الثورة التونسية وإصلاحات مؤجّلة

20 يناير 2020
+ الخط -
نجحت تونس، خلال تسع سنوات من الثورة، في تحقيق مكاسب سياسية وحقوقية مهمّة. انتقلت البلاد من حقبة الحكم الفرداني/ الشمولي إلى عصر التعدّدية الحزبيّة والإعلاميّة، والتداول السلمي على السلطة، وجرى تنظيم انتخاباتٍ تشريعيةٍ ورئاسيةٍ وبلديّة، شهد مراقبون من الداخل والخارج بنزاهتها. وانفتح المجال واسعاً للحرّيات العامّة والخاصّة، فرفعت الثورة الخوف من القلوب، وضمن الدستور التوافقي التقدّمي الجديد (2014) للمواطنين حرّية الضمير، وحرّية التفكير، والتعبير، والتنظّم، وعزّز مساهمة الناس في الشأن العام، وحدّد صلاحيات السلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، وبيّن الخيوط الواصلة والحدود الفاصلة بينها. ونتيجة ذلك، تصدّرت تونس مراتب متقدّمة في مجال حرّية الصحافة، ومؤشّر الديمقراطية عربيّا ودوليّا. وارتفعت القداسة عن السياسة، وغدا نقد أجهزة النّظام الحاكم وأدائها في تسيير شؤون البلاد سلوكا يوميّا يمارسه الاجتماع التونسي. لكنّ الإشكال، بعد زهاء عَقدٍ من اندلاع الثورة، متمثّل في أنّ الانتقال السياسي/ الحقوقي لم يُرافقه انتقال اقتصادي، ولم تواكبه عصرنة الإدارة، وإصلاح المؤسسة الأمنية.
يعتبر الاقتصاد عماد العمران، وقوام الدولة، وعليه المعوّل في تأمين رفاه الناس، والمشهود في تونس بعد الثورة أنّ الشأن الاقتصادي ما زال الخاصرة الرخوة للديمقراطية الناشئة في تونس. ولم تنجح الحكومات المتعاقبة في بلورة منوال تنموي ناجع يُخرج البلاد من إسار الأزمة 
الاقتصادية المتفاقمة. وأشار صندوق النقد الدولي إلى أنّ معدّل نسبة النمو لم يتجاوز حدود 2% منذ اندلاع الثورة، وإلى أنّ عجز الميزان التجاري بلغ 10.4% سنة 2019. وسجّل البنك المركزي التونسي تراجع الوظائف المستحدثة سنويا من 70 ألفا سنة 2010 إلى نحو 29 ألفا سنة 2019، ويقدّر عدد العاطلين عن العمل بـ650 ألفا، فيما اتسعت دوائر الفقر لتشمل 15% من التونسيين، واستمرّ انحدار الدينار أمام العملات الأجنبية. وأدّى تدهور الوضع الاقتصادي إلى ارتفاع تكاليف استيراد المواد الأوليّة، ومصاريف إنتاج البضائع في السوق المحليّة، وأثّر سلبا على المقدرة الشرائيّة للمواطن، وعلى فرص ترويج المنتجات التونسيّة بأسعار تنافسيّة في الأسواق العالميّة، وساهم في إرباك مسار الإنتاج والتصدير، وأثقل كاهل المواطن التونسي بمصاريف وضرائب كثيرة. وبدَل معالجة الأزمة الاقتصاديّة بمقارباتٍ إصلاحيّة، جذريّة، انصرفت الحكومات المتعاقبة إلى الوقوع باستمرار في فخ المديونيّة والارتهان إلى البنوك المانحة لتمويل المشاريع التنموية الداخليّة، ولتوفير حاجيات المواطنين الأساسيّة، حتّى بلغت نسبة الدّيْن الخارجي 74% من الناتج المحلّي الإجمالي.
ويُفترض في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ البلاد أن يجعل أصحاب القرار وأهل الاختصاص من تحقيق الانتقال الاقتصادي أولويّة قصوى. ومن المهمّ، في هذا السياق، إصلاح المؤسّسات 
العمومية وإعادة هيكلتها، وتعزيز الدور الاجتماعي للدولة بإحداث مؤسّساتٍ تشغيليةٍ جديدة، وتنويع مسالك الإنتاج والتوزيع، وترشيد الاستهلاك والتحكّم في التوريد، وتشجيع الاستثمار بغاية الحدّ من تفاقم العجز التجاري. ومن الضروريّ إعمال الحوكمة الاقتصادية، ومكافحة التهرّب الجبائي وإهدار المال العام، والتعطيل العشوائي لسيرورة العمل في المؤسّسات الحيويّة، عسى أن يستعيد الاقتصاد عافيته، ويكون الإصلاح الاقتصادي سندًا للانتقال الديمقراطي في البلاد.
