26 سبتمبر 2023
الحراك الجزائري .. عام من الحضارية والسلام
ليس سهلا أن تتجنّب الجزائر مصير سورية أو ليبيا الذي كان مخططا لها، أو حتى مصير السودان الانتقالي بمسحته "التطبيعية" مع الصهاينة، غير أن التلاحم الذي سجّله الحراك الجزائري الذي استكمل عامه الأول (في 22 فبراير/ شباط)، وسجّل مرافقة تاريخية بين الشعب المنتفض على الفساد وجيشه الذي قرر منع سقوط قطرة دم واحدة، وسلميةً لم يسبق لها مثيل حتى في انتفاضات أكثر الشعوب تحضّرا، سيبقى منارة عظيمة في التاريخ العربي الحديث، الموشوم بالدماء والبراميل المتفجرة، وهذا بغضّ النظر عن المآلات السياسية لهذا الحراك الحضاري الملهم، وعن عدم الحسم التام في موضوع التغيير، والقطيعة مع النظام السابق.
ولكن الفخ لهذا البلد العربي الكبير ما زال منصوبا في الطريق. اكتمل عام من الخوف والتحدّي، عام من المناورات والمؤامرات والإصرار، لم تفلح خلالها قوى الشر في أن تهوي بالبلد في مهاوي الردى وبحور الدماء. كما أن القوى الخيّرة أيضاً، وفيما يبدو، لم تفلح بعد في استكمال بناء الدولة الحلم، دولة الحريات والعدل والقانون، ولذلك يستمر هذا التدافع العجيب، والذي تختلط وتتشابك فيه عناصر كثيرة، لا يكاد يستوعبها جميعا الفاعل المحلي، وتكاد تغيب بشكل كامل عن فهمها عربيا وعالميا.
الحراك المبارك، بتعبير الرئيس عبد المجيد تبون اليوم، ليس كما يظهر من الخارج، فقد بدأ
شعبيا وحدويا يحمل شعارات واضحة ضد ولاية خامسة كانت مقرّرة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وعصابات الفساد التي تغوّلت من ورائه، لكنه سرعان ما تشكلت في هوامشه خلافات واضحة، بعد أن رفعت أطرافٌ راياتٍ إثنيةً وعرقيةً غير التي يُجمع عليها الجزائريون، وتدخلت الأيديولوجيات المتناقضة، حتى انقسم الحراك الواحد عمليا إلى حراكين، وطني عروبي (نوفمبري) لديه منطلقات ثورة نوفمبر الخالدة عام 1954 (بناء دولة ديمقراطية اجتماعية في اطار المبادئ الإسلامية)، وحراك آخر مواز بمسحةٍ علمانية أمازيغية صومامية (نسبة الى مؤتمر الصومام عام 1956 الذي انقلب على مبادئ ثورة نوفمبر)، مجسّدة بذلك الصراع نفسه تقريبا الحاصل بين أجنحة السلطة، والتي تفجرت بشكل علني وصريح أيضا، حين اكتشفت قيادة أركان الجيش (الوطنية)، بقيادة الفريق الراحل أحمد قايد صالح، ما سميت حينها مؤامرة "العصابة" على الجيش والدولة، كان يقودها شقيق الرئيس بوتفليقة مع قيادات المخابرات، بهدف الانقلاب على الجيش وعلى الحراك، وإعلان حالة الحصار، والذهاب إلى مرحلة انتقالية تقودها القوى غير الدستورية التي ظلت تحكم الجزائر طوال سنوات مرض الرئيس بوتفليقة في الظل.
اكتشاف هذه المؤامرة عجل بإطاحة الرئيس السابق بوتفليقة في 2 مارس/ آذار 2019، ومعه عصابات الحكم التي كانت تسنده. كما أدى إلى اعتقال قيادات المخابرات العليا وشقيق الرئيس ووزراء كثيرين ورجال أعمال كبار، وكان رحيل كل هؤلاء من مطالب الحراك الأصيل في بداياته، الأمر الذي دفع بجزء كبير منه إلى الاصطفاف إلى جانب الجيش، وإعلان مساندته خريطة الطريق التي سطرها للخروج من الأزمة، والتي ترتكز على الحل الدستوري، والذهاب إلى انتخابات رئاسية مبكرة، يختار فيها الشعب رئيسه، بعيدا عن مخاطر الذهاب إلى المراحل
الانتقالية التي جرّبتها الجزائر في بداية تسعينيات القرن الماضي، عقب الانقلاب العسكري على جبهة الإنقاذ الإسلامية، وأدّت إلى خراب ودمار كبيريْن. واختار جزءٌ آخر من الحراك رفض خريطة طريق الجيش، وأصرّ على مطلب المرحلة الانتقالية، والمجلس التأسيسي بالنسبة للقوى العلمانية، والتي تعني، بالنسبة للجيش، تسليم السلطة لقوى غير منتخبة، عبر عملية التعيين، وما قد تجلبه من مخاطر لا أول لها ولا آخر.
