تونس وبرنامج حكومة الفخفاخ

06 مارس 2020

الفخفاخ عند تقديم يبرنامج حكومته للبرلمان (26/2/2020/فرانس برس)

+ الخط -
عرض رئيس الحكومة التونسية الجديد، إلياس الفخفاخ، ملامح برنامج عمل فريقه الحكومي في وثيقة تعاقدية وقّعت عليها الأحزاب الداعمة له (حركة النهضة، التيّار الديمقراطي، تحيا تونس، حركة الشعب، كتلة الإصلاح)، وتضمّنت مبادئ أساسية، أهمّها التزام قيم الثورة، واستكمال تحقيق أهدافها، وترسيخ المسار الديمقراطي، وضمان الحرية، والكرامة، والعدالة لعموم المواطنين، والوفاء لمحامل الدستور، وتعزيز علوية القانون، ولزوم الشفافية والنزاهة، والعمل على بلورة حكم تشاركي مع مكوّنات المجتمع المدني (الأحزاب، النقابات، الجمعيات …). وأعلن الرّجل عزمه على "تغليب المصلحة الوطنية والانحياز الصادق لإرادة الشعب لتحقيق الاستقرار المطلوب بروح تسودها المسؤولية والتضامن"، فأعرب بذلك عن التزام أخلاقي/ رسمي تجاه المواطنين بالوفاء لروح الثورة وتحقيق مطالبها من ناحية، والعمل على إرساء دولة الحق والواجب ولزوم الشفافية من ناحية أخرى، وبعث بذلك رسائل طمأنة مهمة إلى الرأي العام، المحلي والدولي، مؤدّاها أن الحكومة الجديدة لن تنقلب على الثورة، على الرغم من وجود بعض وجوه النظام القديم فيها، ولن تكون نافذة لعودة الاستبداد أو الارتداد عن المكاسب الحقوقية التي غنمها التونسيون بعد الثورة. وقدّم الفخفاخ يوم 26 الشهر الماضي (فبراير/ شباط) أمام مجلس نواب الشعب مشروعه البرامجي الإصلاحي، مركّزاً على أولويات ومشاريع كبرى ستكون مدار العمل الحكومي خلال السنوات الخمس المقبلة. ما هي تلك الأولويات على جهة التفصيل؟ ما هي آليات تنفيذها؟ وإلى أي مدىً يمكن التسليم بواقعيتها وإمكان تحقيقها في السياق التونسي الراهن بتعقيداته المختلفة؟
استحضر الفخفاخ، في خطابه البرامجي، ملفات حيويّة اعتبرها من أولويات حكومته، وفي مقدمتها الملفات: الأمني والاقتصادي والاجتماعي والإداري. فعلى الصعيد الأمني، أكد ضرورة بسط
 الأمن والاستقرار، ومقاومة كلّ أشكال العنف، والإرهاب، والجريمة المنظمة، مخبراً أنّ الدولة ستكون صارمة في هذا الخصوص، مشدّدة العقوبة على كلّ من يتجرّأ على تهديد أمن التونسيين وتقويض السلم الاجتماعي، متعهداً بأن الحكومة ستعمل على تعزيز مقوّمات الأمن الجمهوري. ويستمدّ تقديم الهاجس الأمني واقعيته من أنّ الانتقال الديمقراطي ما انفكّ يعاني مخاطر التهديد الإرهابي الذي تراجع نسبيّاً. لكنّه ما زال كامناً في المرتفعات الجبلية، وفي المناطق الطرفية، وعلى الحدود مع ليبيا. يضاف إلى ذلك أنّ الاجتماع التونسي شهد، في السنوات الأخيرة، تزايد نسبة الجريمة المنظمة، من قبيل أعمال السلب، والنهب، والسرقة، والاعتداء على الأملاك الخاصّة. والحاجة أكيدة لأن تضطلع الدولة بدورها في إشاعة الأمن العام، وحماية المواطنين حتّى يشعروا بالطمأنينة، ويطيب لهم العمل والمقام في البلاد. لكنّ الاقتصار على المقاربة الأمنية/ الردعية لمعالجة تفشّي الجريمة يبقى مقاربة مبتورة للظاهرة، فمن المهمّ الاستعانة باستراتيجية تضافر المناهج وتعدّد الاختصاصات لفهم الخلفيّات النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأخلاقية، والثقافية التي ساهمت في إنتاج الجريمة، والعمل على الحدّ منها وتجفيف منابعها وفق مقاربة تكاملية، شاملة، مستدامة وناجعة.