وتعدّ الأجهزة الإدارية رافعة التنمية في الدول المتقدّمة، وهي مكلّفة بتسيير المرافق العمومية والخاصّة، وتأمين توفير الخدمات الموجّهة لعموم المواطنين، وتسهيل قضاء شؤونهم. ومع أنّ تونس شهدت، إبّان الثورة، بعث وزارة للإصلاح الإداري، وتمّ لاحقا إحداث وزارة الإصلاحات الكبرى، فإنّ وتيرة الإصلاح الإداري ما زالت بطيئة. ويشكو طيفٌ مهمّ من التونسيين من شيوع البيروقراطية، والمحسوبية، والمحاباة في معظم الدوائر الإدارية المحلّية والجهوية، ويتذمّرون من طول التراتيب الإدارية للحصول على وثيقةٍ ما، أو على ترخيص لبعث مشروعٍ ما، ويرون أنّ التسلسل الإداري الروتيني، وإرسال جلّ الملفّات الإدارية إلى المركز (العاصمة) للبتّ فيها، والتقيّد بقوانين قديمة يساهم في تعطيل مصالح المواطنين وإهدار الوقت، ولا يوفّر مناخا مناسبا للأعمال. بل يؤدّي إلى نفور المستثمرين التونسيين والأجانب. ومع أن إداريين كثيرين يحرصون على القيام بالواجب، فإن ظاهرة التراخي الإداري أصبحت متفشّية بعد الثورة. وجاء في دراسةٍ ميدانيةٍ حول علاقة التونسي بالإدارة أنّ 72% من التونسيين غير راضين عن جودة الخدمات الإدارية، واشتكى 72.7% من مجموع المستجوبين من طول الآجال للحصول على وثيقة إدارية، وعبّر67.8% عن عدم رضاهم عن كيفيات الاستقبال. وفي تقرير المنظمة الدولية للمنافسة، احتلت تونس المرتبة 67 من حيث كثرة الوثائق الإدارية وغلبة البيروقراطية على أجهزة الدولة. وأشارت منظّمة الشفافية الدولية إلى صعوبة النفاذ إلى المعلومة في معظم الهياكل الإدارية التونسية. لذلك من المهمّ تفعيل مشروع الإصلاح الإداري، وتعميم الإدارة الرقمية بديلا عن الإدارة التقليدية، وإحداث أقطاب الإدارة السريعة، ذات الخدمات المجمّعة التي توفّر خدمات القرب للمواطنين، والعمل على التقليل من الوثائق المطلوبة لبعث مشاريع تشغيلية، وتمكين المواطن من الحصول على بعض 
الوثائق إلكترونيا. ومن الضروري تأهيل الموظفين، وتحسين أدائهم المهني والتواصلي خدمة للمواطن، وتشجيعا على الاستثمار، وبحثا عن موقع ضمن ما يُعرف بالمجتمع الشبكي الكوني.
أمّا المؤسّسة الأمنية فقد اضطلعت بعد الثورة بأدوار مهمّة في مستوى تحقيق السلم الاجتماعي، وبذلت جهودا معتبرة في مواجهة الإرهاب، والتهريب، والأعمال الفوضوية، وتبييض الأموال، والاتجار بالبشر، والجريمة المنظّمة على نحو ساهم في تحقيق الاستقرار في البلاد. وكافأت الدولة المنتمين إلى الأجهزة الأمنية بالترقيات الوظيفية، ومضاعفة الرواتب وتمكينهم من تأسيس نقابات. ولكن مسار إصلاح المؤسّسة الأمنية ما زال متعثّرا، فالمراكز الأمنية ومراكز الإيقاف تعاني من عدّة نواقص. والعلاقة بين المواطن ورجل الأمن كثيرا ما تكون متوترة. وما زال عدد مهمّ من الأمنيين يعتبرون أنفسهم فوق المساءلة والمحاسبة، وحدث مرارا أن حاصر أمنيون المحاكم بسبب محاكمة زملائهم على خلفية الاستخدام غير القانوني للعنف ضد مواطنين. وفي ذلك تعطيل للمرفق القضائي، وترسيخ لثقافة الإفلات من العقاب. كما أنّ معظم الهياكل الأمنية لا تتعاطى إيجابيا مع مطالب النفاذ إلى المعلومة. ومن منظور إصلاحي، من المهمّ تكثيف الدورات التكوينية الهادفة إلى تدريب الأمنيين على التعامل بحرفية مع المظاهرات، وعلى كيفيات أخذ المعلومات من المتّهمين بطريقة حضارية. ولتخفيف الأعباء المهنية عن الأمنيين، من المهمّ الانتقال نحو استخراج الوثائق المدنيّة الشخصية (بطاقة التعريف، بطاقة السوابق العدلية، جواز السفر) من مرافق إدارية مدنيّة، بدل مراكز الشرطة. ومن المفيد تعميم ثقاقة حقوق الإنسان في الوسط الأمني بغاية تأسيس أمن جمهوري مسؤول، يستجيب لروح الثورة ولمحامل دستور الجمهرية الثانية.
ختاماً، يمكن القول إنّ التعجيل في القيام بإصلاحات اقتصادية، وإدارية، وأمنية كبرى سيزيد من ثقة المواطن في الثورة والدولة، وسيكون ترجمةً عمليّة لمحامل الدستور، وهو إلى ذلك تكريس للحوكمة الرّشيدة، ودعم للديمقراطية التونسية الناشئة لا محالة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.