مفصول من الصحيفة

06 مايو 2018
+ الخط -
كان عليهم أن يؤجلوا فصلي من الصحيفة، ريثما أنتهي من تحرير خبر ورد للتوّ عن جولة مرتقبة لوزير المياه والريّ، لمعرفة سبب تلوث المياه في إحدى الشبكات الناقلة، غير أن كتاب الفصل سبق النهاية، ليرسم نهاية أخرى لعملي الذي استمر ثماني سنوات في هذه الصحيفة اليومية التي امتصت "شبكتي" العصبية، من دون أن يحاول مسؤولٌ ما أن يتفضل عليها بـ"جولة اطمئنان" واحدة.
أليس من الإجحاف أن أغادر صحيفتي من دون أن أعرف مصير الزيارة المرتقبة لوزير المياه والري إلى "الشبكة" إياها، خصوصًا وأنني صاحب الخبر المبتور؟.. سألت هذا السؤال في نفسي، وحنقت على أصحاب الصحيفة الذين سعوا إلى تجريدي من "فضولي الصحفي"، غير أن القرار كان متخذًا، ولا حيدة عنه: "لا بد من فصلك لإنقاذ الصحيفة من ضائقتها المالية التي تمرّ بها".
لا أخفي أنني كنت أرزح تحت وطأة مسؤولية أخلاقية فادحة، عقب معرفتي سبب فصلي، وداهمني إحساسٌ بأنني أصبحت المسؤول الأول عن إنقاذ صحيفتي الحبيبة من ضائقتها المالية، وكأنني "بيضة القبان" الذي لن يستقيم توازنه إلا بمغادرتي الصحيفة، والتي لن تقوى على مواصلة الصدور إلا برحيلي الذي سيحفظ لها قشّة توازنها الأخيرة، فأصبت بداء الشهامة الذي جعلني أتخلى عن فضولي بشأن جولة وزير المياه، وأغادر الصحيفة طائعًا. غير أن الفضول عاودني عند باب الصحيفة، وتساءلت: ما ذنب وزير المياه المسكين في كل ما حدث؟.. أليس من حقه أن يقرأ خبر جولته على صفحات الصحيفة، خصوصًا وأن الخبر أهم من الجولة ذاتها في عرف مسؤولينا جميعًا؟ فهم يبدأون صباحهم الوزاري بنبش الصحف، بحثًا عن صورهم وأخبارهم، فإن لم يجدوها تقوم القيامة على رؤوس مكاتبهم الإعلامية، والتي تتصل بدورها برؤساء تحرير الصحف، حانقة متسائلة، وأحيانًا مشكّكة بنواياهم حيال "الوطن".
إذن؛ لا بد أن أعود إلى "رئيس تحريري"، وأقنعه بضرورة تأجيل فصلي، ريثما أتمّ خبر الجولة إياها، وإلا فقد اتهم بأنني "محرّر يعمل ضد مصلحة البلد، بدليل أنه يتجاهل عن قصد، تغييب نشاطات المسؤولين"، ورحت أتذكّر ما حدث مع أقران لي، تم البطش بهم، لأسباب ربما أقل من "جريمتي" هذه.
على الطرف الآخر، تساءلت، أيضًا: أليس من حق القراء أن يعرفوا مصير جولة وزير المياه المرتقبة على "الشبكة"، ومعرفة سبب التلوث، وهم الذين، بلا شك، سيجافيهم النوم، ويرتفع منسوب فضولهم إلى ما فوق الدرجة الأخيرة على مقياس ريختر، إذا لم يعرفوا السبب، على اعتبار أنهم يعيشون في أوطانٍ عربية في أوج "النقاء". صحيحٌ أن الخبر مكرور، وقد تعوّدوا عليه، يوميًّا: "وزير المياه ينفذ جولةً على الشبكة الفلانية، ويبدي توجيهاته بضرورة إعادة ترميمها وتأهيلها بالسرعة القصوى لخدمة سكان الحيّ".. صحيحٌ أن ذلك يحدث. لكن ماذا لو خرجت هذه الجولة، تحديدًا، عن سياقها الرتيب، كأن يقال مثلًا: "بأسرع وقت ممكن".. أليس من حق القراء أن يعرفوا هذا "الانقلاب" الذي أصاب خبرهم اليومي؟
فاجأتني كل هذه الأسئلة، وأنا أهمّ بمغادرة صحيفتي الحبيبة، وتذكّرت معها ليالي السهر المضنية في غرف التحرير، بانتظار مصائر زيارات مماثلة لمسؤولين آخرين (أكبر قليلًا)، تردّدت فيها العبارات والصياغات ذاتها، إلى حد كان يمكننا معه صياغة الخبر بتفاصيله كلها، قبل بدء الزيارة حتى، وقرّرت العودة إلى رئيس التحرير كي أرجوه إتمام خبري، غير أن كبريائي استبدّت بي، وقلت ربما يتمّه زميل آخر ممن لا يتسبب بقاؤهم بضائقةٍ ماليةٍ تطيح الصحيفة.
أما بالنسبة لي، وحرصًا مني على وفائي الصحفي تجاه القراء حتى الرمق الأخير، فقد قرّرت، على عاتقي، متابعة جولة وزير المياه والري إلى "الشبكة" إياها، شخصيًّا، فأكون عند الشبكة قبله، لأعرف مصير الجولة، على الهواء مباشرة هذه المرة، بعيدًا عن الأوراق والأقلام.
وفي اليوم الموعود، حضرت قبل الوزير إلى موقع تلوث المياه لأنتظر قدومه.. غير أن ما فاجأني أنني عرفت، متأخرًا، سبب تلوث المياه وربما الهواء، وربما روحي أيضًا،... فقد وجدت الشبكة مليئة بأوراق الصحف.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.