الأردن.. الخبز في خدمة الحرية

15 فبراير 2018
+ الخط -
أدرج مجلس النواب الأردني مقترح مذكرة حجب الثقة عن حكومة هاني الملقي، على جلسة المقبلة ليوم الأحد المقبل، في محاولة من بعض النواب لمجاراة الشارع الذي بات يهتف بسقوط المجلس والحكومة معاً، بعد ارتفاع الاحتجاجات وتواليها في مناطق مختلفة، وفي قطاعات اقتصادية وعمالية. وقد أظهرت الحكومة سلبيةً في التعامل مع المحتجين، من حيث الرسائل التي أرسلتها، وآلية التحاور معها. فبعد ليالٍ عدة من خروج الحراك في محافظة الكرك (جنوب)، اختارت الحكومة الأردنية أن يُمثلها قائد عام قوات الدرك، ليلتقي وجهاء مدينة الكرك، ويستمع منهم لمطالب المدينة، والذي تعهّد، حسب أخبار صحافية، بأنه سيوصل المطالب إلى الملك عبدالله الثاني.
وكان الحراك قد خرج في الكرك والسلط ومدن أخرى، جرّاء قرارات حكومة هاني الملقي رفع الأسعار، لتجنب عجز الموازنة، وهي قرارات تُغلّف بالكلام الحكومي الذي لا يمر على وعي الناس، بأن الأردن عوقب بوقف المعونات العربية جرّاء قضية القدس. وهنا أرادت الحكومة أن ترفع قميص القدس، لتبرير قراراتها وسياساتها الناتجة عن فشل النهج الاقتصادي للدولة، وليس وقف دعم الأشقاء، والذي على أهميته، إلا أن تذبذبه وانقطاعه لا ينفع لتغطية قراراتها بالكلام عن حجب الدعم.
يدرك الشارع الأردني أن الحكومة السابقة، برئاسة عبدالله النسور، التي استمرت نحو أربع 
سنوات، قد أورثت البلد ديناً عاماً ثقيلاً، وعجزاً أكثر وطأةً، وإنفاقاً غير دستوري من الموازنة تجاوز المليار ونصف مليار دينار، وهذا كله في ظل ارتفاع عجز البرلمان عن ردع الحكومات. فالبرلمان الأردني بات فاقداً للثقة أمام الشارع، وهو الذي أقرَّ الموازنة في ست ساعات، وعاد إلى الصحوة، بعدها على سلسلة قرارات حكومية، منها رفع أسعار الوقود والكهرباء، هذا إلى جانب ضرائب جديدة على الكتب وسوق السيارات وهي نادرة، فالقيمة عليها بحسب وزن السيارة، وتتراوح بين 500 - 1500 دينار.
الأردن اليوم ذو خبرة في عبور الأزمات، لكنه أيضاً ذو فرادة بالرسوم والضرائب، بلد له هندسته الخاصة مالياً، وما يزيد تعقيدات مشهده المحلي أن الرؤى نفسها توجّه المشهد الاقتصادي، ولا تبدع حلولاً، والحراك الذي أطفأ سنوات الربيع الأردني، بتحقيق جملة إنجازات فيما يخص بعض القوانين الإصلاحية، ومحاكمة فاسدين، يجد حاله اليوم، موحّداً ضد سياسات الحكومة ونهج الإفقار الذي كان عنوانه رفع أسعار الخبز إلى مستوىً غير مسبوق.
لكن السؤال كيف تفكر الحكومة بقوة الحراك. لقد أعادت الحكومة قبضتها الأمنية، وعينت أخيرا محافظين بخلفيات أمنية وعسكرية، وأرسلت عدة إشارات إلى الشارع إنه لا تهاون ولا حياد عن سياساتها الصعبة. وفي المقابل، تتسع رقعة الحراك، وسقف شعاراته التي أدّت إلى اعتقال جملة من ناشطي محافظة الكرك، ومن ثم الإفراج عنهم، ثم العودة إلى اعتقال دفعة جديدة. وفي هذا السياق، صدرت بيانات عشائرية وشبابية عديدة في الكرك وعمّان تؤيد الحراك، وترفض الانجرار إلى العنف.
في النظر إلى قوة حراك الكرك، نجد أنه موزعٌ بين المدينة ومنطقة المزار، وهي المنطقة التي ينتسب إليها رئيس مجلس النواب، عاطف الطراونة، والذي ترتفع الأصوات ضده وضد بقية نواب المجلس، وطبقة السياسيين الموالين والمؤيدين لنهج الحكومة التي لم تختبر بعد في مواجهة أي أزمة، ونجحت في إدارتها، وبات لديها سجل في الإخفاق منذ أحداث قلعة الكرك في 2016 وما قبلها وبعدها.
وفي الكرك بنية الحراك خالية من مشاركة الإخوان المسلمين، ولدى الشباب المشارك فيه، وهم في غالبهم من عامة الشعب ومتعلمون عاطلون وحزبيون من اليسار، إحساس بأن البلاد بحاجة لحكومة قوية تواجه الفساد، ولا تشتري ثقة النواب، ولا تمنح العطاءات في مقابل الثقة. ويتعاظم هذا الشعور النامي في كراهية مجلس النواب لصالح العودة إلى خيار الشارع هو الميدان، ومواجهة قرارات الحكومة عبر التجهمر من جديد.
