مغالطات سالم لبيض بشأن الجنوب التونسي والغنوشي

22 ابريل 2019
+ الخط -
تناول الوزير التونسي السابق والنائب، سالم لبيض، في مقاله "عن حقيقة الجنوب التونسي النهضاوي"، في "العربي الجديد" (25/3/2019)، مآخذ على تصريحات زعيم حركة النهضة، الشيخ راشد الغنوشي، في زيارته بنقردان في الجنوب، وينطوي المقال على مغالطاتٍ من الحري كشفها، ليتبين القارئ الحقيقة. وقد قال الغنوشي إن لحركة النهضة حضورا معتبرا في الجنوب، وهو ما تشهد به الانتخابات، في 1989، وكذلك بعد الثورة، في 2011، و2014، و2018 بنسب متفاوتة، وهذه حجة واقعية تحسب للغنوشي، غير أن لبيض يحاول تفنيد هذا التصريح بالنفي المطلق من دون تنسيب، معتبرا "أن الجنوب من الناحية التاريخية لم يكن نهضويا ولم يعرف أثرا للإسلام السياسي". وهذا مجافٍ للحقيقة، فالمتابع لنشأة التنظيمات السياسية بمرجعياتها المختلفة، يجد أن حضور الاتجاه الإسلامي في هذه المنطقة كان بارزا، وخصوصا منذ بداية السبعينيات، وقد قوي في الثمانينيات، ولو أنه لم يحصل على تأشيرة قانونية حزباً سياسياً مهيكلاً.
المغالطة الأولى التي يقع فيها لبيض هي الخلط بين "الحدث التاريخي"، أي انطلاق شرارة الثورة، و"الحدث السياسي"، إجراء الانتخابات التي كسبت فيها "النهضة" فوزا ساحقا، فالسياق مختلف. المغاطة الثانية، وهي أشنع من سابقتها، عندما يحاول لبيض أن يُنكر على الغنوشي ما ينسبه هو لنفسه، حيث يسلم ضمنيا في قوله إن الغنوشي لم يكن في أي يوم له صلة بالمقاومة، إلا أن الرجل ابن عائلة مناضلة، وينتمي إلى بيئة وقبيلة مقاومة في الجنوب التونسي. وحتى لا نسقط في الاجتزاء التاريخي والانتقائية الأيديولوجية، كما يتصرف لبيض، والسؤال إليه هنا: إن كنت تريد أن تنزع عن المقاومة الصفة الحزبية، فلماذا تسبغ عليها الصفة العروبية، من دون الإسلامية؟ إنه يبني استدلاله من مقدمات "أن الجنوب التونسي لم يكن نهضويا.. وإنما كان وطنيا مقاوما، ولكنه ينتهي إلى نتيجة متناقضة مع المقدمات، عندما ينسب المقاومة إلى "أبناء الحركة العروبية المسلحة اليوسفية"، والعبارة مثخنة بصبغة أيديولوجية. تسقط الصفة الوطنية، وتحل محلها الصفة العروبية. وهذا اختزال للمقاومة الوطنية، ومحاولة حصرها في 
خط أيديولوجي معين. وكأن لسان حاله يقول إن التيار القومي العروبي هو الابن الشرعي للمقاومة والامتداد الطبيعي لها، إلا أن الحقيقة أن المقاومة الشعبية جنوبا وشمالا كانت في منأىً عن التصنيف الأيديولوجي، ولم تكن تحمل راية حزبية، بل كانت مقاومة وطنية، لا تعرف الفصل بين العروبة والإسلام، بل إن مرجعيات أغلب رموز المقاومة ضد الاستعمار إسلامية، عمر المختار في ليبيا، وعبد القادر الجزائري، وعبد الحميد بن باديس بالجزائر، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، والمهدي في السودان، وعبد العزيز الثعالبي في تونس، وغيرهم.
