12 أكتوبر 2024
عندما يتهمون الملائكة بقتل المندسّين في العراق
شفان إبراهيم
تتناقض صور العساكر العراقيين، وهمّ يُنفذون أوامر مجهولة المصدر! قد تكون مذيلة بختم أو توقيع مريب. لكن في النهاية ماذا يقول القاتل لأبنائه، حين يعود إلى منزله ليتفقد حال أولاده. "قتلت شبانا يافعين خرجوا حُبّاً بالحياةِ، فأنهيتها لهم". بعكس ما حصل في شارع الرشيد، وقائد المدرعة العسكرية الذي تثاقل بحركتها، خوفاً من نظرة الكراهية في عين أبنائه، أو خشية مكوث الكوابيس زائراً دائماً في أحلامه.
بيد أن أكثر ما يؤرق العقل البشري هو كمية التفكير التي يحتاجها السّوي لفك شفرة الرسائل الدينية المؤيدة لسحق الروح البشرية، من دون وازع من ضمير، أو مخافة من شعاراتهم الدينية التي حكموا بها البشر. أكثر تلك العبارات ما قيل لـ"ملائكةٍ" نزلت تدافع عن مرقد السيد محمد باقر الحكيم في مدينة النجف.
مُندسون، غوغائيون، عملاء، جرذان. صفاتٌ أطلقتها الأنظمة العربية ضدّ متظاهريها المطالبين بحق العيش، كالآدمي في القرن الواحد والعشرين. تلك التُهم كانت من حصة هيئات ووزارات ومؤسسات إعلامية لدول عربية، رفضت أن تنظر إلى شعوبها أكثر من مجرد شيء لا يحق لهم العيش مُرتاح البال. والصفاقة الكبرى، أن تلك الجهات الإعلامية ما راحت تهتم بمشكلات شعوبها، ولو بالحدّ الأدنى. ولكنها اكتشفت، ما أن امتلأت الساحات بالصدور العارية، حجم مهامها المنحصرة بمحاربة شعوبها. العراقيات والعراقيون احتجوا بعد صبر دامَ 14 عاماً من الفساد، ونسف الدستور، وإلغاء الحياة السياسية خارج المحاصصة الطائفية والحزبية. شواخص شوارع العراق تدل المُشاهد للبؤس والفقر، المتنبي، الرشيد، ساحة التحرير، أبو نواس... إلخ، عدا عن أحزمة الفقر ومدن الصفيح، كُلها كحال غيرها رموز وشواهد على الفساد والسرقة الذي كلف العراق قرابة 800 مليار دولار في عقد ونيف.
أبدعت الطبقة الحاكمة عسكرياً وسياسياً في العراق في نسج القصص التي تُساعد المتظاهرين على الترفيه قليلاً. تارةً استحدثت تلك القوات تُهما تثير التهكم، من قبيل استخدام المتظاهرين "لسلاح المنجنيق"، وكأنهم أمام إحدى غزوات المغول أمام أسوار العراق. وأخرى مبتذلة وقديمة كحال الداعشية التي جالت بين المتظاهرين محرّضة إياهم على الشغب، وتحريرها المعتقلين الدواعش من سجن الموت، ووصولاً إلى اتهام المتظاهرين بالحصول على براءة
اختراع (وصناعة) العبوات الناسفة والمتفجرة وبأحجام كبيرة. وراحت التهم تنطلق مترافقة مع الرصاص الحيّ والمتفجر والقنص والاغتيالات، وخطف النشطاء، وحجز الناشطات، واستخدام الغاز المسيل للدموع، المستورد من الخارج بأموال الشعب العراقي. قيل سابقاً: نفط الشعب للشعب، حتى غيرتها العصابات الحاكمة في بغداد إلى: نفط العراق لقتل العراقيين.
