عن الروائي الذي قتلته فلسطين

27 فبراير 2018

يوسف السباعي عرف بمناصرته قضايا الحرية في العالم

+ الخط -
سألت يوسف السباعي، وأنا أحاوره على التلفزيون، عما تعنيه روايته "طريق العودة" بالنسبة له، أجاب: "أردت من روايتي هذه أن أضع القضية الفلسطينية في مكانها الطبيعي في الذاكرة المصرية"، (طريق العودة) تحكي قصة فتاة فلسطينية وجدها ضابط مصري في صحراء النقب، فنقلها إلى بيته في سيناء، لتعيش تحت رعاية أسرته، لكنها ظلت تحلم بالعودة إلى بيتها الأول.
بعد أربع سنوات، طار يوسف السباعي إلى القدس بصحبة الرئيس أنور السادات، في سقطة كلفته حياته، وظلت حادثة اغتياله ماثلة في الذاكرة المصرية، والفلسطينية أيضا، بعدما كانت أثارت شجنا كثيرا، وجدالا كثيرا حولها. دان اتحاد كتاب فلسطين واقعة الاغتيال، وقال المؤرخ الفلسطيني عبد القادر ياسين: "ما كان لفلسطينيين أن يقتلوا هذا الرجل". وطرح الصحافي المصري، لويس جريس، احتمال أن يكون الأميركيون دبروا اغتيال السباعي، لإحداث ثغرة بين الفلسطينيين، في حين وصفه اليساري، صلاح عيسى، بأنه "رجل بريء اغتيل من دونما ذنب". ونأت منظمات فلسطينية بنفسها عن مسؤولية الاغتيال، في حين ألقت بالتهمة على تنظيم أبو نضال المتطرّف. وهكذا شكل اغتيال السباعي، برصاصات فلسطينية، نوعا من المفارقة، لم تحجب عن الآخرين رؤيته في "أن دماء العربي لا تراق سدى، وأن الحق لا يضيع، وأن الأوطان لا تسرق، وأن يوما ما، مهما طال الزمن، ستعود الأرض المسلوبة إلى أهلها، ويسود طريق العودة سلام وأمن ومحبة"، وإن "القدس عزيزة على المصري معزة القاهرة لدى الفلسطيني، ولدى كل عربي".
كان السباعي قد استبق رحيله بنبوءة سوداء، ثبتها في رواية له: "ماذا سيكون تأثير الموت علي وعلى الآخرين؟ لا شيء، ستنشر الصحافة نبأ موتي كخبر مثير ليس لأني مت، بل لأن موتي سيقترن بحادثة مثيرة"، وهكذا كانت واقعة اغتياله مصداقا حرفيا لنبوءته.
وشكلت رحلة السادات التي كانت وراء اغتيال السباعي واقعة مثيرة لم يكن أحد يتوقعها. وبحسب بطرس غالي، في شهادته لفضائية الجزيرة، فإنه حتى رجال الدائرة الصغيرة المحيطة بالسادات لم يكونوا ليعرفوا بنيته، إلا بعد أن اقتربت من أن تكون أمرا واقعا، باستثناء وزيري الخارجية والدفاع.
هنا يمكن أن يرصد المراقب أن الأمر جاء مفاجئا لأعضاء الوفد الآخرين، ومنهم السباعي. وبالتالي، لا يمكن أن يبلغ من القيادة السياسية بهدف رحلة خطيرة كهذه. وفي أحسن الفرضيات، يمكن أن يكون قد عرف بجهة الرحلة وهو في المطار، أو حتى وهو على متن الطائرة التي أقلتهم، ولطبيعة المفاجأة لم يستطع أن يتخذ القرار الصائب في حينه، بل إنه لم يكن في واقع اتخاذ أي قرار وهو في حال "رئيس تحرير جريدة" في مواجهة تكليف رسمي من رئيس الجمهورية، وهو حال أي صحافي يكلف بواجب مرافقة المسؤول الأول في الدولة.
قد لا يبدو هذا التبرير مقنعا على خلفية الاحتجاج بأنه كان في إمكان السباعي، وهو ليس صحافيا فقط، إنما كان شخصية ثقافية وناشطا وطنيا معروفا، أن يطرح علنا ملابسات الرحلة بعد عودته ويستقيل، (في حينه استقال وزيران للخارجية بسبب الزيارة، ولاحقا استقال ثالث بسبب اتفاقية كامب ديفيد)، ربما لم يكن يمتلك الشجاعة للتمرد، وقد اعتاد بحكم تربيته العسكرية على الطاعة العمياء لرؤسائه!
بعد أربعين عاما يصعب محاكمة هذه الوقائع، أو حتى مقاربتها عن بعد، لكن السؤال المطروح: هل تعتبر وقائع كهذه كافية من وجهتي النظر القانونية والإنسانية، لإنهاء حياة كاتب مثل يوسف السباعي الذي عرف بمناصرته للقضية الفلسطينية ولقضايا الحرية في العالم، ليس في كتاباته فحسب، إنما في مداخلاته ومشاركاته في أكثر من محفل دولي، بل هل يصح أن يقتل أمرؤ ما بدم بارد من دون أن تستكشف مجريات الأحداث التي أوصلته إلى ارتكاب خطيئة لم يتقصدها؟ ثم من يملك اتخاذ القرار الفصل غير القضاء، واستنادا إلى نص قانوني واضح؟
تظل هذه الأسئلة تطرق البال بعد أربعين عاما على واقعة الاغتيال، كما تظل ذاكرتنا بعد الأعوام الأربعين تحمل بقايا شجن من رومانسيات يوسف السباعي: "الأطلال" و"إني راحلة" و"فديتك يا ليلى" و"نحن لا نزرع الشوك" و"رد قلبي" وسواها، وقد تعلمنا منها كيف نخاطب حبيباتنا، وكيف نتعامل معهن، وقاتل الله السياسة التي قتلت عديدين ممن نعرف ونحب.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"