06 نوفمبر 2024
الجزائر: فرصة الانتخابات وحدودها
غريبة هي الانتخابات الرئاسية الجزائرية التي تُجرى غداً الخميس. هي من النوع الذي كان يمكن أن يكون نظرياً منتهى طموحات الانتفاضة الشعبية المستمرة منذ 42 أسبوعاً، بينما يرفضها بشراسة الطيف الأوسع من المنتفضين على اعتبار أنه تمّت هندستها بشكل يوصل إلى قمة السلطة رئيساً ضعيفاً من صلب النظام وحزبه القائد (جبهة التحرير الوطني) ليحكم الجيش من خلفه (قد يكون وزير الثقافة السابق عز الدين ميهوبي)، ولتكون الحصيلة النهائية لإنجازات الحراك الممتد منذ فبراير/ شباط 2019، إطاحة آل بوتفليقة ورجال الأعمال الذين نصّبتهم ما يسمونها في الجزائر "العصابة"، وليبقى في المقابل النظام نفسه رشيقاً استعاد شبابه الضائع. هي فرضية جدّية تعزّز من احتمالاتها سلوكيات قيادة الجيش ورئيس أركانها أحمد قايد صالح ودور "الأخ الأكبر" الذي يؤدّيه تهديداً وزجراً وتخويناً ورسماً لخطوط حمراء لما يجوز ولا يجوز قوله وفعله وحمله من رايات، بما يحاكي عجرفة رموز النظام العربي. في تلك الصورة، تُختصر محدودية الانتخابات التي، وفق هذه الفرضية، يريدها المنتفضون تاريخاً للتغيير الشامل نحو ديمقراطية حقيقية بلا فساد ولا عصابة ولا جيش يحكم جهاراً أو من الظلّ. غير أن الفرصة التي كان يمكن أن يتيحها الاستحقاق المؤجل من إبريل/ نيسان إلى يوليو/ تموز وصولاً إلى 12 ديسمبر/ كانون الأول، حاضرة وبقوة أيضاً، في ما لو اتفق السواد الأعظم من "الشارع" على مرشح واحد يخوضون عبره معركة الإتيان برئيس من صفوفهم رغماً عن إرادة السلطة برأسيها العسكري والمدني الذي لا يزال متحكماً بكل مفاصل البلد، وإن كان تم تنظيفه من معظم رجال أعمال حقبة عبد العزيز بوتفليقة.
وبين الفرصة التي تتيحها الانتخابات والحدود التي تجسدها، يمكن إيراد كلام كثير يعزّز الاحتمالين. الحراك الجزائري فاقد الثقة بكل ما يمت بصلة إلى هذه السلطة، ولكن أيضاً بكل ما يتعلق بمعارضيها، ليبراليين كانوا أم إسلاميين أو يساريين على نسق ما عرفوه من المرشحة الرئاسية المزمنة لويزة حنون مثلاً. يأس جعلهم، كحال الكثير من أقرانهم في بلدان عربية أخرى، يتمسكون بنغمة مُقلقة شعارها "لا أحد يمثلني". لا أحزاب، ولا شخصيات. هكذا عجز المنتفضون أو رفضوا خروج تيار أو حزب أو قيادة جماعية حقيقية من صفوفهم منذ عشرة أشهر قضوها حتى الآن في وضع الفيتو تلو الفيتو، رفضاً لما تقدمه السلطة لهم من إغراءات وجوائر ترضية، حيناً من خلال إحالة رجال أعمال وسياسيين إلى المحاكمة، وأحياناً عبر رفض تعديلات حكومية شكلية لم تستطع أن تخرج من أسماء السلطة إياها، ممثلة اليوم في شقها المدني برئيس الحكومة سيئ الذكر بالنسبة للسواد الأعظم من المنتفضين، نور الدين بدوي، رمز وزارة الداخلية والقمع وتزوير دورات انتخابية سابقة.
