، ولكنه لا يتراجع هناك لصالح حكومة الوفاق، وإنما لفائدة قوى محلية؛ لقد ثبت أنّ حفتر غير قادر على حكم ليبيا أو توحيدها، ولكن إنجازات حكومة الوفاق التي تحظى بشرعية دولية ما زالت مقتصرة على المنطقة الغربية، وحتى في هذه المنطقة لم تنجح الحكومة بعد في تشكيل جيشٍ وطني موحد وحلّ المليشيات المحلية أو صهرها فيه، ما يطرح السؤال الكبير حول مستقبل ليبيا وضرورة التوصل إلى حل سياسي يضمن وحدتها مستقبلًا في دولة واحدة ذات سيادة.
خاتمة
باستعادة السيطرة على قاعدة الوطية، والتقدم على محاور جنوب طرابلس، ومحاصرة الحدود الإدارية لمدينة ترهونة، واستهداف خطوط إمداد قوات حفتر، تقترب حكومة الوفاق من إعادة المشهد في المنطقة الغربية إلى ما كان عليه عشية الرابع من نيسان/ أبريل 2019. وتسعى حكومة الوفاق خلال المرحلة المقبلة إلى تثبيت هذه المكاسب الميدانية من خلال حسم الموقف العسكري جنوب العاصمة وفي مدينة ترهونة، في انتظار اتضاح مدى التدخّل العسكري الروسي المباشر وعمقه، والتداعيات التي سيتركها على الصراع في ليبيا التي تتجه على ما يبدو لتتحول ساحة مواجهة إقليمية ودولية رئيسة خلال الفترة المقبلة.
إنّ الضامن الوحيد لعدم حصول ذلك هو تهميش حفتر سياسيًا ووقف الحرب وتوصّل السياسيين في المنطقتين الشرقية والغربية إلى حلٍّ سياسي، يُبنى من خلاله جيشٌ وطني موحّد، بحيث لا يحتاج أيّ طرف إلى قوى دولية تدعمه في نزاعٍ ليبي داخلي؛ فلا يوجد دعمٌ خارجي من دون ثمن.
تقع قاعدة الوطية الجوية جنوب غرب طرابلس، وتبعد عنها مسافة 140 كيلومترًا، وتتبع إداريًا مدينة الجميل، ولا يفصلها عن الحدود التونسية سوى 27 كيلومترًا. أنشأت القوات الأميركية القاعدة عام 1942، في أثناء الوصاية الأميركية البريطانية الفرنسية على ليبيا، خلال الحرب العالمية الثانية، وتم تطوير بنيتها التحتية ومنشآتها في أثناء حكم معمر القذافي، وأصبحت قادرة على استيعاب أعداد كبيرة من الطائرات فضلًا عن 7000 عسكري. تقع القاعدة في وسطٍ جغرافي خالٍ من السكان، ويتاخمها محيطٌ تضاريسي يوفر تحصيناتٍ طبيعيةً لها. تعرّضت القاعدة لقصفٍ جوي من قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 2011 قبل أن تسيطر عليها تشكيلات عسكرية من الزنتان والمكونات القبلية المتحالفة معها. وعادت القاعدة إلى واجهة الأحداث عام 2014 عقب الانقسام الذي صاحب إطلاق حفتر "عملية الكرامة" وتحالف قوات الزنتان معه. ومنذ ذلك التاريخ، ظلت القاعدة أحد المواقع المتقدمة لـ "عملية الكرامة" في المنطقة الغربية.
اضطلعت القاعدة بأدوار عسكرية مهمة، منذ إطلاق حفتر الهجوم على العاصمة طرابلس، العام
منذ إطلاق حكومة الوفاق الوطني عملية "عاصفة السلام"، تعرّضت القاعدة لسلسلة ضربات جوية نفذتها طائرات مسيّرة، ألحقت أضرارًا بالغة بتجهيزاتها وبنيتها التحتية، وأدّت إلى مقتل عددٍ من الأفراد المتحصنين فيها؛ وهم، أساسًا، من الرجبان والزنتان والفارّين من مدن الساحل الغربي، بينهم آمرها أسامة مسيك. وكانت قوات مشتركة تابعة لحكومة الوفاق حاولت اقتحام القاعدة والسيطرة عليها، في 5 أيار/ مايو 2020، غير أنها اضطرت إلى التراجع، بعد أن تكبدت خسائرَ بشرية، لتعيد الكرة في 18 أيار/ مايو، وتبسط سيطرتها الكاملة على القاعدة إثر انسحاب المسلحين التابعين لحفتر منها. ويبدو أنّ انقطاع الإمدادات عن المتحصنين بالقاعدة، والضغط العسكري والخسائر البشرية والمادية التي ألحقتها الضربات الجوية المتواصلة بهم، على امتداد أسابيع، إضافة إلى ترتيباتٍ أجرتها حكومة الوفاق مع مكونات اجتماعية في المنطقة ضمنت سيطرة قوات "الوفاق" عليها مقابل السماح بانسحاب مسلّحي الزنتان والرجبان نحو مناطقهم، ومغادرة الآخرين إلى مناطق واقعة ضمن نفوذ حفتر.
