الأردن.. الرزاز منتصراً ومهزوماً

25 يناير 2019
+ الخط -
جاء استطلاع الرأي لمركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية بغير ما تشتهي حكومة عمر الرزاز، فثمّة ضعف كبير في شعبيتها في المحافظات، حيث القوى والبنى التقليدية للدولة، بالإضافة إلى تدنّي شعبية الرزاز نفسه، واستهلاك التفاؤل الشعبي به مبكّراً، والذي استُقبل به عند تشكيل حكومته، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة الأردنيين الذين يرون الأوضاع الاقتصادية تتجه إلى الأسوأ. وبحسب نتائج الاستطلاع، ما زال الوضع الاقتصادي والبطالة والفساد المالي والإداري أهم مشكلات الحكومة، وموطن إخفاقاتها.
خلاصة الاستطلاع انخفاضٌ في شعبية الحكومة ورئيسها بشكل كبير، لتكون المواجهة الحكومية بقراراتٍ شعبويةٍ، فما كادت النتائج تُنشر، حتى صدرت قراراتٌ من المدّعي العام بتوقيف وزير سابق ومدير عام سابق للجمارك وآخرين، في قضية الفساد، الدخان، وكانت قد انفجرت أمام الحكومة مبكّراً. ووفق مراقبين، جاء هذا الإجراء السريع مباشرة بعد نتائج الاستطلاع إجراء استباقيا لمعالجة نزيف الثقة التي يبدو أن الرزاز هزمته الأطراف فيها، فالجغرافيا تبدو عصيةً على حكومة "النهضة الوطنية"، وهي عصيةٌ على التطويع، وترسل عدة رسائل إلى الحكومة، منها رفض مسار الدولة المدنية وتيارها الذي يملك مشروعاً، ويمكن الاتكاء عليه بالنسبة للرزاز.
أما ثقة الأطراف المتدنية فمعناها العودة إلى العمق التقليدي للدولة الأردن، وتبرير للخشية على مصير البلد، وفقاً للإنذارات النخبوية التي أطلقها رجال حكومات سابقة، طاهر المصري 
وعبد الرؤوف الروابدة وأحمد عبيدات مثلا. وبالتالي، لم يعد تشكيل الرأي العام ضد الوضع الراهن صناعةً فيسبوكية وحسب، بل هو تعبير عن أن قواعد الحكم باتت تتململ، وهو ما يُقلق الدولة العميقة والنظام على حد سواء؛ لأن الأطراف تشكل المخزون الولائي التقليدي الذي قالت حكومة الرزاز إنها جاءت لتعطيه ثقةً مبنيةً على صيغ الحكم الرشيد، ورفض الثقة التقليدية عند الأردنيين، والتي قال الرزاز، قبل شهور، إنها موروثة وتقليدية وأبوية وانطباعية.
في المقابل، كان على الرزاز تدبّر حالة تراجع الثقة، وتبديد مخاوف الناس من الوضع الاقتصادي، فحظيت الأسئلة الشعبية بشأن الإجراءات الماليّة لحكومته، ومدى نجاعتها في خفض الدين العام، وتراجع العجز، بمتابعةٍ حثيثةٍ منه، وهو الذي يُعتبر من المتفاعلين والمتعاملين بجدية واهتمام كبير لما يكتب ويقال على شبكات التواصل الاجتماعي، فاختار، بعد أن أنجزت حكومته تعديلها الثاني، وعشّية إعلان استطلاع الرأي الذي لا شك أنه تسلّم نسخةً من نتائجه قبيل إعلانه، الإطلالة الفيسبكوية، والتغريدة التويترية الشارحة نتائج القرارات الاقتصادية لحكومته، ونجاحها في تخفيض اتجاه المديونية من "الزيادة إلى الانخفاض" للمرة الأولى منذ عام 2008 كما قال، معلنا أنّ نسبة العجز في الموازنة تراجعت إلى 2,3%.