لكن ذلك كله كان يحصل بين حدّين آخرين: حدّ إصرار العسكر على عدم قتل متظاهرين من جهة، وهذا بحد ذاته نقطة مضيئة في الانتفاضة الجزائرية عندما تقارن ببقية الانتفاضات العربية، وحدّ رسم حدود المسموح به عبر تكثيف الاعتقالات والترهيب والحظر من ناحية ثانية. وبين هذين الحدين، اختار المنتفضون مجدداً التمسك بما لا يريدونه، أي انتخابات تنظمها هذه السلطة بالذات، بقوانينها وبرجالاتها ووبلجنتها للإشراف على الاقتراع، من دون تحديد خريطة طريق لوضع ما يريدونه موضع التنفيذ. مسار كان يمكن أن يبدأ بولادة تنظيم/ حزب/ تيار/ جبهة، "نظيفة"، ديمقراطية، متمكنة وذات صفة تمثيلية حقيقية، تنطق باسم الانتفاضة، تفاوض وتساوم نيابة عنها وتفرض الشروط وتستميل المزيد من "المنشقين" عن النظام إلى صفوفها، ثم تقبل ما تقبل وترفض ما ترفض، من دون تنازل عمّا لا يمكن التنازل عنه في إطار إعادة بناء نظام ديمقراطي حقيقي عنوانه العدالة الاجتماعية والحرية والتنوع. كل ذلك كان يمكن أن يحصل تحت عنوان الاعتراف بأن ما تحمله الانتفاضة الجزائرية هو إصلاح النظام السياسي الموجود باتجاه تغييره تدريجياً، والسعي نحو إبرام عقد اجتماعي جديد على ركام عقد جبهة التحرير الوطني وعسكرها ومدنييها ورجال أعمالها وعصابتها، ذلك أن الانتفاضة الجزائرية، حالها كحال جميع الانتفاضات العربية، لا تحمل برنامجاً ثورياً لقلب النظام وإحلال آخر مكانه.
لكن ذلك كله كان يحصل بين حدّين آخرين: حدّ إصرار العسكر على عدم قتل متظاهرين من جهة، وهذا بحد ذاته نقطة مضيئة في الانتفاضة الجزائرية عندما تقارن ببقية الانتفاضات العربية، وحدّ رسم حدود المسموح به عبر تكثيف الاعتقالات والترهيب والحظر من ناحية ثانية. وبين هذين الحدين، اختار المنتفضون مجدداً التمسك بما لا يريدونه، أي انتخابات تنظمها هذه السلطة بالذات، بقوانينها وبرجالاتها ووبلجنتها للإشراف على الاقتراع، من دون تحديد خريطة طريق لوضع ما يريدونه موضع التنفيذ. مسار كان يمكن أن يبدأ بولادة تنظيم/ حزب/ تيار/ جبهة، "نظيفة"، ديمقراطية، متمكنة وذات صفة تمثيلية حقيقية، تنطق باسم الانتفاضة، تفاوض وتساوم نيابة عنها وتفرض الشروط وتستميل المزيد من "المنشقين" عن النظام إلى صفوفها، ثم تقبل ما تقبل وترفض ما ترفض، من دون تنازل عمّا لا يمكن التنازل عنه في إطار إعادة بناء نظام ديمقراطي حقيقي عنوانه العدالة الاجتماعية والحرية والتنوع. كل ذلك كان يمكن أن يحصل تحت عنوان الاعتراف بأن ما تحمله الانتفاضة الجزائرية هو إصلاح النظام السياسي الموجود باتجاه تغييره تدريجياً، والسعي نحو إبرام عقد اجتماعي جديد على ركام عقد جبهة التحرير الوطني وعسكرها ومدنييها ورجال أعمالها وعصابتها، ذلك أن الانتفاضة الجزائرية، حالها كحال جميع الانتفاضات العربية، لا تحمل برنامجاً ثورياً لقلب النظام وإحلال آخر مكانه.