تونس.. لا مكان للمثقف

30 اغسطس 2018
+ الخط -
ما زال الخوف من الثقافة والمثقفين يسيطر على عقول المشرفين على الفضاءات العمومية التونسية، وخصوصاً القنوات التلفزية، عمومية وخاصة. تؤكد تباشير البرامج الجديدة لهذه الفضاءات والتلفزات، مرة أخرى، أنه تصدُق على أصحاب هذه القنوات تلك المقولة الشهيرة التي تُنقل على لسان وزير الدعاية النازي، غوبلز، "سحب المسدس مع سماع كلمة ثقافة..".
تنخرط الفضاءات العامة في تونس والتلفزات كذلك في تأسيس مشهد عام، تحكمه مفارقة عجيبة: نسف ممنهج للمعرفة والثقافة، وتسطيح نسقي لعقول المتلقين لمواد إعلامية أنجزت للبهرجة والتهريج والتفاهة، فلا خير يُرجى منها، ولا هدف لها، غير الهدم المتعمّد لكل بنية فكرية معرفية جادة.
من الجهة الأخرى قنوات تؤسّس للتزمت، واستفحال الكهنوت، وقتل كل إرادة للقراءة والتدبّر والاجتهاد. يزداد الوضع تعقيداً بالتكاثر الفطري لتلك القنوات، وهذه: فماذا يفعل الناس، وأين يولون وجوههم؟ في هذا المشهد المثير للغثيان والجنون، تجد قيم المعرفة والثقافة فيه أكثر من الغربة، وأبعد من الأزمة، فلا أحد ينتظرها، ولا مكان تنتظر فيه.
يطفو الضجيج في هذه الفضاءات على الكلام، ويُعتدى على الكلام بما يصل إلى ضفاف الفحش، وقلة الذوق، والإيماءات، والهمهمات، والإشارات التي لا يمكن أن تصدر عن شاشات وبرامج تدخل بيوت الناس الغلابة، المتعطشين للهروب عبر أي شيء، بعيداً عن واقعٍ يراكم البؤس ويشرّع للحرمان.
(2)
يقول مارلو بونتي إن سقراط قضى عمراً كاملاً يعلم سكان أثينا الفرق بين الكلام والضجيج، 
فهل يحتاج التونسيون إلى سقراط جديد، يعلم ساكني فضاءاتهم العمومية وتلفزاتهم، من مهتمين بالإعلام وهواة سياسة ومنتسبين ظلماً وبهتاناً للفن والثقافة، الفرق بين الضجيج والتهريج والغوغائية والكلام الرصين المفيد الحامل لخطاب هادئ ومؤسّس؟
لا شيء غير الثقافة يعيد التوازن إلى هذه الفضاءات والقنوات التي لم تعد تراعي كرامة مشاهديها، وطقوس المجتمع وقيمه.. فكيف يمكن للمثقف الجاد والفيلسوف والمبدع أن يستعيدوا مكانهم ومكانتهم ضمن هذه القنوات، ومن يمكن أن يقبل بهم في فضاءاتٍ يباع كل شيء فيها ويشترى؟
ليت الأمر يتوقف عند غياب هؤلاء عن هذه الفضاءات، فقد حدث أن دُعي أكبر رموزهم، وكانت الدعوة بغرض السخرية و"الشو" المشهدي، الفاقد كل ذوق، وما حدث مع المؤرخ والمفكر التونسي، المرحوم محمد الطالبي، نموذج.
(3)
المثقف يوجد هنا في كل منعرجاتنا وهزّاتنا الحضارية، والثقافة تلبس وهماً صورة طوق النجاة، عندما تشتد العواصف، ويشتد التوتر، ليعلو منسوب أزماتنا الاجتماعية طرحاً لأسئلة التعايش والمواطنة، وعلاقاتنا بالمقدّس وويلاتنا أمام مدارات الرعب وقساوة الواقع، المثقف هو المطالب بأن يرسم لمجتمعه ضوء الأمل، وطريق الخروج من مساحة التوتر واليأس.. ولكن أين مكان هذا المثقف، وكيف يسمع صوته والضجيج يصم الآذان. من يقول للمثقف تعال اتلُ علينا نشيد الخلاص.
ستعم المأساة، وتهدم الكارثة كل جميل فينا، إذا استمرت الحياة في حوزة الساسة الفارغين المستعجلين والكهنة ورجال الدين المغالين المتزمتين والإعلاميين المتسلقين المسكونين بشهوة المال ونجومية القصب.
(4)
لا يعني هذا التشخيص لواقع المثقف في الفضاء العام التونسي، سيما بعد ثورة الحرية 
والكرامة، إطلاقاً أن المثقف هو سادن الحقيقة ومالكها، ولا يشترك مع غيره في ذلك: للمثقف دور ريادي فاعل في التنوير، وبالتالي في التحولات الاجتماعية نحو توطين الديمقراطية وقيم المواطنة، وإرساء أسس المجتمع المدني، "لكل عامل منتج في مجاله صلة بالحقيقة، بقدر ما يخلق، عبر نتاجه وإبداعه، وقائع تسهم في تغيير المشهد على مستوى من مستوياته"، والكلام هنا للمفكر اللبناني علي حرب. أما الفيلسوف الألماني كانط، فقد عرّف التنوير بأنه خروج المرء من قصوره، والجرأة على استخدام عقله من غير وصاية. وبهذا المعنى، كما يراه كانط، ويرسمه علي حرب، ليست صلة المفكر اليساري الكبير نعوم تشومسكي بالحقيقة أقوى من صلة بيل غيتس بها، لأن ما ابتكره الأخير من الوقائع في مجال البرمجيات يشكل فتحاً كونياً، أسهم في تغيير مشهد العالم.
هنالك الآن تحول اجتماعي يتشكل ولو ببطء، وهنالك شوق مجتمعي نحو التحرّر والتحديث، وامتلاك قيم المواطنة. وهنالك أدوار شتى ومتشابكة، لفاعلين عديدين، ينسجون قماشة هذا التغيير والتحول، وإن من شأن تغييب المثقف ودوره أن يعطلا مسار التحول، لأن المثقف، وإن كان لا يملك وحده كل الحقيقة، فهو يظل حامل المصباح الذي ينير المسالك، ويضيء الدروب الموصلة إلى الهدف. .. إنه الوحيد الذي يمتلك الجرأة على استخدام عقله من غير وصايا، كما قال كانط.
دلالات
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي