15 مايو 2024
أميركا وعسكرة المجتمع العراقي
أصدر المرجع الشيعي علي السيستاني، في العام 2014، فتواه بتأسيس مليشيا مسلحة بسبب "اجتياح تنظيم داعش الإرهابي" مساحات كبيرة من الأراضي والمحافظات العراقية، وتراجع حادّ حينها في قدرة الحكومة العراقية بقواتها المسلحة المختلفة على وقف تمدّد هذا التنظيم جنوبا نحو العاصمة بغداد.
ووفق أبسط التعريفات الخاصة بمصطلح "المليشيات" وأشملها، فإنها "مجاميع مسلحة ومنظّمة ومدربة ومدعومة، وتمتلك هيكلتها الخاصة لتحقيق مصلحة حزبية معينة، وهي بذلك الذراع العسكرية لفئةٍ سياسيةٍ أو دينيةٍ، تخوض صراعا أيا كان دافعه"، وهو ما يتطابق، من جهةٍ، مع حيثيات فتوى المرجع علي السيستاني، وما يتقاطع مع ما استمر من حالة تمدّد نفوذ هذه المليشيات وتوسّعه، بعد أن تم القضاء على تنظيم داعش الإرهابي، بمشاركة القوات المسلحة العراقية، وأبناء المناطق التي تعرّضت للاحتلال الداعشي أو تهديده.
ولكن المليشيات في العراق لم تكن وليدة ردة الفعل التي حصلت عام 2014، وقد يعلم متابعون كثيرون للشأن العراقي أن سجل النشاط المليشياوي الفعلي بدأ عقب تمكّن القوات الأميركية من بسط نفوذها في العراق، وتغييب المؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية بقرار الحاكم المدني الأميركي آنذاك، بول بريمر؛ فهو بذلك القرار، ولأسباب أميركية موضوعية حتمية في حينها، فتح الأجواء لفوضى لا حدود لها فيما يتعلق بأمن المواطن وهيبة الدولة ومؤسساتها.
نعم، فمنذ عام 2005 خصوصا، كانت هناك مليشيات في جنوب العراق ووسطه، أبرزها منظمة بدر وجيش المهدي، تلقت دعما مفتوحا من الجارة إيران، وكانت عملياتهما مصدر رعب وترهيب لا يمكن نسيانهما أبدا. وفي الشمال، كانت هناك مليشيات تعمل في الضوء تابعة للحزبين الكرديين، الاتحاد والديمقراطي الكردستانيين، استباحت كل ما له علاقة بممتلكات الدولة العراقية قبل الاحتلال، وتجاوزت على الحدود الإدارية والسياسية للإقليم بشكل سافر، ثم في الوسط والشمال العربيين كانت هناك فصائل عدة مسلحة، ادعّت معظمها أنها تقاوم الاحتلال الأميركي، وتوجه بنادقها إليه وللمتعاونين معه حصرا.
كانت مليشيات كثيرة وما زالت تعمل وتتكاثر في العراق، تارة بغطاء رسمي، وأخرى بغطاء "شرعي" مثل مليشيات لواء اليوم الموعود، جيش المختار، عصائب أهل الحق، لواء أبو الفضل العباس، حركة حزب الله العراق، حركة النجباء، كتائب سيد الشهداء، سرايا الجهاد والبناء، سرايا الخرساني، عاشوراء، وغيرها. حتى أن المسيحيين في العراق شكلوا مليشياتهم، ولأسباب كثيرة، كان أبرزها سعيهم إلى استعادة بلداتهم التي سيطر عليها تنظيم داعش، مثل وحدات حماية سهل نينوى، كتيبة شهيد المستقبل، تنظيم زوعا، كتائب الحزب الوطني الآشوري، أسود بابل، كتائب عيسى بن مريم، وغيرها.
اما في وسط العراق (ديالى، الأنبار، صلاح الدين)، فغالبا ما توصف أية مليشيا أو جماعة مسلحة فيها بالإرهاب، أو الانتماء لأيٍّ من تنظيمي القاعدة أو داعش الإرهابيين، خصوصا بعد أن تسيّد الأخير المشهد العام لهذه المحافظات، بالإضافة إلى محافظة نينوى، ما حدّ من وجود المليشيات الخاصة بهذه المناطق، أو انتشارها، إلى حد كبير جدا.
يبقى الغريب في ملف المليشيات العراقية أن الولايات المتحدة، صاحبة الخطوة الأبرز في تهيئة الأرضية المثالية لولادتها ونموها، لم تحرّك ساكنا في التصدّي لجرائم هذه المليشيات تجاه المدنيين أو المال العام في العراق، حتى مع إحالة الكونغرس مشروع إدراج أسماء ثلاث مليشيات عراقية مقرّبة من إيران، تمتلك أجنحة مسلحة لها في سورية، لدعم نظام بشار الأسد، على قائمة الإرهاب، وهي عصائب أهل الحق وحركة النجباء وحزب الله العراقي، ولعل اللافت هنا أن سبب إدراج هذه المليشيات، تحديدا دون سواها، يعود إلى دورها في سورية، وليس في العراق، حيث ساحة النشاط الرئيسي لها!
