الصوت العربي في الكنيست والتوصية على غانتس

23 مارس 2020

عربية تقترع في الانتخابات الإسرائيلية بمدينتها طمرة (2/3/2020/فرانس برس)

+ الخط -
حققت القائمة العربية المشتركة إنجازا مهما غير مسبوق في انتخابات البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) التي جرت في 2 مارس/ آذار الجاري، فقد حصلت على 581 ألف صوت في هذه الانتخابات، مقابل 470 ألف صوت في الانتخابات السابقة في سبتمبر/ أيلول 2019. أي أنها زادت عدد مصوتيها بـ111 ألف صوت، ومكّنتها هذه الزيادة من الحصول على 15 مقعدا من مقاعد الكنيست الـ 120، مقابل 13 مقعدا في انتخابات سبتمبر. وقد تحقق هذا الإنجاز بفضل زيادة نسبة مشاركة العرب في هذه الانتخابات وحصول القائمة العربية المشتركة على نحو 95% من أصوات الناخبين العرب، باستثناء القرى العربية الدرزية التي استمر نحو 80% فيها يصوتون للأحزاب الصهيونية، بينما منح نحو 20% منهم أصواتهم للقائمة المشتركة. وقد زادت نسبة مشاركة العرب في هذه الانتخابات بشكل ملحوظ، إذ بلغت 65%، في مقابل 59.3% في انتخابات سبتمبر، و49.2% في انتخابات إبريل/ نيسان 2019. 
تعاملت القائمة العربية المشتركة في هذه الانتخابات مع مسألة التوصية على رئيس حزب أزرق أبيض، الجنرال بيني غانتس، بتشكيل حكومة، بشكل أفضل من تعاملها مع هذه المسألة في الانتخابات السابقة، فقد استفادت الأحزاب التي تشكل القائمة المشتركة (الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة التي يقودها الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وحزب التجمع الوطني الديمقراطي، والحركة الإسلامية الجنوبية، والحركة العربية للتغيير) من تجربتها السابقة، وحاولت تجنب الوقوع في الأخطاء التي ارتكبتها بشأن التوصية على غانتس، كان أبرزها دعوة رئيس القائمة، أيمن عودة، عشية الانتخابات السابقة، من دون الرجوع إلى حزبه ولا إلى القائمة المشتركة، ليس فقط إلى التوصية على غانتس بتشكيل الحكومة، وإنما أيضا إلى دخول القائمة الحكومة الإسرائيلية التي يتم تشكيلها بعد تلك الانتخابات. واشترط عودة ذلك بقبول غانتس استئناف المفاوضات مع السلطة الوطنية الفلسطينية، علما بأن السلطة هي التي أوقفت المفاوضات مع 
الحكومة الإسرائيلية، لأن الأخيرة كانت تستعمل المفاوضات غطاء لاستمرار تعزيز الاستيطان. وقد أثارت تلك الدعوة سخطا شديدا في أوساط الحركة الوطنية، لخروجها عن الإجماع الذي بلورته الحركة الوطنية بأحزابها المختلفة في العقود الماضية، والذي يحرّم الدخول إلى الحكومات الإسرائيلية لأنها تدعم الاحتلال وتعزز الاستيطان والتهويد وترفض الانسحاب من المناطق العربية المحتلة في 1967، وتمارس القمع القومي والتمييز العنصري ضد العرب الفلسطينيين في داخل إسرائيل.
إلى جانب ذلك، رضخت قيادات الجبهة والحركة العربية للتغيير والحركة الإسلامية لقيادة حزب أزرق أبيض التي رفضت إجراء مفاوضات رسمية بين الطرفين على شروط توصية القائمة المشتركة على غانتس، واكتفت بإجراء اتصالاتٍ سرّية غير ملزمة. وبدا من تصريحات قادة الأحزاب الثلاثة جموح كبير للتوصية على غانتس، من دون الحصول على مكاسب ملموسة لجمهور ناخبيهم، ومن دون الحفاظ على الكرامة الوطنية. في تلك الأجواء، رفض حزب التجمع الوطني الديمقراطي تقديم التوصية على غانتس لتشكيل الحكومة لأسباب أيديولوجية مبدئية وسياسية، مشدّدا على الجوانب الأيديولوجية المبدئية، ومخالفا بذلك موقف الأحزاب الثلاثة الأخرى التي أوصت بتكليف بيني غانتس لتشكيل الحكومة.