حسم محاور العاصمة
بعد أن استعادت قوات حكومة الوفاق السيطرة على جميع مدن الساحل الغربي وقاعدة الوطية، يظل أمامها ثلاث جبهات عسكرية مهمة لتأمين العاصمة والمنطقة الغربية بالكامل، وتعزيز مواقعها التفاوضية في أي تسويةٍ سياسيةٍ قادمة. وتتمثل هذه الجبهات في محاور جنوب طرابلس، وترهونة، وسرت - الجفرة. وعلى الرغم من أن السياق العام للمعركة يظهر على شكل حلقات مترابطة تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى، فإنّ تفاصيلَ ميدانية واجتماعية كثيرة تجعل لكل جبهة وضعًا خاصًا بها.
وما إن تمت استعادة الوطية، حتى بادرت القوات الداعمة لحكومة الوفاق إلى التحرّك نحو مدينة الأصابعة التي كانت أحد المنافذ التي دخلت منها قوات حفتر إلى غريان ثم طرابلس في 4 نيسان/ أبريل 2019، وسيطرت عليها بعد اشتباكاتٍ دامت يومًا واحدًا. وعلى الرغم من الحجم السكاني المحدود لمدينة الأصابعة، فإن السيطرة عليها تضمن تأمين الخاصرة الجنوبية لمدينة غريان والطريق المؤدية إلى الزنتان والرجبان وباقي مدن جبل نفوسة، كما تفتح الطريق نحو بلدات مزدة والقريات والشويرف التي تعدّ محطات رئيسة لقوافل الإمداد القادمة من قاعدة الجفرة الجوية.
وعلى الرغم من عدم وجود مؤشرات تدل على استعداد قوات حكومة الوفاق للتقدم نحو هذه البلدات، فإنّ استهداف القوافل المارّة عبرها بالطائرات المسيّرة طيلة الأسابيع الأخيرة حدّ بوضوح من قدرة قوات حفتر في المنطقة الغربية على الصمود، في ظل شحّ إمدادات الوقود والذخائر. ويبدو أنّ حكومة الوفاق تعوّل على سياسة الضغط المتواصل لإنضاج تفاهمات مع المكونات الاجتماعية بهذه المناطق على غرار ما جرى في قاعدة الوطية. وتذهب المؤشرات الأولية إلى إمكانية تحقيق اختراقٍ في هذا الاتجاه، في ضوء البيان الذي أصدرته قبائل مدينة مزدة، وأعلنت فيه ولاءها لحكومة الوفاق، ورغبتها في النأي بالمنطقة عن أيّ صراع مسلح.
مثّلت السيطرة على قاعدة الوطية الجوية نصرًا معنويًا كبيرًا لقوات الوفاق، يتجاوز قيمة المكسب
وقد ضاعف الضغط على خطوط الإمداد وانسحاب مرتزقة "فاغنر" الروس من صعوبة المعركة التي تخوضها قوات حفتر في مواقعها الأخيرة في المنطقة، بعد أن ظل المرتزقة المدربون تدريبًا عاليًا، يؤمّنون، طوال الأشهر الأخيرة، العمليات المتقدمة على امتداد المحاور الجنوبية للعاصمة. وبالنظر إلى هذه المعطيات مجتمعةً، يبدو أنّ ما بقي من مواقع قوات حفتر في المنطقة آيلٌ للسقوط في نهاية المطاف، وإلى انتقال المعارك إلى تخوم مدينة ترهونة.
معركة ترهونة وحساباتها
تحولت مدينة ترهونة، منذ نيسان/ أبريل 2019 إلى غرفة العمليات الرئيسة في المنطقة الغربية. ومثّل دخول قوات حفتر إلى ترهونة، إلى جانب غريان، أهم المكاسب الميدانية التي حققتها في بداية هجومها على العاصمة، وتضاعفت أهميتها بعد أن تمكّنت قوات الوفاق من استرجاع مدينة غريان، أواخر حزيران/ يونيو من العام نفسه. وإلى جانب ذلك، تكتسب مدينة ترهونة أهميتها لدى قوات حفتر من موقعها الجغرافي، ومن امتدادها الاجتماعي إلى الحزام الجنوبي والشرقي للعاصمة، إذ تمثل مكونات قبائل ترهونة نسبًا متفاوتة من سكان قصر بن غشير وعين زارة ووادي الربيع وسوق الخميس ومختلف البلدات المجاورة، إضافة إلى قربها من الطريق السريعة المؤدية إلى مصراتة. وإضافة إلى القيمة التي تكتسبها من موقعها الجغرافي ومكوناتها الاجتماعية، تعدّ القوة العسكرية الرئيسة في المدينة المعروفة بـ "الكانيات" إحدى التشكيلات الأكثر تسليحًا بين التشكيلات الموالية لحفتر في المنطقتين الغربية والوسطى.