وفي السلط، والتي شهدت أيضاً مسيراتٍ ووقفات احتجاجية ليليّة في ساحة العين، فإن الحراك غير بعيد عن قيادات مجتمعه ورموز المدينة التقليديين، وشعارات شباب الحراك القريب من جماعة "الدعسة الفجائية" تتمحور حول إسقاط نهج الجباية، وليس أشخاصا بعينهم، وهم يرون وجوب تغيير سياسات الدولة، لتجنب جيب المواطن. وعبر صفحتها الرسمية على "فيسبوك" تبث "الدعسة الفجائية" الفيديوهات، وتنشر التعليقات الداعمة للحراك. واعتبرت "الدعسة" التي هي أشبه بتنظيم عصبوي اجتماعي شبابي سلطي يقوده الوجيه الشاب البارز اجتماعياً رويزق عربيات، ويقوم تنظيمه على مبادرات خيرية وإنسانية ووطنية ومناطقية داخل السلط، أن ما يحدث في الأردن أشبه بمونديال للعام 2018 بين الحكومة والشعب. وجاء في منشور على الصفحة الرسمية لـ "الدعسة الفجائية": ".. ما حدث في الأردن، خلال الأسابيع الماضيه كأننا في مبارة كرة قدم بين الحكومه والشعب. الحكومه تسدد الأهداف، وتزيد غلة الأسعار، والشعب يلعب دور الدفاع، إما سطو مسلح أو انتحار أو مسيرات أو حرق للمركبات ..قارب الحكم على إطلاق صافرة النهاية في هذه المباراة المشتعلة بين الشعب والحكومة، لتسفر عن تأهل حكومة الملقي للدور النهائي، وبتشجيع كبير من النواب.. هذا وقد صرف الاتحاد الدولي لهذا الشعب، إثر الخساره الكبيرة والإصابات البالغة، دعما معنويا بـ 27 دينارا ليتجهز الشعب لبطولة فيها الأسعار نار ..".
مثل هذا التندر والسخرية الاجتماعية الذي صاحب قرارات حكومة هاني الملقي لم يُصب قرارات حكومة عبدالله النسور ابن السلط. وهنا تقفز قراءة رغائبية ترى أن القادم بعد الملقي ربما يكون من الكرك أو السلط، لوقف تدحرج قوة الحراك في المدينتين، والتي تنمو مع الأيام، في حين يرى كثيرون أن الخبرة في عهد الملك عبدالله الثاني تقول إن رئيس الحكومة دائماً يأتي من خارج ما يتوقعه الناس.
لكن هل من تعديل أو تغيير حكومي؟ قد يحدث ذلك، بيد أن مقولة "رفض الاستجابة لما يطلبه الشارع" هي السائدة بالمحيطين بالملك. كذلك فإن بعض رؤوس تيار الطاعة يتخوّفون، من انتصار الشارع مرة أخرى، وعودة طرح محاكمة الفاسدين والمقاولين السياسيين الذي أعجزوا البلاد بأخطائهم، وقد تتراجع رغبة الملك أن يُتِمّ رئيس الحكومة أربع سنوات، قد تنتهي في ضوء ظروف الرئيس هاني الملقي الصحية، وهي مرتهنة بقدرته على التحمل والمواجهة. وبالتالي، ربما يُستجاب له باجراء تعديل حكومي، يدخل فيه شخصيات قادرة على مخاطبة المحتجين وتنتمي إليهم.
في موازاة حراك الجمعة الماضي، صدرت بيانات عديدة تندد بسياسة الحكومة، وتقليص
 الإنفاق بمقدار 55 مليون دينار من موازنة وزارة الصحة، ووقف الإعفاءات الطبية في القطاع الصحي. وجاء بيان حملة "الخبز والديمقراطية" ليؤكد على أهمية دعم القطاع الصحي العام الذي بات يعيش جملةً من التحديات والصعوبات، والتي زادت وتفاقمت على مدى عقد.
ترى الحملة هذا التراجع سبباً قد يؤدي إلى انهيار واقع الخدمات الصحية العلاجية، إذا لم تُعدّ خطة إنقاذ تُصحح جملةً من المشكلات الحيوية. والتي عنوانها ارتفاع أسعار الدواء وتراجع الخدمات الصحية في الأطراف، وعدم تعويض نقص الكوادر الصحية، والذي لم يتواز مع الزيادة السكانية خلال السنوات الخمس الأخيرة، وبنسبة 30% بفعل عامل اللجوء السوري.
هذا الواقع الأردني المعقد راهناً، يملأ فيه الحراك الشارع بأصواته، مردّداً بالتنديد بخيبات الساسة والاقتصاديين، والحكومات، وتراجع الحريات والإصلاح، ونمو طبقة الأثرياء وزيادة شريحة الفقر والبطالة، وتراجع خدمات الصحة، وارتفاع سعر الرغيف. وقد يعجل هذا كله بانفجارٍ اجتماعي بوجه حكومة الملقي التي ألقت بضعفها أعباءً كبيرة على المؤسسات الأمنية التي تواجه تحدّي الإرهاب، وباتت مشغولةً بفكفكة أزمات الحكومة، وعنوان ذلك ذهاب مدير الدرك، وليس نائب رئيس الحكومة أو وزير الداخلية، إلى الكرك، وإذا ما لاحظ الملاحظ أن شعارات الحراك عادة لتوجه نحو القصر والحكم، فإن الجميع خاسر مع حكومة الملقي، الملك والمؤسسات الأمنية والمجتمع الذي زاد فيه الفقر والسلب والجوع.
يحدث هذا كله مع قدرة أمنية قوية للأردن يشهدُ بها الغرب والشرق، وتستحق التفرغ لإدارة (ومواجهة) التحديات الخارجية التي تستهدفه، وفي مقدمها خطر الإرهاب. وهنا يصبح الحديث عن سيناريو رحيل الحكومة والبرلمان حدثاً اقترب أوانه، وبات واجباً لحماية الوطن، واستعادة الثقة التي زادت فجوتها.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.