12 يوليو 2024
"كلّن يعني كلّن"
فليسمّها من يشاء ما يشاء. مجرّد تظاهرات أو احتجاجات غاضبة أو حراك شعبي واسع أو انتفاضة أو ثورة. هي بالنسبة لنا، نحن اللبنانيين الذين نشاهد ما يجري من قلب الساحات، انتفاضة غير مسبوقة. ما قبل 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 ليس كما بعده. تلك الدعوة الفيسبوكية للتجمع، احتجاجاً على فرض ضريبة على اتصالات الإنترنت، والتي سرعان ما تمدّدت، وتحوّلت إلى أكبر حراك على مستوى لبنان، نعم فاجأتنا لكنها أحيتنا. وبغض النظر عن نتيجتها النهائية، سواء تمكّنت السلطة من احتوائها، وهي تستميت لتحقيق ذلك، أم فشلت، فإن ما يشهده لبنان لا مثيل له. سمحت هذه الانتفاضة لنا، أخيراً، بأن نعيش جزءاً من أحلامنا. أتاحت لنا أن نشهد حراكاً موحداً عابراً للطوائف وغير مركزي، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ولا يرفع فيه أي علم حزبي. أن نرى طرابلس أبعد من مجرّد صندوق بريد ورسائل أمنية وجولات للمعارك بين باب التبانة وجبل محسن. ونشاهد أبناء الفيحاء موحدين يهتفون ضد الزعماء الذين طالما سخّروهم لحروبهم، ويرقصون. هي الانتفاضة نفسها التي تنفّس فيها أبناء الجنوب في صور والنبطية، وصرخوا أخيراً ضد نبيه بري وحسن نصر الله كما سعد الحريري وجبران باسيل، راسمين مشهدية بطولية، وهم عُزّل يتصدّون بأجسادهم للبلطيجة ومحاولات كسرهم. وهي الانتفاضة التي خرج فيها أبناء بعلبك والهرمل، مدينتي الحرمان والتهميش، كما سكان جل الديب وكسروان ضد سياسيين كانوا يظنون أنهم يستطيعون التحكّم بالشارع. وهي الانتفاضة التي جعلت مناطق في الجبل ترفع شعار إسقاط الإقطاعية السياسية، وهي نفسها التي سمحت بأن ينبض الوسط التجاري الميّت بالحياة مجدّداً. يجتمع فيه أبناء العاصمة ومحيطها من الفقراء، ومن هم محسوبون على الطبقة الوسطى التي تآكلت، ويشعلون ساحتي رياض الصلح والشهداء وما بينهما من شوارع محيطة بهتاف "ثورة... ثورة" و"الشعب يريد إسقاط النظام" و"كلن يعني كلن"، بدون أي حصانة أو استثناء لزعيم ديني أو سياسي.
وأهم ما في هذه الانتفاضة أنها كسرت كل المحرمات منذ الحرب الأهلية وإفرازاتها، والتي مكّنت أمراء الحرب من إعادة تدوير أنفسهم وأولادهم، وفرض سطوتهم على البلد، والإمعان في نهبه، ظنّاً منهم أن لا رادّ لهم. كما أنها أعادت تذكيرنا بدرس الثورات العربية الأهم، أن توقيت انفجار الغضب الشعبي لا يمكن توقعه، لكنه ممكن. فما الذي كان يمكن أن يخسره اللبنانيون بعد حتى يصبروا أكثر؟ راكموا، منذ انتهاء الحرب الأهلية وإرساء اتفاق الطائف الخسائر تلو الخسائر. طبقة سياسية مهترئة، وممعنة في الفساد. أغرقت الشعب في الفقر والديون، بينما حساباتها المحصّنة في المصارف تزداد. حرمت اللبنانيين من كل ما يمنحهم الحياة الكريمة، وحولتهم إلى متسولين على أبواب الزعماء، من أجل نيل حقوقهم في الطبابة والتوظيف والتعليم.. منعت عنهم حتى الهواء النظيف، وتعد عليهم أنفاسهم حتى تحوّل أقل موقفٍ على مواقع التواصل الاجتماعي سبباً لاستدعائهم وترهيبهم. وبلغ بها الفجور حد الرغبة في سرقة آخر ما تبقى لهم من مكتسباتٍ، وتهديد لقمة عيشهم. لكل هذه الأسباب، كان الانفجار مسألة وقت، لكن اتساعه على هذا النحو كان المفاجأة.
ويكفي هذه الانتفاضة أنها هزّت أركان السلطة، وأربكتهم وأشعرتهم بأن بقاءهم على كراسيهم مهدّد، وأجبرتهم للمرة الأولى على التفكير بتقديم تنازلات. أما ما بعد ذلك فمتروك للأيام. تفكيك الطبقة الحاكمة، بتشابك مصالحها وتضامنها، ليس أمرا هينا، لكنه غير مستحيل. وجميع المؤشرات من استخدام الجيش في وجه المحتجين ونشر البلطجية لضرب المتظاهرين وترهيبهم ووصفهم بالعملاء، واستدعاء حديث المؤامرة والضغط على وسائل الإعلام لوقف تغطية ما يجري في الساحات، تؤكد أنها لن تستسلم بسهولة. لكن مع كل محاولة جديدة لقمع الانتفاضة تتشكل أدوات جديدة للمقاومة في الشارع، تُبقي الأمل بإمكانية استمرارها وتحقيق أهدافها.
ويكفي هذه الانتفاضة أنها هزّت أركان السلطة، وأربكتهم وأشعرتهم بأن بقاءهم على كراسيهم مهدّد، وأجبرتهم للمرة الأولى على التفكير بتقديم تنازلات. أما ما بعد ذلك فمتروك للأيام. تفكيك الطبقة الحاكمة، بتشابك مصالحها وتضامنها، ليس أمرا هينا، لكنه غير مستحيل. وجميع المؤشرات من استخدام الجيش في وجه المحتجين ونشر البلطجية لضرب المتظاهرين وترهيبهم ووصفهم بالعملاء، واستدعاء حديث المؤامرة والضغط على وسائل الإعلام لوقف تغطية ما يجري في الساحات، تؤكد أنها لن تستسلم بسهولة. لكن مع كل محاولة جديدة لقمع الانتفاضة تتشكل أدوات جديدة للمقاومة في الشارع، تُبقي الأمل بإمكانية استمرارها وتحقيق أهدافها.