وقضية الفصل بين العروبة والإسلام الوافدة إلى تونس من المشرق هي، بالإضافة إلى حيثياتها التاريخية والإثنية والاستعمارية الناجمة عن الخلاف في مصر بين الرئيس جمال عبد الناصر وجماعة الإخوان المسلمين، وهو في أصله اختلاف في الرؤى حول شكل السلطة، عسكرية أم مدنية. ثم تطور إلى صراع بين أبناء الوطن الواحد والهوية الواحدة، وكان ضحيته "الإخوان" والسلطان وهزيمة البلاد، ولا يزال النزيف مستمرا. ألم يعرف سالم لبيض أن هذا الانشطار بين الهوية الواحدة، بسبب اختلاف أيديولوجي عقيم، هو أحد أسباب تشظي الوحدة العربية التي هي حلم العرب والمسلمين جميعا؟ لم يعرف المغرب العربي هذا الانفصام بين مقومات الهوية الثقافية والحضارية العروبة والإسلام، لأن شعوبه متجانسة إلى حد ما، إثنيا ومذهبيا ودينيا، على خلاف المشرق العربي الذي قسمته النزاعات والصراعات الطائفية والإثنية والمذهبية.
المغالطة الثالثة هي المرور على الحقبة الاستبدادية، بشقيها البورقيبي والنوفمبري، والقفز على واقع المعارضة بجميع أطيافها، مستثنيا التيارات السياسية اليسارية والقومية التي احتواها الاتحاد التونسي للشغل، بوصفها ضحية الاستبداد، من دون الإشارة، ولو لماما، إلى التيار الإسلامي الذي احتوته السجون والمعتقلات. أما القول إن حركة النهضة استفادت من لحظة 14 جانفي (14 يناير/ كانون الثاني 2011، إسقاط بن علي) فهذا صحيح، وذلك بفضل براغمتيتها السياسية، على عكس تياراتٍ سياسيةٍ لا تمارس إلا الخطابة على المنابر، ولا تصنع وقائع، ولا تبني جمهوريات فاضلة في الأذهان. أما أن "النهضة" تقدم نفسها دائما أنها ضحية الاستبداد، فهذا واقع ومثبت حقوقيا وقانونيا، ولا ينكره إلا جحود. وادعاء لبيض أن حركة النهضة استثمرت بدقة و"بشدة " إرث النضال السياسي الذي خاضته كل من الحركة اليوسفية والتيارات القومية المنبثقة عنها والمجموعات اليسارية وكل الحراك الحقوقي والنقابي، من دون تلميح أو تصريح إلى انخراط الإسلاميين في النضال ضد الاستبداد بمعية الآخرين، فهذا إقصاء متعمد لفصيل معارض، له إرث نضالي وواقع موضوعي، الإسلاميون جزء منه، والمغالطة هنا لإيهام السذج أن الإسلاميين ليسوا شركاء في النضال، وانما اقتنصوا الفرصة بعد "14 جانفي" وكأن الأمر مصادفة تاريخية، فيقول "وقد تمكّن الإسلاميون من الفوز بأغلبية ساحقة، في أول انتخابات ديمقراطية، عرفتها تونس سنة 2011 "، بعد الثورة. وهذا اعترافٌ صريح بأن التيار الإسلامي يكسب الجولة كلما يكون المناخ ديمقراطيا، وتدل على ذلك نماذج متعددة في المنطقة العربية، في تونس والمغرب والجزائر والأردن والكويت، وفي بلدان إسلامية كتركيا وماليزيا، وغيرها، وهو دليل على أن هذا التيار متجذّر، في هويته وبيئته، ويحظى 
بقاعدة جماهيرية عريضة، لا يمكن نكرانها.
المغالطة الرابعة محاولة الكاتب الخلط بين تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وما اصطلح عليه في الإعلام الغربي بالإسلام السياسي التي يستعملها خصوم هذا التيار صفةَ قدحية، فمصطلح الإسلام السياسي يحيل على الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، وهذه و"داعش" على طرفي نقيض، فالتنظيم المذكور متطرّف عنيف، لا علاقة له لا بقيم الإسلام ولا بقيم السياسة، بينما الأحزاب التي تحمل الصفة الإسلامية قانونية سلمية، تعمل في نطاق الدستور والقانون والممارسة الديمقراطية، ويكفّرها "داعش" كغيرها من الأحزاب. إذا حكّمنا المنطق والواقع فمن هو الضحية ومن هو الجلاد؟ أليس الإسلاميون من أطياف المعارضة الوطنية ضحايا قمع واستبداد الدكتاتوريات العربية التي يبرر جرائمها الشنيعة المنتسب إلى النخبة التي تدّعي تبني منظومة حقوق الإنسان وحريته. ألا يعرف سالم لبيض أن راشد الغنوشي كان مطاردا ولاجئا في المنفى، فيما كان بعض هؤلاء ينعمون فوق موائد نظام بن علي، ويقيم الندوات مدفوعة الأجر.