وعلى الرغم من إسقاط الحراك المستمر خيار إجراء الانتخابات الرئاسية في 4 يوليو/ تموز 2019، بعد أن عزف عنها المترشحون، ظل إصرار المؤسسة العسكرية وقيادة الأركان التي تزعمها وقادها بقوة الفريق الراحل أحمد قايد صالح أكبر من أن توقفها جموع المتظاهرين التي تعوّدت الخروج كل يومي جمعة وثلاثاء من كل أسبوع، حيث راهن الجيش على قوى الحراك المنسحبة منه، والتي آمنت برؤية الجيش لتجنب السيناريوهات العربية السوداء في سورية وليبيا ومصر وغيرها، حفاظا على كيان الدولة من التشتت ومخاطر الاختراقات وخطط الاستخبارات العالمية التي تلعب في الساحة الجزائرية، ما شكّل رافدا شعبيا قويا مساندا للانتخابات وإجرائها. وهو بالفعل ما حصل، حيث أفرزت انتخابات 12 ديسميبر/ كانون الأول 2019 انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون، بنسبة مشاركة في حدود 40%، على الرغم مما شابها من مقاطعة نسبية، كانت تتمثل معالمها في قوى الحراك المستمر في الشارع، والرافض فكرة التغيير الجزئي والسلس، المصرّ على مطلب التغيير الجذري للنظام ورموزه تحت لافتة جزائرية خالصة "يتنحاو قاع" (يرحلوا كلهم).
المثير أن وفاة قائد الأركان الذي كان الحاكم الفعلي للبلاد عشرة أشهر تلت استقالة بوتفليقة جاءت بعد أيام معدودة من تنصيب تبون رئيسا للجمهورية، حتى أنه تم قراءتها غيبيا بأن الله أراد أخذ أمانته، بعد أن استكمل الرجل مهمة إنقاذ الجزائر من الضياع والتفكّك، فكان طوفان المشيعين الذين تبعوا جنازة الجنرال الراحل كما لو أنه حراك موازٍ لمدى شعبية الجيش والطبقات الشعبية المساندة للحل الدستوري الانتخابي. ولكن ذلك كله لم يكن، على ما يبدو، كافيا، لكي يطفئ جذوة الحراك ومطالب التغيير الجذرية التي ترسّخت لدى فئات شعبية مختلفة، بعضها تحرّكها بالفعل نوازع الشغف بالحريات ومطالب الديمقراطية والعدالة، فيما تتحرّك فئات أخرى لأسباب أيديولوجية أو مصلحية، بعد أن تبين لها أنها فقدت نفوذها في دواليب الحكم والثروة، بدليل أننا نجد تحالفاتٍ غايةً في التضارب بين سلفيين كانوا ضحية للانقلاب العسكري في التسعينيات، وديمقراطيين كانوا هم من دعا إلى ذاك الانقلاب وأيّده، كما ترى تحالفاتٍ خفيةً بين قوى عرقية، يدعو بعضها صراحة إلى الانفصال، وأخرى وطنية ارتأت أن تتحالف (تكتيكيا) مع أعدائها الوجوديين.
ولا يعني ذلك، أن مسحة الحراك الشعبي في عمومه بهذا الشكل، فجل الحراكيين في الواقع تحركهم دوافع الإحساس بالظلم، وعدم الشعور بتغير حقيقي في أساليب الحكم، ولا في أساليب التسيير وتوزيع الثروة، الأمر الذي ينشئ تحدّيا كبيرا للرئيس تبون، وهو يشهد بعينيه إصرار الحراك، بعد مرور عام كامل من انطلاقته، واحتفاظه بكثير من زخمه، على الرغم من أنه ليس زخم الانطلاقة الأولى ضد "خامسة بوتفليقة"، إلى الحد الذي فرض عليه إقرار يوم 22 فبراير "يوما وطنيا للأخوة والتلاحم بين الشعب وجيشه من أجل الديمقراطية".