على الصعيد الاقتصادي، تسلّم إلياس الفخفاخ مقاليد الحكم في ظلّ واقع اقتصادي مأزوم، فمعظم المؤشرات في هذا المجال الحيوي سلبيّة. ذلك أنّ نسبة النمو لم تتجاوز حدود 1% سنة 2019. فيما يُقدّر الدَّيْن العام الخارجي بـ28 مليار دولار، وبلغت نسبة التضخّم 5.9% خلال يناير/ كانون الثاني الماضي، بينما يبلغ العجز في الموازنة 3.5% من الناتج المحلّي الإجمالي. وأفاد المعهد التونسي للإحصاء بأن العجز التجاري بلغ 346.6 مليون دولار خلال الفترة نفسها. ويبدو أنّ رئيس الحكومة الجديد وفريقه الاستشاري على دراية بصعوبة الأوضاع المالية التي تمرّ بها البلاد، ولذلك جاء برنامج الفخفاخ مثقلاً بمحامل اقتصاديّة كثير، فنبّه إلى أنّ الدولة ستكون جادّة في مكافحة الفساد، والاحتكار، والتهريب، وإهدار المال العام، وستعمل على تقديم الدعم العاجل للمؤسّسات التي تُشكّل ركيزة الاقتصاد الوطني، وستتخذ تدابير لتقليص العجز التجاري، والحدّ من نسبة التضخّم، مع المحافظة على قيمة الدينار التونسي، وحماية المنتج المحلّي من سطوة المنافس الأجنبي، ورفع العراقيل عن التصدير، وتشجيع المستثمرين من خلال تسريع المتطلّبات الإدارية وتبسيطها، مشيراً إلى أنه لا يمكن تطوير المنجز الاقتصادي، والحال أنّ نسبة الاستثمار لا تتجاوز 18% من الناتج المحلي الخام. وأكّد، في سياق متّصل، ضرورة استعادة النسق المستدام لإنتاج الفوسفات، واعتماد حلّ شامل ونموذجي لتجاوز أزمة الحوض المنجمي.
ومعلوم أنّ هذه التوجّهات الإصلاحية محمودة، وتلتقي مع مطالب مهمةٍ وحاجات ملحةٍ بالنسبة إلى المواطن التونسي. ولكن رئيس الحكومة لم يقدّم خطة تفصيلية واضحة، لتحقيق ما قدّمه من 
وعود، فلا نجد في برنامجه قولاً مفصّلاً في كيفيات إصلاح المؤسسات العمومية، وآليات حلّ معضلات المديونية، والتضخّم، والعجز التجاري، وسبل التحكّم في التوريد وكسب معركة التنافسية. كذلك لم يفصح في برنامجه عن آليات يقترحها لتنظيم السوق ومقاومة التهريب والاحتكار والمضاربة، ولا عن طرق تعبئة الموارد الضرورية للموازنة السنوية العامّة. فغلب بذلك، العموم على التفصيل في برنامجه الاقتصادي، ويخشى معظم التونسيين من أن يستمرّ استنزاف جيوبهم خلال السنوات الخمس المقبلة، بسبب تضخّم الأسعار، وتراجع الدعم، وتكثير الضرائب في ظلّ توقع محافظ البنك المركزي التونسي، مروان العباسي، مطلع الشهر المنقضي (فبراير/ شباط)، أن "تشهد تونس، بين سنتي 2020 و2025 سلسلة من الضغوط المالية بسبب حلول آجال السداد السنوي لأصول رقاعية واستحقاقات لقروض صندوق النقد الدولي".
