27 اغسطس 2020
لبنان والعراق.. ثوار باحثون عن الدولة
منذر الحوارات
.. وكأن الأمور قد استتبت واستكانت لما هي عليه، بدت الحالة شاذةً، ولكنها مألوفة يتقبلها الجميع كما هي، ويتعايشون معها بكل المآسي التي تُحدثها، فمن السهل ملاحظة الفروق بكل قهرها، فقر بدون قرار وغنىً بدون سقوف، رفاهية تحاكي الأحلام وحرمان يستنطق الدموع، وفجأة ينفجر الطوفان وتنطلق الجموع الهادرة تلتف بأعلام أوطانها وتصرخ بحرقة المقهور، مطالبةً بتغيير كل شيء، حتى أقنعة من تمرّسوا رؤيتهم وسماع خطاباتهم الوطنية المفعمة بالحماس الكاذب.
لبنان والعراق سيكونان حالة فارقة في حاضرنا وفي التاريخ فيما بعد، صحيح أن الأمور تبدو غائمة وغير واضحة، بسبب عدم وجود تاريخ مشابه للحالتين، يمكن القياس عليه. لكن بدون شك ستصنع هاتان الدولتان تاريخهما الخاص، والذي ربما تقاس عليه أحداث دول أخرى فيما بعد، ففي كلتيهما ثمّة حدثٌ رئيسيٌّ صنع مستقبلهما المعاصر؛ فلبنان حربه الأهلية، وبعدها اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب بصيغةٍ معقدةٍ أدارت البلد. وكان المأمول أن تنتهي إلى تفاهماتٍ تعمق مفهوم الدولة الجامعة. وفي العراق، حرب وغزو وإسقاط حكم وصيغة من التفاهمات أنتجت نخبةً سياسيةً يفترض أن تصل بالدولة إلى مرحلةٍ تستطيع فيها أن تعود إلى ما كانت عليه، لكن بأذرع مقطعة غير قادرة على الوصول إلى الآخرين.
في كلتا الحالتين، أشرف الخارج على التفاهمات التي أنتجت صيغ الحكم تلك، وفيها أيضاً أبقى
مصالحه هي الديدن والموجه لتلك المسيرة، بحيث يعجز المتابع عن اكتشاف أو سبر غور الهدف الرئيسي، أهو الوصول إلى مرحلة يستقر فيها الحال أم أنها تركت الباب موارباً دوماً للانفجار في أية لحظة، وسمحت دوماً لطرف ثالث بإمكانية اقتحام الوضع، والاستفادة من الهلامية التي أنتجتها تلك الصيغ، فقد كانت الولايات المتحدة موجودة ومؤسسة للبدايات، وإيران موجودة في منتصف الطريق، حتى اللحظات الراهنة. هل تعود هذه المفارق إلى ملل الأميركان السريع من المناطق غير المستقرّة، وخروجهم منها بسرعة منذ تجربة ڤيتنام، أم إلى المثابرة التي تمتع بها الإيرانيون دوماً، واستطاعوا توظيف الظروف التي تخدمهم ببراعة أكبر؟ الإجابة مفتوحة، طبعاً دخلت في كلتا الحالتين أطرافٌ أخرى عربية وإسرائيلية، وربما أوروبية وتركية، ولكن كل تلك الأطراف لم تستطع أن تكون بقوة الإيرانيين والأميركان في هذين البلدين، لأسباب عديدة.
ولكن الثابت أن كلا الطرفين لم يستطيعا إنتاج حالة اجتماعية اقتصادية وسياسية، تحقق، ولو بقدر بسيط، بعض أماني مجتمعات هاتين الدولتين، فالحالة العمودية من النخب الحاكمة المؤسسة على المذهبية والطائفية خدمت، في النهاية، مصلحة إيران، لأنها كانت الأقدر على التجييش العقائدي لأتباع المذهب، وهي غذت خلال سيطرتها إحساس المظلومية التي عانت منها الطائفة الشيعية عبر تاريخ البلدين السياسي، وعملت على تقوية أتباعها بشتى الوسائل العسكرية والاقتصادية والسياسية، إلى أن كرسوا حالة من القوة، كان لا بد من أن توظف للحصول على مكاسب سياسية، فهل تبدأ بفرض قوتها من الداخل مباشرة. انتهجت إيران أسلوباً أكثر ذكاءً، إذ كان إيجاد مشروعية قانونية وأخلاقية لقوة عسكرية موازية لقوات الدولة أكثر جدوى. ولأجل ذلك، كان العدو الإسرائيلي جاهزا في لبنان و"داعش" موجودا في العراق، وحربهما والانتصار عليهما سوف يعطيان لكلتا القوتين بعداً شرعياً ووطنياً، وهذا ما كان. الحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان وحدهما من يستطيعان رسم المعادلات على الأرض بكل أشكالها، ابتداء بالاقتصاد وليس انتهاءً بالسياسة، وما تجر إليه من فساد في مثل هذه الحالات.