والحقيقة أن الحراك الشعبي لم يفرض فقط احترامه على سلطة ما تسمى الجمهورية الجديدة التي يقودها الرئيس تبون، إنما هو يتحوّل شيئا فشيئا إلى وسيلة ضغطٍ رهيبةٍ لاستكمال جميع مطالب الحراك، وقد تكلّلت تلك الضغوط بتشكيل حكومة كفاءات، برئاسة عبد العزيز جراد، والإعلان عن مراجعةٍ عميقةٍ وقريبة للدستور، وإنشاء لجنة خبراء لذلك، تنتزع من الرئيس الصلاحيات الامبراطورية التي ضمنها بوتفليقة لمنصب الرئيس في مجمل تعديلاته السابقة، وكذا الشروع في إطلاق سراح معتقلي الحراك، كما شرع تبون فعليا في استقبال أقطاب
المعارضة والحراكيين في القصر الجمهوري، للتشاور معهم في كيفية الخروج من الأزمة، وقد أبان وزن قائمة الشخصيات الوطنية المعارضة التي لبّت دعوته من أمثال أحمد بن بيتور، مولود حمروش، أحمد طالب الابراهيمي، بل وقيادات بعض الأحزاب الإسلامية الرئيسية، مثل عبد الرزاق مقري (إخوان مسلمون) والشيخ عبد الله جاب وغيرهما، عن وجود رغبة حقيقية في تجاوز حالة الانسداد وعدم الثقة بين السلطة والشارع، وأن الهدف من هذه المشاورات، حسب بيان للرئاسة، هو"بناء جمهورية جديدة تستجيب لتطلعات الشعب، وإجراء إصلاح شامل للدولة، يسمح بتكريس الديمقراطية في ظل دولة القانون التي تحمي حقوق وحريات المواطن".
هل الرئيس تبون جادٌّ في ما يقوله؟ ربما.. فها هو في لقاء مع ولاة الجمهورية، يطالبهم
بالتوقف عن تقديم الوعود الكاذبة للمواطنين، سيكون من غير المعقول أن يفعل ذلك هو مع المواطنين أنفسهم وهو يحمل على ظهره مسؤولياتٍ أكبر بكثير مما يحمله الولاة.. بل إنه يطالبهم بتغيير السلوكات القديمة، وكسر الحاجز مع المواطن، واسترجاع الثقة المفقودة، ومحاربة الرشوة والفساد. كل هذا جميل ورائع، لكن هل يصدّق الناس الذين ما زالوا بعد مرور عام يخرجون في حراكهم السلمي هذا الكلام، ليعودوا أدراجهم إلى البيوت؟ هل ستكون الجمهورية الجديدة التي ينادي بها اليوم الرئيس تبون جمهورية الحق والعدل والمساواة فعلا؟
يحتاج الأمر الى أدلة ودلائل أكثر. ما يقدّمه الرئيس الجديد بعد أكثر من 70 يوما من جلوسه على كرسي الحكم لا يتيح الحكم عليه بموضوعية، بل إن مرور مائة يوم من الحكم قد لا تكون كافية، إنما المؤشرات الأولية لا تبدو مشجعة كثيرا، خصوصا للشريحة الشعبية التي انتخبت، وبدأت آمالها تتراجع، خصوصا في قضايا الهوية والمرجعية النوفمبرية التي لم يروا منها شيئا.. بينما التوجه كله حاليا هو نحو استرضاء من رفضوا انتخابه، وراهنوا على الشارع والحراك، بل وعلى الأقليات، وتمكينهم من المناصب الحسّاسة.
في النهاية، الحراك الجزائري، وإن لم يصل إلى بناء الدولة الحلم، في الطريق، فإنه مصرٌّ على تحقيقها، فقد نجح، وهذا هو الأهم، في تفويت فرصة إحداث الخراب الذي كان مبرمجا للجزائر بعد سورية، نجح بوعي جماهيري مذهل بالسلمية التي فرضتها مخاوف العودة إلى دماء العشرية السوداء، ونجح في امتلاك جيشٍ لا يشبه باقي الجيوش العربية، رفض إنزال قطرة دم واحدة، على الرغم من كم الشتائم والتخوين الذي تعرّض له.. ومعه نجحت الدولة الجزائرية في تجاوز المغامرات "الانتقالية"، وحافظت على كيانها قائما قويا. أما ما عدا ذلك، فللجزائريين اليوم كل الوقت، وكل الحق، في أن يصنعوا مستقبلهم بأيديهم، عبر استمرارية هذا التجاذب والتدافع الحضاري، واستمرارية هذا الحراك المبارك السلمي الذي لا يضمن تغييرا سلسا تدرجيا وآمنا في الجزائر وحسب، وإنما يرمّم، بسلميته الخارقة، الصورة النمطية المشوّهة عن العربي المتوحش، ودمار المدن العربية النائمة وسط الخراب.
