تركيا وأردوغان عربياً

28 يونيو 2018
+ الخط -
ما الذي يجعل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، موضوع استقطابٍ، حادٍّ أحيانا، في الحالة العربية الراهنة، وعلى ماذا يدلّ هذا الأمر؟ كم مرةً اعتنى الشارع العربي، ومعه المجال السياسي والإعلامي في الفضاء العربي العام، قبل زعامة أرودغان وجماهيريّة حزبه في تركيا، بانتخاباتٍ رئاسيةٍ وبرلمانيةٍ في هذا البلد؟ ألا يعدّ التباعد الحادث بين نخبٍ مثقفةٍ عربيةٍ عريضةٍ والشارع العربي، بشأن راهن تركيا ونظامها السياسي المتجدّد، دليلا مُضافا على انكشاف هذه النخبة، وفوقيّتها، وتعالمها، وازورارها عن المنطق الديمقراطي وأبجدياته؟ لماذا يشعر يساريون عرب، من ذوي الهوى الاستئصالي المعلوم، بأنهم يشحطون الذئب من ذيله، وهم ينثرون في الفضاء الأزرق صور أردوغان مع شارون، ويزيدون ويعيدون عن علاقاتٍ تجارية مستمرة بين تركيا وإسرائيل، ويذكّرون بعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)؟ من قال لهؤلاء إن أردوغان وحزبَه أحرزا تقدّمهما في 13 استحقاقا انتخابيا في نحو خمس عشرة سنة لأنهما إسلاميان؟ لماذا لا يتذكّرون أن الرجل عندما زار القاهرة، إبّان رئاسة محمد مرسي، سمع منه "الإخوان المسلمون" كلاما أربكهم، جعل بعضهم يسأل عمّا إذا كان ضيفُهم إسلاميا حقا، وهو الذي استرسل في أحاديثه عن الديمقراطية والعلمانية، فبدا لهم اشتراكيا فرنسيا أو يمينيا ألمانيا، أكثر من ظنّهم أنه "إخواني"، كما يعتقدون، وكما تعوجُّ أدمغة أصحابٍ لنا، يزاولون المثل السائر "عنزة ولو طارت"؟ 

هذه الأسئلة، وحزمٌ مثلها، تبرّرها "ملطمةٌ" بدا عليها مثقفون وإعلاميون عرب، جرّاء "دكتاتورية" صناديق الاقتراع التي جدّدت لأردوغان موقعه "سلطانا" في تركيا، وأعطت حزبَه، العدالة التنمية، ما أعطته من مقاعد في البرلمان (مع أنها أقلّ مما كانت له سابقا!). وتبرّرها أيضا الأفراحُ الواسعة، في شوارع عربيةٍ، بانتصار الرئيس التركي من جديد، فقلّل باعةٌ أردنيون أسعار بعض السلع (البيض مثلا) من أجل عيون أردوغان الذي تسمّى باسمه مولودٌ أردنيٌّ في المناسبة. ..
لسنا أمام ظاهرةٍ تُشابهُ شعبيّة جمال عبد الناصر، والأجواءَ الخلافية بشأنه، والتي كانت وما زالت، ولا تُشابه حظوة صدام حسين في بيئاتٍ شعبيةٍ عربيةٍ عريضة، كانت وما زالت. لا، فالمذكوران عربيان، ولا صلة لهما بديمقراطيةٍ وانتخابات. الحالة مختلفة، عنوانها، على الأرجح، عطالة السياسة في بلادنا، ففيما تقترب نسبة إقبال الأتراك على الاقتراع في استحقاق يوم الأحد الماضي من 90% (أظنها غير مسبوقة في العالم)، فإن الجزائر شهدت نقاشا، قبل سنوات، بشأن تشريع مقترحٍ يعاقب من لا يشارك من المواطنين في الانتخابات. وفي مصر اضطرّوا إلى التمديد يوما ثالثا، لم يكن مقرّرا، في اقتراع عام 2014 الذي وثب فيه عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة، وتقدّمت فيه الأوراق الباطلة على منافسِه حمدين صباحي. أما انتخابات التجديد للمذكور، بعد تزبيط ترشّح موسى أحمد موسى، فمن قلة العقل أن يُتحدّث عنها، في مقامٍ كهذا، عرفت فيه تركيا حدثا مكتمل الشروط الديمقراطية. والديمقراطية، بالمناسبة، تشتمل دائما على عيوبٍ معروفة، لا تحتاج أساطينَ من طينة كارهي أردوغان حتى ينبشونها، أملا بأن نقتنع باستخدام أردوغان صناديق الاقتراع لتمرير دكتاتوريته، على ما يبتكر هؤلاء من حيل لفظيةٍ، ما كان ليستقدمها أحدٌ منهم، لو خسر أردوغان وحزبه.
هي البديهيات، ولا شيء غيرها، ثمّة حاجةٌ ملحّةٌ إلى استدعائها، بشأن راهن تركيا.. منها أن هذا البلد يشهد نهوضا ظاهرا في الاقتصاد والتنمية والإنتاج والسياحة، على الرغم من مشكلاتٍ معيقةٍ ليست قليلة. وتمكّن من حيازة موقعٍ متقدمٍ في خرائط الإقليم، وسط تجاذباتٍ سياسيةٍ عويصة، ومشكلاتٍ سوريةٍ ويونانيةٍ وقبرصيةٍ وكرديةٍ لا تتوقف، فصار رقما ليس هينا في مختلف الرهانات، يعنينا، نحن العرب، الإفادة من كل مساحاتٍ وهوامش فيها لمصالحنا. ومن الضروري أيضا أن نعرف، في أي ضفةٍ كنا بشأن أردوغان، أن ما يُحرزه هذا الرجل من نجاحاتٍ انتخابيةٍ متتاليةٍ لا يعود إلى السّمْت الإسلامي (غير الإخواني بالمناسبة) لحزبه، وإنما إلى منجزاتٍ تتحقق للمواطن التركي الذي يراها بعينيه.. وبالمناسبة، أردوغان يعمل رئيسا لتركيا، تتقدّم مصالح بلده على أي حساباتٍ، ولو عربيةً من أي لون.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.