المشروع الذي تقوده الولايات المتحدة، وتنفذه إيران بمساعدة وكلائها في العراق، هو من أخطر المشاريع التي مرّت في المنطقة عموما، وفي العراق خصوصا، حيث إن "مليشة" العراق، ومنح هذه المليشيات الصفة والقدرة الرسمية على إدارة البلاد، عبر واجهات الحكم التشريعية والتنفيذية، من خلال تسيّد قائمة "الفتح" التي تمثل قاعدة مقاتلي مليشيا "الحشد الشعبي" للمشهد السياسي مشاركة مع التيار الصدري وسرايا السلام، بالإضافة إلى التطور الكبير بحصول مليشيا عصائب أهل الحق على 15 مقعدا في مجلس النواب الجديد، مع وجود
مقاعد متفرقة لمليشيات أخرى، يفتح الأبواب بشكل خطير أمام تابعية القرار العراقي لإيران، وعسكرة أي موضوع يمس العلاقة المضطردة بين العراق وإيران.
قد يكون من المناسب الآن النظر إلى الملف العراقي برؤية موضوعية، وأن توضع الأمور في سياقاتها الصحيحة، وأن تسبب الأسباب الفعلية لما جرى ويجري في العراق. وعلينا أن نقرّ بأن الولايات المتحدة ربما تكون صاحبة المشروع الأول والأخير في تدمير العراق وتهميشه إقليميا، وإنها ترخي حبالها لكل ما يتوافق مع هذا الهدف، إيران أو سواها. كما أن ظننا أن إيران هي العدو الأول للعراق ليس في محله في هذه الحقبة التاريخية، ذاك أن تغاضي أميركا عن كل ما جرى ويجري في العراق من جرائم ضد الإنسانية، وتدمير للقيم التاريخية وبناء الأجيال، ليس لإيران علاقة فيه، بل هي أحد المستفيدين منه، بترتيب مع واشنطن أو بدونه.
ظنّ كثيرون أن الولايات المتحدة ستواجه إيران، وأن الملف النووي سيكون واجهة هذه المواجهة، لكن هذا الظن خاطئ، خصوصا بعد أن سمحت واشنطن بمنح المليشيات الموالية لإيران القدرة السياسية المطلقة لحكم العراق، ومن قبله بالتمكين العسكري لها على الأرض، ولعل ليس من الصعوبة بمكان استنتاج أن من يريد أن يقزّم إيران لا يمكن له بمكان أن يمكّنها من أن تكون "إيرانيْن"، في بغداد وفي طهران
ووفق أبسط التعريفات الخاصة بمصطلح "المليشيات" وأشملها، فإنها "مجاميع مسلحة ومنظّمة ومدربة ومدعومة، وتمتلك هيكلتها الخاصة لتحقيق مصلحة حزبية معينة، وهي بذلك الذراع العسكرية لفئةٍ سياسيةٍ أو دينيةٍ، تخوض صراعا أيا كان دافعه"، وهو ما يتطابق، من جهةٍ، مع حيثيات فتوى المرجع علي السيستاني، وما يتقاطع مع ما استمر من حالة تمدّد نفوذ هذه المليشيات وتوسّعه، بعد أن تم القضاء على تنظيم داعش الإرهابي، بمشاركة القوات المسلحة العراقية، وأبناء المناطق التي تعرّضت للاحتلال الداعشي أو تهديده.
ولكن المليشيات في العراق لم تكن وليدة ردة الفعل التي حصلت عام 2014، وقد يعلم متابعون كثيرون للشأن العراقي أن سجل النشاط المليشياوي الفعلي بدأ عقب تمكّن القوات الأميركية من بسط نفوذها في العراق، وتغييب المؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية بقرار الحاكم المدني الأميركي آنذاك، بول بريمر؛ فهو بذلك القرار، ولأسباب أميركية موضوعية حتمية في حينها، فتح الأجواء لفوضى لا حدود لها فيما يتعلق بأمن المواطن وهيبة الدولة ومؤسساتها.
نعم، فمنذ عام 2005 خصوصا، كانت هناك مليشيات في جنوب العراق ووسطه، أبرزها منظمة بدر وجيش المهدي، تلقت دعما مفتوحا من الجارة إيران، وكانت عملياتهما مصدر رعب وترهيب لا يمكن نسيانهما أبدا. وفي الشمال، كانت هناك مليشيات تعمل في الضوء تابعة للحزبين الكرديين، الاتحاد والديمقراطي الكردستانيين، استباحت كل ما له علاقة بممتلكات الدولة العراقية قبل الاحتلال، وتجاوزت على الحدود الإدارية والسياسية للإقليم بشكل سافر، ثم في الوسط والشمال العربيين كانت هناك فصائل عدة مسلحة، ادعّت معظمها أنها تقاوم الاحتلال الأميركي، وتوجه بنادقها إليه وللمتعاونين معه حصرا.