الحراك المبارك، بتعبير الرئيس عبد المجيد تبون اليوم، ليس كما يظهر من الخارج، فقد بدأ
اكتشاف هذه المؤامرة عجل بإطاحة الرئيس السابق بوتفليقة في 2 مارس/ آذار 2019، ومعه عصابات الحكم التي كانت تسنده. كما أدى إلى اعتقال قيادات المخابرات العليا وشقيق الرئيس ووزراء كثيرين ورجال أعمال كبار، وكان رحيل كل هؤلاء من مطالب الحراك الأصيل في بداياته، الأمر الذي دفع بجزء كبير منه إلى الاصطفاف إلى جانب الجيش، وإعلان مساندته خريطة الطريق التي سطرها للخروج من الأزمة، والتي ترتكز على الحل الدستوري، والذهاب إلى انتخابات رئاسية مبكرة، يختار فيها الشعب رئيسه، بعيدا عن مخاطر الذهاب إلى المراحل
وعلى الرغم من إسقاط الحراك المستمر خيار إجراء الانتخابات الرئاسية في 4 يوليو/ تموز 2019، بعد أن عزف عنها المترشحون، ظل إصرار المؤسسة العسكرية وقيادة الأركان التي تزعمها وقادها بقوة الفريق الراحل أحمد قايد صالح أكبر من أن توقفها جموع المتظاهرين التي تعوّدت الخروج كل يومي جمعة وثلاثاء من كل أسبوع، حيث راهن الجيش على قوى الحراك المنسحبة منه، والتي آمنت برؤية الجيش لتجنب السيناريوهات العربية السوداء في سورية وليبيا ومصر وغيرها، حفاظا على كيان الدولة من التشتت ومخاطر الاختراقات وخطط الاستخبارات العالمية التي تلعب في الساحة الجزائرية، ما شكّل رافدا شعبيا قويا مساندا للانتخابات وإجرائها. وهو بالفعل ما حصل، حيث أفرزت انتخابات 12 ديسميبر/ كانون الأول 2019 انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون، بنسبة مشاركة في حدود 40%، على الرغم مما شابها من مقاطعة نسبية، كانت تتمثل معالمها في قوى الحراك المستمر في الشارع، والرافض فكرة التغيير الجزئي والسلس، المصرّ على مطلب التغيير الجذري للنظام ورموزه تحت لافتة جزائرية خالصة "يتنحاو قاع" (يرحلوا كلهم).
المثير أن وفاة قائد الأركان الذي كان الحاكم الفعلي للبلاد عشرة أشهر تلت استقالة بوتفليقة جاءت بعد أيام معدودة من تنصيب تبون رئيسا للجمهورية، حتى أنه تم قراءتها غيبيا بأن الله أراد أخذ أمانته، بعد أن استكمل الرجل مهمة إنقاذ الجزائر من الضياع والتفكّك، فكان طوفان المشيعين الذين تبعوا جنازة الجنرال الراحل كما لو أنه حراك موازٍ لمدى شعبية الجيش والطبقات الشعبية المساندة للحل الدستوري الانتخابي. ولكن ذلك كله لم يكن، على ما يبدو، كافيا، لكي يطفئ جذوة الحراك ومطالب التغيير الجذرية التي ترسّخت لدى فئات شعبية مختلفة، بعضها تحرّكها بالفعل نوازع الشغف بالحريات ومطالب الديمقراطية والعدالة، فيما تتحرّك فئات أخرى لأسباب أيديولوجية أو مصلحية، بعد أن تبين لها أنها فقدت نفوذها في دواليب الحكم والثروة، بدليل أننا نجد تحالفاتٍ غايةً في التضارب بين سلفيين كانوا ضحية للانقلاب العسكري في التسعينيات، وديمقراطيين كانوا هم من دعا إلى ذاك الانقلاب وأيّده، كما ترى تحالفاتٍ خفيةً بين قوى عرقية، يدعو بعضها صراحة إلى الانفصال، وأخرى وطنية ارتأت أن تتحالف (تكتيكيا) مع أعدائها الوجوديين.