يحاول سالم لبيض، في مختتم مقاله، تقييم تجربة "النهضة في الحكم"، فيسوق أحكاماً مرتجلة، ونسي أنه كان في الحكومة وزيراً. وحسب قوله "انتهت الى حصيلة هزيلة"، إلا أن التقييم ليس التحطيم، بل هو كذلك تنسيب وتثمين، وبما أن تجربة الحكم، وخصوصا بعد الثورات، محفوفة المخاطر، إلا أنها أفضل من الفراغ السياسي. ومشاركة حركة النهضة ضمن الائتلاف الحاكم، حسب مراقبين ومفكرين استراتيجيين منصفين، ساهمت في تأمين أمن استمرارية الدولة، على الرغم من هزّات تعرّضت لها. كما تقدّمت بالمسار السياسي الديمقراطي، وجنّبت تونس الانزلاق إلى العنف، وأنقذت البلاد من حربٍ أهلية، ومن الفوضى العارمة التي عصفت بالدول في المنطقة التي اختار جنرالاتها الخيار القمعي المتوحش ضد خيار الشعوب في 
الديمقراطية والحرية. وعلى الرغم من تعثر المسار الاقتصادي والاجتماعي، وتلك ضريبة الثورات، الناس يعيشون في أمن وحرية.
النائب هو نائب عن كل الشعب، عليه أن يعمل على النهوض بتونس، وليس الدخول في سجالات أيديولوجية عقيمة، والنبش في الماضي محاولة يائسة للنيل من خصم سياسي وأيديولوجي بطريقة "الخطاب الإشهاري"، من قبيل محاولة لبيض تحليل شخصية راشد الغنوشي عن طريق آلية "اللاشعور"، ليكتشف أن اللاشعور السياسي للزعيم السني "شيعي"، وهذه مفارقة في قوله "إنه الزعيم السياسي السني الذي يتقمص النظرية السياسية الشيعية". وهذه قضية فكرية سياسية حول الإمامة والخلافة، والاختلاف فيها جلي بين السنة والشيعة، فإذا كان الشيعة يعتبرون أن ولاية الأمر تكون بالوصية، وجزءا من العقيدة، أما الإمامة عند أهل السنة تكون بالاختيار، وهي شأن عام، وهي كالفرق بين التوريث والاختيار، ومحسومة فكريا في كتابات الغنوشي لمن قرأها. أما مؤاخذته على أنه يتصرف كمسؤول في البلاد من دون صفة أو وظيفة، فنعم هو مسؤول، لأن المسؤولية ليست وظيفة حكومية، وليست حكراً على بعض دون آخر، وإنما هي التزام أخلاقي وفكري وسياسي، فالجميع مسؤول (.. وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، ما دام سلوك الإنسان منضبطا بالقانون، والبروتوكول في التجمع مع قواعده وأنصاره فشأن حزبي. ومن مزايا الثورة في تونس أنها منحت حرية التعبير والتجمع والتنظم للجميع في اطار الالتزام بالقانون. والشيخ راشد الغنوشي شخصية اعتبارية وسياسية، وتصريحاته ومواقفه ليست في منأى عن النقد الموضوعي، لأنه ليس الولي الفقيه، أما الحسابات الحزبية والانتخابية فهذا شأن الحملات الانتخابية.
EDEEF741-EE70-4AE1-8B29-EEBB136717F5
EDEEF741-EE70-4AE1-8B29-EEBB136717F5
علي الجليدي العشي
علي الجليدي العشي