وقد لجأ الرزاز الذي يبدو مدركاً أهمية التواصل المباشر مع الجمهور، في مجتمع في المقدمة عالمياً في التفاعل مع شبكات التواصل الاجتماعي، إلى تعاملٍ مختلفٍ عن أسلافه الرؤساء مع الجمهور، وعنوان الاختلاف تجاوز "الترتيبات والبروتوكول" الاعتيادي لإطلالة أي رئيس حكومةٍ على الجمهور، وفقاً لما يُعده مشرفو ملف الإعلام، فيخاطب الناس بلغةٍ مبسطةٍ بعد ارتفاع منسوب الأسئلة عن جدوى القرض الجديد الذي ستوقعه حكومته مع البنك الدولي، بقيمة مليار ومائتي ألف دولار، وهو الأكبر في تاريخ قروض البنك للأردن، قائلاً إنه قرضٌ "لن يؤدّي إلى زيادة الاقتراض عن المستهدف في الموازنة، كونه سيمكّن الحكومة من تسديد قروض أخرى حصلنا عليها سابقاً بفوائد أعلى، وبالتالي سنستفيد من خفض قيمة الفوائد المترتّبة على القروض، وسنتمكّن من استخدام التدفّقات النقديّة الأخرى من الإيرادات والمنح لتسديد القروض المستحقَّة علينا في نهاية عام 2019...".
تغريدة الرزاز ومنشوره ردٌّ على واقع اقتصادي بات يعاني فيه الناس كثيرا، فمئات المتعطلين من الشركات جرّاء الإغلاقات يراجعون يوميا مؤسسة الضمان الاجتماعي لصرف رواتب لهم، وشركات كثيرة أغلقت، والسوق المالي في تراجع، والاستثمار لم يُجلب كما هو مأمول، والناس في الأطراف جاعت. ومعنى هذا كله أن كل إجراء سياسي يجب أن يترجم إلى لغة أرقام غير معقدة، فيرد الرزاز بشأن انخفاض الشعبية بشرح مفصل وتعديل حكومي في اليوم الذي نشر فيه منشوره في "فيسبوك" وغرد به عبر "تويتر"، وهو التعديل الثاني، والمختصر، وجاء بعد نحو سبعة أشهر على تشكيل الحكومة التي مرت في هذه المدة بظروف ليست مريحة تماماً وتلقت لكمات عديدة، منها مواجهة استمرار الحراك الشعبي وأسئلته المشروعة منذ الاحتجاج على حكومة هاني الملقي في مايو/ أيار الماضي، ثم معركة الثقة، وما أثير لاحقاً من جدل عن قضية الدخان، لتضيف مزيدا من التبعات على الحكومة التي نجحت في تجاوز كل هذه الملفات، لكنها استنفدت كثيرا من قوتها مبكراً، وبدت تنزف ثقة وتراجعا في حركة الاقتصاد.

لاحقاً بدأ الرزاز، وبعد إقرار قانون الضريبة، وهو الأهم باعتباره منجزا ماليا، بالإعداد لزيارة الولايات المتحدة والحصول على قرض تاريخي من البنك الدولي، وزار تركيا والعراق، وفتح الباب على عودة العلاقات مع الجار السوري، حيث السوق السوري وملف إعادة الإعمار، ثم جاء القرار برفع التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى قائم بالأعمال في السفارة الأردنية في دمشق. وهذا كله يعني أن محور العراق سورية إيران منفتح على علاقات إيجابية مع الأردن، فالقرار في بغداد ودمشق والتسهيلات العراقية الممنوحة للأردن، وفتح المجال أمام المقاول الأردني في ملف الإعمار السوري، لم تكن لتمر لولا مباركة إيران التي زار سفيرها في عمّان، قبل أيام، مجلس النواب الأردني، والتقى لجنة الشؤون الخارجية فيه. وبزيارة وزير الداخلية الدوحة، أخيرا، ولقائه كبار المسؤولين فيها، تتجاوز حكومة الرزاز حلفاء الأردن التقليديين، شيئاً فشيئاً، وتتجه إلى خيارات وآفاق جديدة عنوانها المصالح الوطنية.
