تحية لجوزيف حرب الذي فَلّ

25 مارس 2018
+ الخط -
قبل أربع سنوات وكسور، رحل الشاعر اللبناني الجنوبي الكبير، جوزيف حرب. إذا استخدمنا لغة الديوان الذي أصدره سنة 2007، وعنوانه "طالع عَ بالي فِلَّ"، يمكننا القول إنه فَلّ يوم العاشر من فبراير/شباط 2014، عن عمر يقارب سبعين سنة. الشاعر فاروق شوشة، خلال حلقة من برنامج "بيت القصيد"، وصف جوزيف حرب بأنه خلاصةُ الشعرية اللبنانية، رأسُ الحربة لجيل من الشعراء، استطاع أن يؤسس لقصيدةٍ مغايرة، ويجعل من الكون حروفاً ومفردات لعالمه الشعري.
لنذهب إلى مفردات الكون التي حوّلها جوزيف حرب إلى أشعار ناطقة بالسحر والجمال، كقوله: بليل وشتي، صوتو مسموع.. فصوت الشتي "المطر" مسموع بالنسبة لـ: اتنين عاشقين، قاعدين، دايبين، عم يحكوا سوا على ضو الشموع. هنا نتخيل أن الشاعر "سيناريست" سينمائي بارع، يصف المشهد الخارجي بلقطةٍ عامة، ثم ينتقل إلى الداخل، ويصف العاشقيْن، بلقطةٍ قريبةٍ فيقول: عينيهن ببعضُن، إيديهن بردانين، وشفافن عشاق مع بعض سهرانين.
لا شك في أن كتابةَ تاريخ اللحظة الغرامية على "خيوط الشتي" تنطوي على بلاغةٍ شعريةٍ نادرة، تتمثل في اختراق القانون الفيزيائي القائل إن حبات المطر، في أثناء هطولها الغزير، تخدعُ البصر، فتبدو لناظرها على هيئة خيوط، ثم إنها، بمجرد ما تلامس الأرض، تسيل وتذهب في المنحدرات، لتذهبَ معها تفاصيلُ القصة المكتوبة. أما تاريخ اللحظة الشعرية الذي عبّر عنه الشاعر بقوله "عَ خيوط الشتي مكتوبة سهرتُن" فيبقى منطبعاً في الذاكرة على الدوام.
في قصيدة "أسامينا"، يرسم جوزيف حرب صورةً نادرة تَجْمَعُ القصةَ مع القصيدة مع الصور الكونية، في صورة واحدة، بلغة مكثفة: تلج وورق طاير، والمسا حزين، وضباب وقناطر، نحنا بردانين، لملمنا أسامي، أسامي عشاق، من كتب منسية، وقصايد عتاق، وصرنا نجمّعْ، أسامي ونولع، تَـ صاروا رماد، وما دفينا.
تحدث فاروق شوشة في المقابلة ذاتها عن الثنائيات التي تصنع عبقرية جوزيف حرب، ومنها ثنائية الفصيح والمحكي، فقد وصل بشعره الفصيح إلى مئات ألوفٍ من القراء، ووصل بشعره المحكي، عبر صوت فيروز، إلى الملايين. وهذا صحيح، ففي أواخر السبعينبات ومطلع الثمانينيات، بعد مرض العبقري المعلم عاصي الرحباني، وخلافاته مع السيدة فيروز، ثم رحيله، استطاع جوزيف حرب وفيلمون وهبي، بموهبتيهما الاستثنائيتين، أن يجعلا المسيرة الرحبانية الفيروزية تستمر من جهة، وتأتي بلون غنائي شعري ذي نكهةٍ خاصة، ضمن سلسلة من الأغاني التي يخبئها المستمع في وجدانه، كما لو أنه يخبئ لقية ثمينة.
في أغنية "لما ع الباب" نكتشف أن رجلاً وامرأة عاشقيْن كانا يسهران في بيت أحدهما، سهرة "صَبَّاحِيّة"، وفي أثناء الوداع يكون ضوء النهار قد بدأ يطلع، والعنصر الدرامي يتجلى في أن العاشقة، كلما تودعا، تنظر إليه، ولا تستطيع كلاماً، لخوفها من أن يكون هذا هو الوداع الأخير، (بخاف تودعني وتفل وما ترجع). ولكن، ومن غرائب جوزيف حرب ولَطَائِفِهِ، أنه يُدخِل الشتاء، هنا، عنصرا دراميا طارئا، إذ تقول المغنية: بسكر بابي شوفك ماشي عـ الطريق، فكر إنزل إركض خلفك عـ الطريق، وتشتي عليي، ما تشوفك عينيي. وأنا إركض وراك مد لك إيديي، وإنده لك انطرني حبيبي وما تسمع.
في أغنية "إسوارة العروس"، كما في قصائد جوزيف حرب كلها، تشتبك الصور الشعرية، وتترى، ابتداءً بتراب الجنوب المشغول بـ قلوب، واليد التي صارت غيمةً، وصولاً إلى الصورة التي لم أعثر عند غيره من الشعراء على مثيل لها وهي: "وبييبس الموج".. وهذا ينقلنا إلى فكرة تصلح خاتمةً لهذه الوقفة، مفادها بأن جوزيف حرب مولع بالشتاء، ومولع بالغيم أيضاً، ففي أغنية "رح نبقى سوى" التي لحنها زياد الرحباني يقول: ليوم اللي بيعتق يا وطني الغيم رح نبقى سوى. وفي أغنية "طلعلي البكي" يقول: الكذب، الغيم المارق والمنفى سَمِّيك.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...