في مستوى الواقع الاجتماعي، تعاني الحالة التونسية من ارتفاع نسبة البطالة (14.9%)، خصوصاً في صفوف خرّيجي الجامعات الذين يجدون صعوبة في الانخراط في سوق الشغل، لقلّة المؤسّسات التشغيلية الجديدة، ولتراجع الدور الاجتماعي للدولة، ويقدّر عدد العاطلين من العمل بـ623 ألفاً، معظمهم يتخرّج من المؤسّسات التعليمية، ليُصبح عالةً على الأسرة، وبعضهم يمارس أعمالاً عرضية، عابرة. والعاملون في القطاع العمومي أو الخاص يتقاضون أجوراً محدودة، مجمّدة، لا تواكب نسق ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة. وأدّى ذلك عملياً إلى انحسار الطبقة الوسطى، وامتداد جيوب الفقر، خصوصاً في المناطق الداخلية والطرفية. ووعد إلياس الفخفاخ بإيجاد آليةٍ، لم يُفصح عن محتواها، لمعالجة ملف المباشرين لعمل مؤقّت، مثل عمّال الحضائر والأساتذة والمعلّمين النوّاب. ولم يقدّم بعد استراتيجية واضحة، مفصّلة لمكافحة آفة الفقر.
على صعيد آخر، أبدى إلياس الفخفاخ حماسةً في المستوى الإداري لإكمال مشروع بناء اللامركزية، وتفعيل الحكم المحلّي لتحقيق التنمية الجهوية الشاملة، وترسيخ الديمقراطية التشاركية، غير أنّه لم يوضّح آليات نقل الصلاحيات والموارد المالية والبشرية من المركز إلى المحلّيات. وأكّد ضرورة تأهيل الموظفين، وعصرنة الإدارة ورقمنتها لتكون رافعةً للتنمية، وسبيلاً لتحقيق التحوّل الرقمي، واعداً بأن تكون تونس منصّةً بارزةً للرقميات والمعلوماتية. ويساهم هذا التوجّه، في حال تحقيقه، في تأمين انخراط فاعل في دورة المجتمع الشبكي والاقتصاد الرقمي، ويحدّ من البيروقراطية العقيمة، ويضمن تسريع توفير الخدمات الإدارية لعموم المواطنين والأجانب.
ختاماً، يمكن القول إنّ برنامج حكومة الفخفاخ، على الرغم من تأكيده دعم التجربة الديمقراطية 
التونسية، ووعده بالقيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وإدارية، ورفعه شعار "حكومة الوضوح وإعادة الثقة"، فإنه يبقى من الناحية العملية برنامجاً لا يتجاوز مستوى إعلان النيات. ذلك أنه لا يقدم جدولاً زمنياً واضحاً لتحقيق ما أعلنه من وعود، ولكسب ثقة التونسيين. كذلك فإنه لا يضبط مخططاً مفصلاً لحل المشكلات العالقة التي تعاني منها البلاد، ولا يرتكز على رؤية استراتيجية استشرافية لمقدّرات تونس وإمكاناتها واحتياجاتها على المديين، المنظور والبعيد. وهو ما قد ينعكس سلباً على أداء الحكومة الائتلافية في المرحلة المقبلة. ويحتاج الانتقال بذلك البرنامج من الوعد إلى التنفيذ، إلى تضامن مكوّنات الفريق الحكومي، وإلى بلورة استراتيجية تفصيلية واضحة لتعبئة حاجيات الخزينة العامّة للدولة، وكذا إلى توافر إرادة سياسية/ نقابية جادّة لإعمال سياسات الإصلاح وإعادة البناء في مجالات حيويّة شتّى.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.