"السلطويات العربية" حين تنتقد التجربة التركية

02 يوليو 2018

فلسطيني يرسم أردوغان على رمل شاطئ غزة (26/6/2018/الأناضول)

+ الخط -
أقامت السلطويات العربية "سرادق عزاء" على خلفية نتائج الانتخابات التركية التي انتظمت أخيرا، ورسخّت حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا سنواتٍ مقبلة. ولم يتوقف إعلام هذه السلطويات عن ترويج خطاب مبتذل، غارق في النزق والتضليل بشأن ما جرى في تلك الانتخابات إلى الدرجة التي جعلت منافسي "العدالة والتنمية" يسخرون من فرط بؤس هذا الإعلام ومن يمولونه ويدعمونه. وهو فضلاً عن كونه خطابا غارقا في الابتذال والانحطاط الأخلاقي، حتى أصبح مدرسة بذاته في ترويج فنون الإعلام الهابط، فهو خطابٌ مثير للشفقة والغثيان. ومرد ذلك أنه في كل مرة يخرج فيها ذاك الإعلام بترهاتٍ عن تركيا وأوضاعها السياسية والاقتصادية، يتلقى هزيمةً لا تجعله يتوقف عن ترويج تلك الترهات، وإنما تزيد جنونه. ونتذكر جيداً قبل عامين، حين تبنى الإعلام السلطوي المحاولة الانقلابية في تركيا، وكان من أوائل الناقلين والداعمين لها على الهواء، إلى درجة الزعم بهروب الرئيس رجب طيب أردوغان إلى خارج البلاد، ولم يتوقفوا عن ذلك، إلى أن نجح الرجل في السيطرة على الموقف، وإجهاض المحاولة الانقلابية. ومذاك، أصيب ذلك الإعلام بصدمةٍ جعلت من يديرونه في حالة جنونٍ لا تتوقف.
لا يهاجم الإعلام السلطوي، ومن يقفون وراءه ويمولونه، التجربة التركية بسبب صراعٍ سياسي مع رجلها الأول أردوغان فحسب، وإنما كون التجربة ذاتها تمثل حرجاً كبيراً لهم، إن على مستوى الديمقراطية التي تتبناها إطارا للصراع السياسي، أو نتيجة المكانة التي تحظى بها التجربة لدى مواطنين عربٍ كثيرين. ويبدو الأمر أنه كلما نجحت تركيا سياسياً واقتصادياً، شعر السلطويون العرب بفشلهم الذريع، وبؤس حكمهم وخياراتهم. وهم أشبه بتلميذٍ بليدٍ يريد أن يلتحق به أقرانه في بلادته وفشله، لا أن يجتهد هو ليكون مثلهم ويتفوّق عليهم. وهم لا يريدون انتخاباتٍ نزيهة، ولا تنمية اقتصادية، ولا عدالة اجتماعية، ولا تنوعا سياسيا وثقافيا، وهو ما يجعل مواطنيهم ينظرون إلى النموذج التركي بتقدير واحترام كبيرين. وهم يريدون أن تتحول تركيا إلى دولة فاشلة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، حتى لا تُظهر ضعفهم وفشلهم. وهم هنا لا يفعلون الشيء نفسه مع إسرائيل التي تتفوق عليهم في المجالات كافة، من دون أن تهتز لهم شعرة أو يتحرك لهم ساكن.
وبينما لم يجرؤ الإعلام الغربي الذي يناصب أردوغان العداء منذ سنوات على التشكيك في نزاهة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية أخيرا في تركيا، فقد قطع الإعلام السلطوي شوطاً كبيراً في الترويج الكاذب والفاضح لتزوير الانتخابات، مدعياً خسارة أردوغان السلطة، ومروّجاً أن منافسه، محرم إنجه، مرشح حزب الشعب الجمهوري، هو الذي فاز بها، وذلك إلى أن خرج هذا الأخير على الملأ وأعلن خسارته وفوز منافسه أردوغان.
لا يخجل السلطويون العرب من مهاجمة التجربة التركية، بينما بلادهم غارقةٌ في طبقاتٍ من القمع والظلم والفساد. وهم لا يشعرون بأي حرج أو ذنب في تمويل حملات التشويه والتضليل ضد هذه التجربة، بينما كثير من مواطنيهم يعيشون تحت خط الفقر. وفي الوقت الذي نجحت فيه تركيا في تحسين أوضاع مواطنيها الاقتصادية والاجتماعية، ورفع معدلات التنمية في أقل من عقدين، فإن مجتمعات عربية كثيرة تعاني بمرارة من وطأة تلك الأوضاع منذ عقود.
والمدهش أن السلطويين العرب على استعداد أن ينفقوا مليارات الدولارات على تدمير التجربة التركية وسحقها، ولا ينفقونها على تنمية بلدانهم ومجتمعاتهم. وهناك دولٌ عربيةٌ غنيةٌ بثرواتها الطبيعية، لا تتورّع عن تمويل الحروب، وتدمير المجتمعات، وحصار الشعوب، والتخطيط للانقلابات، وشراء الذمم والنفوس، لا لشيءٍ سوى لتحطيم خصومها، خصوصا من تيارات الإسلام السياسي. ولو أنها أنفقت تلك المليارات على المجتمعات العربية الفقيرة، كما الحال في اليمن، لكان أفضل لها ولسمعتها.
قطعاً، ليست التجربة التركية مثالية، كما أنها لا تخلو من المشكلات والعيوب، خصوصا في مجال التضييق على الصحافيين وحرية التعبير منذ المحاولة الانقلابية في صيف 2016، ولكنها لا تقارن من قريب ولا من بعيد بما نراه في بلداننا العربية. كما أنها تجربة تستحق الوقوف عندها، والتعلم منها، وليس الهجوم عليها، ومحاولة هدمها وإفشالها. وإذا كان من نقدٍ يوجه إلى هذه التجربة، فلا يجب أن يأتي من دولٍ لا يُسمح لمواطنيها بحرية الصمت أو الكلام، ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".