امتاز الشعب العراقي بالاندفاع نحو المزارات والمراقد الدّينية للتبرّع لها والتضرّع إليها؛ لحمايتهم ومدّهم بالقوة والحياة، لهم ولذرياتهم. بالأمس، كان العراقيون يبكون على جدران المراقد، واليوم يضحكون مع الموت الذي حصلوا عليه أمامها. وقد قال صدر الدين القبانجي، وهو أحد قادة المجلس الأعلى الإسلامي في العراق، إنَّ الملائكة نزلت تدافع عن مرقد السيد محمد باقر الحكيم في مدينة النجف لحمايته من المتظاهرين الذين يصرّون على دخوله. لا يندرج هذا الكلام تحت خانة التندّر والتهكم فحسب، بل رُبما يتصدّر مجالس النكت والدعابة العالمية، خصوصا أن حماية المرقد فتحت النار على حشود المتظاهرين في ساحة ثورة العشرين، وقتلت أكثر من عشرين متظاهراً وإصابت أكثر من ثلاثمائة آخرين.
عادة ما كانت مدينة النجف كمثيلاتها من المدن الشيعية في العراق، تشهد طقوساً عنيفة لتعذيب الجسد؛ في ذكرى عاشوراء. ولكن الصورة اختلفت اليوم، فالذين قتلوا المتظاهرين هم أنفسهم الذين كانوا يحمون تلك الطقوس، والمعتصمون والمنتفضون هم أنفسهم المتوافدون إلى ساحات تخليد عاشوراء، والذين كانوا يخطّون الخطط الأمنية لحماية المزارات والمراقد والذكرى هُم أنفسهم الذين أعطوا الأوامر بالقتل. هكذا ببساطة تحوّل الحامي إلى جزار، والحارس إلى قاتل، والمتضرّع إلى قتيل وشهيد. رسالة هؤلاء واضحة ومُحدّدة، على الشعوب أن تموت.
لم يفت اللصوص والمفسدين في الأحزاب الدينية العراقية أن تستحضر التهمة الجاهزة التي جالت جميع بلدان الربيع العربي. "التآمر على الداخل، والتظاهر بطلب دول خارجية، والمؤامرة على البلد"، إلا أن ما ميز تهمة السلطة العراقية، هذه المرّة، تحديدها شخص المرجع الشيعي الأعلى، السيستاني في مدينة النجف، بمحاولة المتظاهرين قتله، وكأنها رسالة توازي
بين الحرّية والحقوق الطبيعية والسماوية، وحق الشباب بالحياة، مع تهمة قتل المراجع الدّينية. وأصبح من يتحدّث باسم الله على الأرض قاتلاً أو رمزيةً لدفع أنصاره نحو قتل الأبرياء، ورفعت المليشيا المتهمة بقتل المتظاهرين حِراب بنادقها عاليةً، شاكرة العقول المدبرة لشرعنة القتل.
المتظاهرون اليوم هم أنفسهم الكُتل الصُلبة للأحزاب والكيانات والشخصيات التي كانت تتكئ على أكتافهم، لتصعد إلى البرلمان، وما شابهها من محطّات تحتاج إلى أصواتهم. وكتحصيل حاصل لنتيجة صراع الأحزاب الشيعية، فإن انقسام الشارع بينهم سيكون نتيجة صراع هؤلاء، سواء على مراضاة إيران، أو سعيها نحو السلطة. وفي كل الأحوال، كانت الانقسامات والخلافات سيدّة المشهد بينهم. وانجرّ الشارع الشيعي على أثر ذلك أيضاً ما بين الولاء لإيران، أو التشتت بين الفرق السياسية، أو الدينية المتلفعة برداء السياسة. ولكن ما يجمع المتظاهرين اليوم من رمزيات إنسانية، ورمياً للهويات الطائفية بين دماء شهدائهم من المتظاهرين، تفوّق قوةً على القوة الدافعة لتلك الأحزاب الدينية والسياسية التي كانت ولا تزال تصرّ على ترسيخ صراع الهويات الدينية والسياسية والقومية والطائفية.
ستدفع إيران ثمناً باهظاً في كل يوم تستمر فيه التظاهرات، وإن كانت تُكنّى بأنها محرّكة الدمى في العراق، وصاحبة الكلمة العليا في الوسط الشيعي، خدمة لأهدافها المُقدسة خارج أراضيها، إلا أن الوسط الشيعي القبلي لن يكون مطيّة لمليشيا زرعت الفقر والرعب، وفشلت في توفير الأمن والحياة، وتالياً فإن مساعي إيران صوب ضبط الحكومة العراقية القادمة، لن تكون بالنتائج السابقة عينُها، فوكلاؤها باتوا يقتلون الناس بسبب مطاليبهم البسيطة، وجماهير وكلائها انقلبوا نهائياً عليهم.
بعد مهزلة ونكتة إقحام الملائكة في قتل المتظاهرين، طرح المحلل السياسي والمقرّب من رئاسة العراق، حيدر البرزنجي، نُكتة قبيحة جديدة عبر إحدى الفضائيات قائلا: لا ندري من يقتل المتظاهرين، وحين يتم إطلاق النار عليهم، فإن قوات الأمن والجيش لا تكون موجودة في تلك الساحات، وبل تبحث عن الجنُاة الذين يتلقون أوامر من جهات مجهولة.
بكل بساطة، هؤلاء لم يعودوا يستحقون أن يحكموا العراق.
مُندسون، غوغائيون، عملاء، جرذان. صفاتٌ أطلقتها الأنظمة العربية ضدّ متظاهريها المطالبين بحق العيش، كالآدمي في القرن الواحد والعشرين. تلك التُهم كانت من حصة هيئات ووزارات ومؤسسات إعلامية لدول عربية، رفضت أن تنظر إلى شعوبها أكثر من مجرد شيء لا يحق لهم العيش مُرتاح البال. والصفاقة الكبرى، أن تلك الجهات الإعلامية ما راحت تهتم بمشكلات شعوبها، ولو بالحدّ الأدنى. ولكنها اكتشفت، ما أن امتلأت الساحات بالصدور العارية، حجم مهامها المنحصرة بمحاربة شعوبها. العراقيات والعراقيون احتجوا بعد صبر دامَ 14 عاماً من الفساد، ونسف الدستور، وإلغاء الحياة السياسية خارج المحاصصة الطائفية والحزبية. شواخص شوارع العراق تدل المُشاهد للبؤس والفقر، المتنبي، الرشيد، ساحة التحرير، أبو نواس... إلخ، عدا عن أحزمة الفقر ومدن الصفيح، كُلها كحال غيرها رموز وشواهد على الفساد والسرقة الذي كلف العراق قرابة 800 مليار دولار في عقد ونيف.
أبدعت الطبقة الحاكمة عسكرياً وسياسياً في العراق في نسج القصص التي تُساعد المتظاهرين على الترفيه قليلاً. تارةً استحدثت تلك القوات تُهما تثير التهكم، من قبيل استخدام المتظاهرين "لسلاح المنجنيق"، وكأنهم أمام إحدى غزوات المغول أمام أسوار العراق. وأخرى مبتذلة وقديمة كحال الداعشية التي جالت بين المتظاهرين محرّضة إياهم على الشغب، وتحريرها المعتقلين الدواعش من سجن الموت، ووصولاً إلى اتهام المتظاهرين بالحصول على براءة
امتاز الشعب العراقي بالاندفاع نحو المزارات والمراقد الدّينية للتبرّع لها والتضرّع إليها؛ لحمايتهم ومدّهم بالقوة والحياة، لهم ولذرياتهم. بالأمس، كان العراقيون يبكون على جدران المراقد، واليوم يضحكون مع الموت الذي حصلوا عليه أمامها. وقد قال صدر الدين القبانجي، وهو أحد قادة المجلس الأعلى الإسلامي في العراق، إنَّ الملائكة نزلت تدافع عن مرقد السيد محمد باقر الحكيم في مدينة النجف لحمايته من المتظاهرين الذين يصرّون على دخوله. لا يندرج هذا الكلام تحت خانة التندّر والتهكم فحسب، بل رُبما يتصدّر مجالس النكت والدعابة العالمية، خصوصا أن حماية المرقد فتحت النار على حشود المتظاهرين في ساحة ثورة العشرين، وقتلت أكثر من عشرين متظاهراً وإصابت أكثر من ثلاثمائة آخرين.