وعلى إثر فشل غانتس في تشكيل الحكومة، وازدياد النقد على كيفية تعامل القائمة المشتركة مع التوصية، راجعت الأحزاب العربية الأربعة موقفها من التوصية. وفي هذا السياق، أبلغت قيادة الجبهة رسميا الأحزاب الثلاثة الأخرى في القائمة المشتركة أن أيمن عودة لا يمثل الجبهة في علاقاتها مع مكونات القائمة المشتركة، وأنها استبدلته بعضو الكنيست، عايدة توما، لهذه المهمة، في محاولة من الجبهة لكبح اندلاق أيمن عودة تجاه حزب أزرق أبيض بشكل خاص، والمجتمع الإسرائيلي بشكل عام، ولعدم التزامه بالعمل وفق الضوابط الحزبية. كما عينت الجبهة، عشية 
المفاوضات بين القائمة المشتركة، عايدة توما في مكان أيمن عودة في وفد القائمة المشتركة المفاوض مع حزب أزرق أبيض بشأن التوصية.
أما حزب التجمع فقرّر، عشية المفاوضات بين القائمة المشتركة وحزب أزرق أبيض، المشاركة في هذه المفاوضات، وعدم تركها للأحزاب الثلاثة الأخرى، في محاولة منه لتعزيز موقف القائمة في هذه المفاوضات، وكذلك للتشديد على أنه يسعى إلى إحداث توازن مدروس بين موقفه الأيديولوجي المبدئي الرافض للتوصية على غانتس وموقفه السياسي الذي يأخذ بالحسبان بجدّية مسألة الربح والخسارة التي تجنيها القائمة المشتركة من التوصية، لا سيما في ما يخص المطالب التي على حزب أزرق أبيض الاستجابة لها مقابل حصوله على هذه التوصية.
بالإضافة إلى ذلك، اتفقت الأحزاب الأربعة ألا تجري مفاوضات، رسمية أو غير رسمية، مع "أزرق أبيض"، إلا بعد تقديمه طلباً رسمياً وعلنياً للقائمة المشتركة. واتفقت أيضا على تقديم مطالب تعالج هموم العرب الفلسطينيين في إسرائيل وقضاياهم الملحّة، وفي مقدمتها إلغاء قانون كمينتس الذي يسهل هدم البيوت العربية، ويفرض الغرامات العالية على أصحابها، ووضع خطة حكومية شاملة لمكافحة العنف والجريمة في البلدات العربية، وإقامة لجنة برلمانية لمتابعة هذه القضية، ووضع خطة اقتصادية شاملة لتطوير الاقتصاد العربي، ووضع خطة حكومية شاملة لحل مشكلة القرى العربية في النقب غير المعترف بها، ومراجعة قضية بلدتي إقرث وبرعم، ومعالجة موضوع السيطرة الإسرائيلية على الأوقاف الإسلامية والمسيحية ومكافحة تسريبها، والتأكيد على رفض العنصرية والتحريض العنصري ضد العرب الفلسطينيين في إسرائيل، وضد قياداتهم المنتخبة ديمقراطيا، والعمل على إيجاد أجواء إيجابية تجاههم، بالإضافة إلى مطالب عديدة متعلقة بالقضية الفلسطينية وصفقة القرن.
وقد عقد وفد القائمة المشتركة اجتماعين رسميين مع وفد حزب أزرق أبيض الذي التزم العمل على تحقيق مطالب المشتركة في ما يخص قضايا العرب الفلسطينيين في داخل إسرائيل، وبعدم 
القيام بخطوات أحادية الجانب في ما يخص صفقة القرن.
