عن تدجين الصحافة المصرية

04 يونيو 2018
+ الخط -
في خضم الموجة العدائية في مصر ضد وسائل الإعلام منذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013، والتي أعقبت الانفراج الواعد عامي 2011- 2012 لثورة إعلامية، تسير جنباً إلى جنب في موازاة الثورة في مصر، انقسمت الصحافة في مصر، كما في دولٍ عربيةٍ عديدة، إلى صحافة تابعة مرضيٌّ عنها، وأخرى مستقلة، أو معارضة مُلاحقة.
جاء نظام السيسي بعبد المحسن سلامة نقيباً للصحافيين المصريين، ودعمه في وجه منافسه المعارض، يحيى قلاش، في انتخابات النقابة عام 2017، وكان قلاش قد فاز في انتخابات 2015. وجاء دور سلامة، ليدفع ثمن هذا الدعم، فسلم النقابة بكاملها للنظام، لتقوم مقام أحد مكاتب المجلس الأعلى للإعلام. وبما أنّ النظام العسكري لا يسمح لنقابة الصحافيين باستكمال دورها في الدفاع عن الحريات، فقد قام النقيب سلامة بدورٍ آخر، هو كيل المديح للنظام بادعاء أنّه وفّر الأمن والأمان للمصريين.
وفي بداية مارس/ آذار 2018، قبيل الانتخابات الرئاسية، حذَّر الرئيس عبد الفتاح السيسي الصحافيين، بشكل مباشر، من انتقاد نظامه. وبشكلٍ آلي، أصبحت تُهم "التجديف" و"التآمر" ضد الدولة مسلطةً على رقاب وسائل الإعلام التي لا تُعلن صراحة ولاءها للنظام الحاكم في البلاد. عندها، وصل الأمر بسلامة أن حثّ المواطنين على الخروج لانتخاب السيسي، حتى يعود حقّ الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الوطن، حسب قوله. ويلاحظ أنّ ذلك كان يجري بينما أمرت النيابة بحبس رئيس تحرير موقع مصر العربية، عادل صبري، 15 يوماً بعد إغلاق موقعه، وأقيل رئيس تحرير صحيفة المصري اليوم، محمد السيد صالح، والتهمة 
لكليهما نشر أخبار أساءت للانتخابات الرئاسية. هذا غير الاعتقالات اللاحقة، ومنع نشر المقالات التي يُشتمّ منها رائحة معارضة في الصحف السيّارة، ما يعني أنّ العقل الأمني ماضٍ في هذيانه الاستنساخي، باستخدام التهم الجاهزة، مثل "تهديد الأمن الوطني" و"الانتماء إلى جماعة إرهابية" أو "نشر معلومات كاذبة"، ذرائع تختبئ وراءها السلطة عادة لإلقاء القبض على صحافيين غير موالين، أو يُشتبه في تعاونهم مع وسائل إعلام معارضة للنظام.
يزايد عبد المحسن سلامة على وطنية هؤلاء، ويتحدّث باسم النظام منافحاً عنه، ومدعياً أنّه كثيراً ما يُسأل فى الخارج عن كيفية عبور مصر من أزمتها، وتحقيق إصلاح اقتصادي، فيوضح لهم أنّ ذلك تم بفضل جرأة الرئيس عبد الفتاح السيسي (!). ولا يجرؤ نقيب الصحافيين المصريين هذا على الحديث عن حرية الصحافة، ولا تزعجه مصادرة الصحف، أو سجن الصحافيين والتنكيل بهم. بل تطوّع بأن يضع كل صلاحيات النقابة تحت إمرة مكتب السيسي.
وفي هذه الحالة، لا يستطيع رأي عابر أن يردّ مسألة عدم استقلالية الصحافة والمؤسسات الإعلامية الأخرى إلى مجرد مؤسساتٍ تصدر عنها، ولا إلى موالاتها أو معاداتها النظام، ولا إلى تاريخ نشوء الصحيفة المعينة وهامش الحرية الممنوح لها، ففي غياب البديل المعرفي، وهو بديل يُنادي به منذ زمن حتى لا تظل الصحافة مترنحةً بين انغلاق قديم وانفتاح جديد صارم، وسطحية تناول لقضايا اجتماعية، لا تظهر من بين طرحها غير الإثارة والفضيحة، يتعذّر الحكم على الصحف كثُر أو قلّ عددها. وهذا البديل الذي يقوم عليه ناشطون ومدونون يتعرّضون أيضاً للقمع الممنهج، يتراءى سرابه وعيٌ نقدي يتحرّك بين ثنايا الانغلاق والانفتاح، متحاشياً السقوط في مزالق التمويه والتأليه للمؤسسات والأشخاص.
فكرة الصحافة التابعة مريضة في الأساس، ففضلاً عن أنها لسان حال النظام، فهي لا تملك الشجاعة لأن تدّعي التجرّد والبحث عن الحقيقة خارج إطار الجهة التابعة لها، فهي تدنّس ما حولها، وتقدّس ما يعيش تحت سقفها. ولعل نظرة خاطفة إلى تاريخ الصحافة كافية لتأكيد أنّ ظاهرة النشوء والتطور والاندثار ذاتها تتكرّر على الرغم من تعاقب المراحل.
بالإضافة إلى هذه الانكسارات في مكانة المواطن المصري، حدث انكسار موازٍ في قيم 
الصحافة، وحكمها على الأشياء، ففي الحكم عليها، لا يتسع الأفق إلّا بالنظر إلى اتجاهين متضادين، واحد يمجد الماضي مهما كانت سلطويته، وآخر ينظر إلى المستقبل بأمل، ويرى فيه تحقيق حلمه وسلطته الرابعة. ولم تنبت هذه الأرضية غير كثير من أدب الهجاء، والتطرّف يميناً ويساراً، ولا مجال فيه لأحلام الوسط، أحلام المستقلين في التغيير.
يسيطر شبح العقل القمعي الذي تعدّى طور الممارسة الفوقية، حتى أصبح جزءاً من الحياة اليومية في المدارس والجامعات والأماكن العامة، كما في المؤسسات الصحافية، ليحصي أنفاس المواطنين وسكناتهم وحركاتهم. ولو لم يمارس النظام هذا القمع مباشرة، فهناك قمعٌ بالوكالة يمارسه القائمون على أمر المهنة نفسها، مثل الذي يحدث من نقيب الصحافيين. في هذه الحالة، يمكن توحيد الجهود بإعادة النظر في البرامج التربوية والثقافية والإعلامية المستقلة، مشروعاً مقترحاً وترياقاً مضاداً للرقابة، ليفتح مناخات جديدة، يعمل فيها أصحاب القلم والكلمة على الفصل بين النظام والوطن.
يشمل الحديث عن الجودة الأخلاقية أيضاً ردم هوة الثقة والمواقف العدائية بين القنوات والصحف من جهة، وبين المجتمع المدني من جهة أخرى، ليتخلّق، وفقاً لذلك، إطار ينظم العلاقة بينهما. وأهمية ذكر هذه العلاقة ومناقشتها أنّه من صميمها ستأتي حرية الصحافة والتعبير، الحلم القائم على فكرة أنّ للإعلام رسالة، يجب أن تعبر الأرض الحرام، وأن هذا الكمّ الهائل من الصحف التي تشتعل الرقابة تحت أقدامها مع حمّى الترهيب، بينما هي تبحث عن صفحةٍ لم تُبتر بعد، لتكتب فيها ميثاقاً للحرية.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.