عادة ما كانت مدينة النجف كمثيلاتها من المدن الشيعية في العراق، تشهد طقوساً عنيفة لتعذيب الجسد؛ في ذكرى عاشوراء. ولكن الصورة اختلفت اليوم، فالذين قتلوا المتظاهرين هم أنفسهم الذين كانوا يحمون تلك الطقوس، والمعتصمون والمنتفضون هم أنفسهم المتوافدون إلى ساحات تخليد عاشوراء، والذين كانوا يخطّون الخطط الأمنية لحماية المزارات والمراقد والذكرى هُم أنفسهم الذين أعطوا الأوامر بالقتل. هكذا ببساطة تحوّل الحامي إلى جزار، والحارس إلى قاتل، والمتضرّع إلى قتيل وشهيد. رسالة هؤلاء واضحة ومُحدّدة، على الشعوب أن تموت.
لم يفت اللصوص والمفسدين في الأحزاب الدينية العراقية أن تستحضر التهمة الجاهزة التي جالت جميع بلدان الربيع العربي. "التآمر على الداخل، والتظاهر بطلب دول خارجية، والمؤامرة على البلد"، إلا أن ما ميز تهمة السلطة العراقية، هذه المرّة، تحديدها شخص المرجع الشيعي الأعلى، السيستاني في مدينة النجف، بمحاولة المتظاهرين قتله، وكأنها رسالة توازي
المتظاهرون اليوم هم أنفسهم الكُتل الصُلبة للأحزاب والكيانات والشخصيات التي كانت تتكئ على أكتافهم، لتصعد إلى البرلمان، وما شابهها من محطّات تحتاج إلى أصواتهم. وكتحصيل حاصل لنتيجة صراع الأحزاب الشيعية، فإن انقسام الشارع بينهم سيكون نتيجة صراع هؤلاء، سواء على مراضاة إيران، أو سعيها نحو السلطة. وفي كل الأحوال، كانت الانقسامات والخلافات سيدّة المشهد بينهم. وانجرّ الشارع الشيعي على أثر ذلك أيضاً ما بين الولاء لإيران، أو التشتت بين الفرق السياسية، أو الدينية المتلفعة برداء السياسة. ولكن ما يجمع المتظاهرين اليوم من رمزيات إنسانية، ورمياً للهويات الطائفية بين دماء شهدائهم من المتظاهرين، تفوّق قوةً على القوة الدافعة لتلك الأحزاب الدينية والسياسية التي كانت ولا تزال تصرّ على ترسيخ صراع الهويات الدينية والسياسية والقومية والطائفية.
ستدفع إيران ثمناً باهظاً في كل يوم تستمر فيه التظاهرات، وإن كانت تُكنّى بأنها محرّكة الدمى في العراق، وصاحبة الكلمة العليا في الوسط الشيعي، خدمة لأهدافها المُقدسة خارج أراضيها، إلا أن الوسط الشيعي القبلي لن يكون مطيّة لمليشيا زرعت الفقر والرعب، وفشلت في توفير الأمن والحياة، وتالياً فإن مساعي إيران صوب ضبط الحكومة العراقية القادمة، لن تكون بالنتائج السابقة عينُها، فوكلاؤها باتوا يقتلون الناس بسبب مطاليبهم البسيطة، وجماهير وكلائها انقلبوا نهائياً عليهم.
بعد مهزلة ونكتة إقحام الملائكة في قتل المتظاهرين، طرح المحلل السياسي والمقرّب من رئاسة العراق، حيدر البرزنجي، نُكتة قبيحة جديدة عبر إحدى الفضائيات قائلا: لا ندري من يقتل المتظاهرين، وحين يتم إطلاق النار عليهم، فإن قوات الأمن والجيش لا تكون موجودة في تلك الساحات، وبل تبحث عن الجنُاة الذين يتلقون أوامر من جهات مجهولة.
بكل بساطة، هؤلاء لم يعودوا يستحقون أن يحكموا العراق.
دلالات
مقالات أخرى
30 سبتمبر 2024
15 سبتمبر 2024
22 اغسطس 2024