ولا يعني ذلك، أن مسحة الحراك الشعبي في عمومه بهذا الشكل، فجل الحراكيين في الواقع تحركهم دوافع الإحساس بالظلم، وعدم الشعور بتغير حقيقي في أساليب الحكم، ولا في أساليب التسيير وتوزيع الثروة، الأمر الذي ينشئ تحدّيا كبيرا للرئيس تبون، وهو يشهد بعينيه إصرار الحراك، بعد مرور عام كامل من انطلاقته، واحتفاظه بكثير من زخمه، على الرغم من أنه ليس زخم الانطلاقة الأولى ضد "خامسة بوتفليقة"، إلى الحد الذي فرض عليه إقرار يوم 22 فبراير "يوما وطنيا للأخوة والتلاحم بين الشعب وجيشه من أجل الديمقراطية".
والحقيقة أن الحراك الشعبي لم يفرض فقط احترامه على سلطة ما تسمى الجمهورية الجديدة التي يقودها الرئيس تبون، إنما هو يتحوّل شيئا فشيئا إلى وسيلة ضغطٍ رهيبةٍ لاستكمال جميع مطالب الحراك، وقد تكلّلت تلك الضغوط بتشكيل حكومة كفاءات، برئاسة عبد العزيز جراد، والإعلان عن مراجعةٍ عميقةٍ وقريبة للدستور، وإنشاء لجنة خبراء لذلك، تنتزع من الرئيس الصلاحيات الامبراطورية التي ضمنها بوتفليقة لمنصب الرئيس في مجمل تعديلاته السابقة، وكذا الشروع في إطلاق سراح معتقلي الحراك، كما شرع تبون فعليا في استقبال أقطاب
هل الرئيس تبون جادٌّ في ما يقوله؟ ربما.. فها هو في لقاء مع ولاة الجمهورية، يطالبهم
بالتوقف عن تقديم الوعود الكاذبة للمواطنين، سيكون من غير المعقول أن يفعل ذلك هو مع المواطنين أنفسهم وهو يحمل على ظهره مسؤولياتٍ أكبر بكثير مما يحمله الولاة.. بل إنه يطالبهم بتغيير السلوكات القديمة، وكسر الحاجز مع المواطن، واسترجاع الثقة المفقودة، ومحاربة الرشوة والفساد. كل هذا جميل ورائع، لكن هل يصدّق الناس الذين ما زالوا بعد مرور عام يخرجون في حراكهم السلمي هذا الكلام، ليعودوا أدراجهم إلى البيوت؟ هل ستكون الجمهورية الجديدة التي ينادي بها اليوم الرئيس تبون جمهورية الحق والعدل والمساواة فعلا؟
يحتاج الأمر الى أدلة ودلائل أكثر. ما يقدّمه الرئيس الجديد بعد أكثر من 70 يوما من جلوسه على كرسي الحكم لا يتيح الحكم عليه بموضوعية، بل إن مرور مائة يوم من الحكم قد لا تكون كافية، إنما المؤشرات الأولية لا تبدو مشجعة كثيرا، خصوصا للشريحة الشعبية التي انتخبت، وبدأت آمالها تتراجع، خصوصا في قضايا الهوية والمرجعية النوفمبرية التي لم يروا منها شيئا.. بينما التوجه كله حاليا هو نحو استرضاء من رفضوا انتخابه، وراهنوا على الشارع والحراك، بل وعلى الأقليات، وتمكينهم من المناصب الحسّاسة.
في النهاية، الحراك الجزائري، وإن لم يصل إلى بناء الدولة الحلم، في الطريق، فإنه مصرٌّ على تحقيقها، فقد نجح، وهذا هو الأهم، في تفويت فرصة إحداث الخراب الذي كان مبرمجا للجزائر بعد سورية، نجح بوعي جماهيري مذهل بالسلمية التي فرضتها مخاوف العودة إلى دماء العشرية السوداء، ونجح في امتلاك جيشٍ لا يشبه باقي الجيوش العربية، رفض إنزال قطرة دم واحدة، على الرغم من كم الشتائم والتخوين الذي تعرّض له.. ومعه نجحت الدولة الجزائرية في تجاوز المغامرات "الانتقالية"، وحافظت على كيانها قائما قويا. أما ما عدا ذلك، فللجزائريين اليوم كل الوقت، وكل الحق، في أن يصنعوا مستقبلهم بأيديهم، عبر استمرارية هذا التجاذب والتدافع الحضاري، واستمرارية هذا الحراك المبارك السلمي الذي لا يضمن تغييرا سلسا تدرجيا وآمنا في الجزائر وحسب، وإنما يرمّم، بسلميته الخارقة، الصورة النمطية المشوّهة عن العربي المتوحش، ودمار المدن العربية النائمة وسط الخراب.