عندما بسطت قوات الوفاق الوطني سيطرتها على مدن الشريط الساحلي الغربي، توجهت صوب
في المقابل، تدرك قوة الكانيات أنّ الخيارات أمامها محدودة جدًا، وأنّ الحصار المفروض على منافذ الحدود الإدارية للمدينة واستهداف مواقعها بالطيران المسيّر، سيؤثّران، قطعًا، في قدراتها العسكرية. كما تدرك أنّ تهاوي خطوط دفاعها المتقدمة في محاور جنوب طرابلس سينعكس، سلبيًا، على الروح المعنوية لمقاتليها، وسيضيّق مساحة حركتها ميدانيًا، بما ينقل العمليات العسكرية إلى داخل المدينة نفسها. ويضاعف انسحاب المرتزقة الروس من محاور جنوب طرابلس وترهونة من عوامل الضعف الميداني الذي بدأت مؤشراته تظهر من خلال التراجع المستمر لقوات حفتر في محاور المطار وقصر بن غشير وعين زارة. وفي الآن ذاته، تمثّل الجبهة الداخلية في المدينة عامل ضعف آخر لقوة الكانيات، بالنظر إلى حملات التصفية والقتل التي مارستها في حق مكونات عائلية وقبلية وسياسية في المدينة منذ سيطرتها عليها.
قاعدة الجفرة وأسئلة الدور الروسي
تؤدي قاعدة الجفرة الجوية وظيفة متقدّمة في العمليات العسكرية لقوات حفتر منذ انطلاق هجومها على طرابلس والمنطقة الغربية، في نيسان/ أبريل 2019، فهي نقطة الوصل مع قاعدة الخادم الإماراتية جنوب مدينة المرج، ومع قاعدة سويحان الجوية في أبوظبي، حيث تُظهر تطبيقات تتبع حركة الطيران رحلاتٍ متكررةً لطائرات الشحن الإماراتية إلى القاعدة، إضافةً إلى تحولها إلى مركز تجميع للمرتزقة القادمين من دول الجوار الأفريقي. وعلى امتداد عام كامل، ظلت الإمدادات تتدفق من قاعدة الجفرة إلى قوات حفتر في المنطقة الغربية عبر الطريق المارّة من الشويرف والقريات ومزدة، غير أنّ الحركة عبر هذه الطريق شهدت تراجعًا كبيرًا بفعل الضربات المتكرّرة التي وجّهها الطيران المسيّر التابع لحكومة الوفاق لقوافل الإمداد.
وقد عادت قاعدة الجفرة الجوية لتتصدر الاهتمام في الأيام الأخيرة، بعد انسحاب أعداد كبيرة من
ومن الواضح أنّ التراجع في المنطقة الغربية أثّر في وضع حفتر السياسي في المنطقة الشرقية، ولكنه لا يتراجع هناك لصالح حكومة الوفاق، وإنما لفائدة قوى محلية؛ لقد ثبت أنّ حفتر غير قادر على حكم ليبيا أو توحيدها، ولكن إنجازات حكومة الوفاق التي تحظى بشرعية دولية ما زالت مقتصرة على المنطقة الغربية، وحتى في هذه المنطقة لم تنجح الحكومة بعد في تشكيل جيشٍ وطني موحد وحلّ المليشيات المحلية أو صهرها فيه، ما يطرح السؤال الكبير حول مستقبل ليبيا وضرورة التوصل إلى حل سياسي يضمن وحدتها مستقبلًا في دولة واحدة ذات سيادة.
خاتمة
باستعادة السيطرة على قاعدة الوطية، والتقدم على محاور جنوب طرابلس، ومحاصرة الحدود الإدارية لمدينة ترهونة، واستهداف خطوط إمداد قوات حفتر، تقترب حكومة الوفاق من إعادة المشهد في المنطقة الغربية إلى ما كان عليه عشية الرابع من نيسان/ أبريل 2019. وتسعى حكومة الوفاق خلال المرحلة المقبلة إلى تثبيت هذه المكاسب الميدانية من خلال حسم الموقف العسكري جنوب العاصمة وفي مدينة ترهونة، في انتظار اتضاح مدى التدخّل العسكري الروسي المباشر وعمقه، والتداعيات التي سيتركها على الصراع في ليبيا التي تتجه على ما يبدو لتتحول ساحة مواجهة إقليمية ودولية رئيسة خلال الفترة المقبلة.
إنّ الضامن الوحيد لعدم حصول ذلك هو تهميش حفتر سياسيًا ووقف الحرب وتوصّل السياسيين في المنطقتين الشرقية والغربية إلى حلٍّ سياسي، يُبنى من خلاله جيشٌ وطني موحّد، بحيث لا يحتاج أيّ طرف إلى قوى دولية تدعمه في نزاعٍ ليبي داخلي؛ فلا يوجد دعمٌ خارجي من دون ثمن.