ولم يكن سهلا على القائمة المشتركة التوصية على غانتس، لا سيما في ضوء تصريحاته، في الحملة الانتخابية، عن ضرورة أن تحظى الحكومة التي يعتزم تشكيلها على أغلبية يهودية في الكنيست، ورفض استنادها إلى دعم القائمة العربية المشتركة من خارج الائتلاف الحكومي، علاوة على سجله العسكري وارتكاب الجيش الإسرائيلي مجازر في قطاع غزة تحت قيادته، عندما كان رئيسا لهيئة الأركان. ولكن بعد استجابة حزب أزرق أبيض لمطالب القائمة المشتركة، قرّرت الجبهة والحركة الإسلامية الجنوبية والحركة العربية للتغيير التوصية على غانتس. واتخذ حزب التجمع قرارا مركّبا في هذه المرة من التوصية بعد معاناة ونقاش مستفيض في مكتبه السياسي ولجنته المركزية التي اتخذت، بأغلبية أعضائها، قرارا برفض التوصية، لكنها أكدت، في الوقت نفسه، قبولها بقرار الأغلبية في القائمة المشتركة وبالتزام الحزب به، وذلك بخلاف الموقف الذي اتخذه "التجمع" بعد انتخابات سبتمبر، حين أكد رفضه التوصية، وأصرّ على أن تكون توصية القائمة المشتركة باسم ثلاثة أحزاب فقط. وقد اتخذت اللجنة المركزية القرار بأغلبية ثلثين مقابل ثلث أعضاء اللجنة الذين تمسّكوا في نقاشهم بالموقف السابق الرافض للتوصية، والذين شددوا على الموقف المبدئي من غانتس بأنه مجرم حرب، وعلى أن الفروق بينه وبين بنيامين نتنياهو ضئيلة، وعلى أن غانتس سيستعمل التوصية للوصول إلى حكومة وحدة وطنية مع حزب الليكود، وعلى أن المطالب التي وافق عليها حزب أزرق أبيض أقل من المطلوب. أما الأغلبية في اللجنة المركزية، والتي دعمت عمليا التوصية على غانتس، تحت غطاء قبول قرار الأغلبية في القائمة المشتركة، وأخذت بالاعتبار جميع النقاش، فقد شدّدت على صعوبة الخيار الذي يقف أمامه "التجمع"، وأنه ليس بين جيد وسيئ، وإنما بين السيئ والأسوأ، وأكدت أن المصلحة الوطنية والحزبية والأخلاقية تستدعي إسقاط نتنياهو، لأنه في كل الأحوال أسوأ من بديله، فهو الذي يقود المعسكر اليميني المتطرف بشقيه الديني والعلماني، وما انفك يبث سموم العنصرية والكراهية في المجتمع الإسرائيلي ضد العرب الفلسطينيين داخل إسرائيل، ووضع تحريضه العنصري ضدهم في قمة أولوياته في حملاته الانتخابية في السنوات الأخيرة، وعمل بكل قوته على نزع شرعية التمثيل العربي في الكنيست، لتسهيل قمعهم قوميا، وقاد في العقد الأخير سن القانون العنصري تلو الآخر في الكنيست ضد الشعب الفلسطيني، لا سيما قانون القومية. إلى جانب ذلك، يسعى نتنياهو إلى تصفية القضية الفلسطينية، من خلال مبادرته وتنسيقه الكامل مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في طرح ما سمي صفقة القرن. كما أنه، إذا ما شكل الحكومة، سيعمل على ضم الأغوار والمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الفلسطينية ومناطق واسعة من الضفة الفلسطينية إلى إسرائيل.
إلى جانب ذلك، لا يمكن أن يحصل غانتس، في هذه المرة، على تكليف تشكيل الحكومة من رئيس الدولة من دون دعم كامل من القائمة المشتركة، وذلك نتيجة ميزان القوى الذي أفرزته انتخابات الكنيست. وفي حالة عدم التوصية لصالح غانتس، فسيحصل نتنياهو على هذا التوكيل الذي يزيد من فرصه لتشكيل الحكومة. وقد سعى قرار اللجنة المركزية إلى إحداث توازن ضروري بين موقف "التجمّع" الأيديولوجي والموقف السياسي المطلوب والضروري، في ضوء المعطيات الموضوعية، لا سيما أنه لم يقدّم أي تنازل عن أيديولوجيته، أو عن برنامجه السياسي. كما جاء هذا القرار في ضوء استشعار "التجمّع" بازدياد خطورة تكثيف المؤسسة الإسرائيلية جهدها لنزع شرعيته، بغرض إضعافه وضربه أو إخراجه عن القانون، كما كانت الحكومة الإسرائيلية قد أخرجت الحركة الإسلامية الشمالية عن القانون، وحظرت جميع نشاطاتها، وذلك في ضوء ازدياد انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين واليمين المتطرّف، وفي ضوء التغيير الذي حصل في تركيبة المحكمة الإسرائيلية العليا الذي بات اليمين واليمين المتطرّف يحتلان مكانةً مهمة فيها.
A39551BD-0828-45AA-8DC4-D68E36ABA982
محمود محارب

كاتب وأستاذ جامعي وباحث فلسطيني، له عدة كتب وأبحاث في القضية الفلسطينية والشؤون الإسرائيلية