لماذا خرج شباب البلدين غاضبين؟ ليس من الصعوبة الإجابة على هذا السؤال، فالتركيبة السياسية الحالية في كل من البلدين، ووجود قوى عسكرية تابعة، وأهداف وأجندات خارجية جعلت الدولة
ومواردها غير كافية لتلبية احتياجات تلك الجحافل من الساسة وتوابعهم، فأعملوا منظوماتٍ متطورة لممارسة الفساد، فسرقوا الدولة وخيراتها وحرموا جيلاً كاملاً من التّمتع بخيرات بلده. ولأن الشباب لم يعودوا يؤمنون بالسياسيين أو يثقوا بهم، وهم ليسوا معنيين بطموحات إيران ورغبة وليها الفقيه بأن يبسط نفوذه على المنطقة، وهم يكرهون أميركا التي تركتهم نهبًا لإيران، وهم ناقمون على العرب وعلى ضعفهم، ولجوعهم وفقرهم، وحرمانهم، فقد خرجوا كطوفان هادر يتسلّح بحبه للحياة ورغبته بأن يكون له وطن جامع لا تطاوله هيمنة الآخرين. لأجل ذلك، تلفحوا بعلم بلادهم، وغنوا نشيدهم الوطني، وبكوا بحرقة وألم، وقذفوا بأجسادهم بوجه الرصاص، وجشع الطبقة السياسية، فنادوا بإسقاطهم جميع هؤلاء، ورفضوا تشكيل قيادة تقودهم، لإيمانهم بأن مرحلتها لم تأت بعد، ولتكريس مفهوم الكتلة الوطنية الموحدة التي يجمعها رابط وحيد هو الوطن فقط. صحيحٌ أن طريقهم طويل جداً والعقبات أمامهم جبال من التاريخ المملوء بالأحقاد والدماء، ولكنهم مثابرون بما يكفي لتحقيق ولو بعضٍ مما يريدون.
بقي أن نقول إن واحداً من أهم ما جمع شمل المتظاهرين هو كرههم إيران ومليشياتها وزبائنها، فكان علمها في حالات كثيرة مساراً للدائسين.
في كلتا الحالتين، أشرف الخارج على التفاهمات التي أنتجت صيغ الحكم تلك، وفيها أيضاً أبقى
ولكن الثابت أن كلا الطرفين لم يستطيعا إنتاج حالة اجتماعية اقتصادية وسياسية، تحقق، ولو بقدر بسيط، بعض أماني مجتمعات هاتين الدولتين، فالحالة العمودية من النخب الحاكمة المؤسسة على المذهبية والطائفية خدمت، في النهاية، مصلحة إيران، لأنها كانت الأقدر على التجييش العقائدي لأتباع المذهب، وهي غذت خلال سيطرتها إحساس المظلومية التي عانت منها الطائفة الشيعية عبر تاريخ البلدين السياسي، وعملت على تقوية أتباعها بشتى الوسائل العسكرية والاقتصادية والسياسية، إلى أن كرسوا حالة من القوة، كان لا بد من أن توظف للحصول على مكاسب سياسية، فهل تبدأ بفرض قوتها من الداخل مباشرة. انتهجت إيران أسلوباً أكثر ذكاءً، إذ كان إيجاد مشروعية قانونية وأخلاقية لقوة عسكرية موازية لقوات الدولة أكثر جدوى. ولأجل ذلك، كان العدو الإسرائيلي جاهزا في لبنان و"داعش" موجودا في العراق، وحربهما والانتصار عليهما سوف يعطيان لكلتا القوتين بعداً شرعياً ووطنياً، وهذا ما كان. الحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان وحدهما من يستطيعان رسم المعادلات على الأرض بكل أشكالها، ابتداء بالاقتصاد وليس انتهاءً بالسياسة، وما تجر إليه من فساد في مثل هذه الحالات.
لماذا خرج شباب البلدين غاضبين؟ ليس من الصعوبة الإجابة على هذا السؤال، فالتركيبة السياسية الحالية في كل من البلدين، ووجود قوى عسكرية تابعة، وأهداف وأجندات خارجية جعلت الدولة
بقي أن نقول إن واحداً من أهم ما جمع شمل المتظاهرين هو كرههم إيران ومليشياتها وزبائنها، فكان علمها في حالات كثيرة مساراً للدائسين.
دلالات
مقالات أخرى
28 يوليو 2020
25 يونيو 2020
17 ابريل 2020