أما داخلياً، فلم تحقق انتصارات الرزاز في القرارات المالية نتائج على الأرض، وهي انتصارات تعاونت فيها معه النقابات والحركة الإسلامية، من حيث امتصاص قوة غضب الشارع، وعدم الخروج إلى الشارع ضد الحكومة، وما قيل من تحسّن المالية العامة، وخفض العجز، مع هبوط مؤقت في مستوى الحراك الشعبي، والقدرة على بناء حالة اتصالية فاعلة من الرئيس. كل ما سبق سيوفر مناخاً أفضل لعمل الحكومة، تسوق نفسها أنها قادمة لإحداث نهضة وطنيّة، عنوانها المواطنة ودولة الإنتاج، لكن كل ما سبق هو أشبه بانتصار بطعم التعادل، ذلك أنه لا انعكاس لنجاح الحكومة في معالجة ملفات الفقر والبطالة وتردّي الخدمات، وثمّة هزيمة في الثقة بين النخب والعينة الوطنية في استطلاع الرأي أخيرا.
وهنا لا تكمن المحاذير أمام الحكومة في حقيقة تراجع الحراك الشعبي على الدوار الرابع (مقر رئاسة الحكومة في عمّان) وفي الأطراف أم لا، فقد تكون صفة "التراجع" نتيجة حالة الجو والطقس، وبالتالي احتمال العودة قريباً مع بدء شهر فبراير/ شباط، وصولاً إلى شهر رمضان، حيث الذكرى الأولى لهبة أيار ضد حكومة الملقي، ثم إن رهانات الرزاز على وعود الجوارين، العراقي والسوري، قد تبقى معلقة، ولا تنعكس على الناس العاديين، فالمستفيد منها مباشرة التجار والمقاولون. كما أن حالة الانتصار في توقيف متهمي جريمة الفساد في قضية الدخان لن تصمد كثيراً أمام الحراك الذي قد يعود بمواجهة جديدة، عنوانها مزيد من رؤوس الفساد. ومعنى ذلك أيضا أن حالة المصالحة مع الجمهور، وعبر إقرار مشروع قانون العفو العام المنتظر إقراره في الأيام المقبلة، والذي قد يسهم في امتصاص الغضب الكامن عند المعنيين بالعفو وامتداداتهم الشعبية، لن يطول تأثيرها، مع الأخذ بالحسبان أن المشروع أحدث جدلاً كبيراً بسبب التوسع فيه، وشموله سارقي المياه والكهرباء، وهو ما دفع مجلس الأعيان إلى رده.
هنا أهمية استطلاعات الرأي بما حملته من تراجعٍ في شعبية الرئيس بعد المائة يوم الأولى،
وهو ما أكّده استطلاع المائتي يوم، والمعلن أخيرا. وهذا ما يعني ضربة لحلفاء الرزاز في التيار المدني الذي يلقى معارضةً معلنةً أيضاً في أوساط التيار المحافظ، مع تحسبٍ وريبةٍ في عمق الدولة العميقة التي حققت انتصاراً في اختيار بدائل الوزراء المستقيلين، حتى وإن كانت محدودة، فيبدو أن المرجعيات السياسية للتعديل الثاني أوقفت اندفاع الرزاز نحو الوجوه الليبرالبية المدنية من محيط معارفه وعلاقاته، وجاءت ببدائل أقلّ ليبرالية، لكنها ذات خبرة تمزج بين البيروقراط والتكنوقراط، وهذا ما تجسده شخصية وزير التربية والتعليم العالي، وليد المعاني، المعروف بجديّته، ولديه مشروع لإصلاح التعليم العالي، وعنده رؤية لإنقاذ ماليّة الجامعات من العجز. كما أن وزير النقل إنمار الخصاونة ذو خبرة فنية كبيرة أيضاً في ملف النقل الذي يشهد جدلا كبيرا بسبب تحديات قطاعه والحاجة لتطويره.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.