كانت مليشيات كثيرة وما زالت تعمل وتتكاثر في العراق، تارة بغطاء رسمي، وأخرى بغطاء "شرعي" مثل مليشيات لواء اليوم الموعود، جيش المختار، عصائب أهل الحق، لواء أبو الفضل العباس، حركة حزب الله العراق، حركة النجباء، كتائب سيد الشهداء، سرايا الجهاد والبناء، سرايا الخرساني، عاشوراء، وغيرها. حتى أن المسيحيين في العراق شكلوا مليشياتهم، ولأسباب كثيرة، كان أبرزها سعيهم إلى استعادة بلداتهم التي سيطر عليها تنظيم داعش، مثل وحدات حماية سهل نينوى، كتيبة شهيد المستقبل، تنظيم زوعا، كتائب الحزب الوطني الآشوري، أسود بابل، كتائب عيسى بن مريم، وغيرها.
اما في وسط العراق (ديالى، الأنبار، صلاح الدين)، فغالبا ما توصف أية مليشيا أو جماعة مسلحة فيها بالإرهاب، أو الانتماء لأيٍّ من تنظيمي القاعدة أو داعش الإرهابيين، خصوصا بعد أن تسيّد الأخير المشهد العام لهذه المحافظات، بالإضافة إلى محافظة نينوى، ما حدّ من وجود المليشيات الخاصة بهذه المناطق، أو انتشارها، إلى حد كبير جدا.
يبقى الغريب في ملف المليشيات العراقية أن الولايات المتحدة، صاحبة الخطوة الأبرز في تهيئة الأرضية المثالية لولادتها ونموها، لم تحرّك ساكنا في التصدّي لجرائم هذه المليشيات تجاه المدنيين أو المال العام في العراق، حتى مع إحالة الكونغرس مشروع إدراج أسماء ثلاث مليشيات عراقية مقرّبة من إيران، تمتلك أجنحة مسلحة لها في سورية، لدعم نظام بشار الأسد، على قائمة الإرهاب، وهي عصائب أهل الحق وحركة النجباء وحزب الله العراقي، ولعل اللافت هنا أن سبب إدراج هذه المليشيات، تحديدا دون سواها، يعود إلى دورها في سورية، وليس في العراق، حيث ساحة النشاط الرئيسي لها!
المشروع الذي تقوده الولايات المتحدة، وتنفذه إيران بمساعدة وكلائها في العراق، هو من أخطر المشاريع التي مرّت في المنطقة عموما، وفي العراق خصوصا، حيث إن "مليشة" العراق، ومنح هذه المليشيات الصفة والقدرة الرسمية على إدارة البلاد، عبر واجهات الحكم التشريعية والتنفيذية، من خلال تسيّد قائمة "الفتح" التي تمثل قاعدة مقاتلي مليشيا "الحشد الشعبي" للمشهد السياسي مشاركة مع التيار الصدري وسرايا السلام، بالإضافة إلى التطور الكبير بحصول مليشيا عصائب أهل الحق على 15 مقعدا في مجلس النواب الجديد، مع وجود
قد يكون من المناسب الآن النظر إلى الملف العراقي برؤية موضوعية، وأن توضع الأمور في سياقاتها الصحيحة، وأن تسبب الأسباب الفعلية لما جرى ويجري في العراق. وعلينا أن نقرّ بأن الولايات المتحدة ربما تكون صاحبة المشروع الأول والأخير في تدمير العراق وتهميشه إقليميا، وإنها ترخي حبالها لكل ما يتوافق مع هذا الهدف، إيران أو سواها. كما أن ظننا أن إيران هي العدو الأول للعراق ليس في محله في هذه الحقبة التاريخية، ذاك أن تغاضي أميركا عن كل ما جرى ويجري في العراق من جرائم ضد الإنسانية، وتدمير للقيم التاريخية وبناء الأجيال، ليس لإيران علاقة فيه، بل هي أحد المستفيدين منه، بترتيب مع واشنطن أو بدونه.
ظنّ كثيرون أن الولايات المتحدة ستواجه إيران، وأن الملف النووي سيكون واجهة هذه المواجهة، لكن هذا الظن خاطئ، خصوصا بعد أن سمحت واشنطن بمنح المليشيات الموالية لإيران القدرة السياسية المطلقة لحكم العراق، ومن قبله بالتمكين العسكري لها على الأرض، ولعل ليس من الصعوبة بمكان استنتاج أن من يريد أن يقزّم إيران لا يمكن له بمكان أن يمكّنها من أن تكون "إيرانيْن"، في بغداد وفي طهران