13 نوفمبر 2024
العلاقات الجزائرية المغربية.. رؤية هادئة للمستقبل
جاء في خطاب العاهل المغربي، محمد السّادس، أخيرا، دعوة لمراجعة شاملة للعلاقات مع الجار الشرقي، الجزائر، وهي الدّعوة التي كان يمكنها أن تعيد اللُّحمة إلى العلاقات بين البلدين التي تُوصف بالمتشنّجة، عقب إغلاق الحدود وفرض التأشيرة على الجزائريين إثر حادثة أمنية شهدتها مدينة مراكش سنة 1994، ليتوقف معها مسار علاقاتٍ لم تكن جيدة، في الأساس، على خلفية قضية الصحراء التي يقول المغرب إنها امتداد لترابه الوطني، في حين أن الجزائر تعتمد على القانون الدولي، لتتحدث حول مسألة تصفية الاستعمار من خلال استفتاء لسّكان الإقليم.
تشير المقدمة إلى كم الإشكاليات التي تعترض مسار العلاقات بين بلديْن، كان يمكن أن يشكّلا القاطرة لبناء مؤسّساتي مغاربي بمشروع تكاملي، يصل بالدولتين مجتمعتيْن إلى مصاف القوى الإقليمية، ويجرّان معهما دولا ثلاث، ليبيا وتونس وموريتانيا، لكنهما فضلا التنافس عوض التكامل، على الرغم من تشاركهما في تاريخ أخوي، تُوّج بوقوف المغرب قلبا وقالبا مع الجزائر في حربها التحريرية الكبرى (1954 - 1962)، من آثاره نفي الملك الراحل محمد الخامس، إضافة إلى استضافة المغرب في تلك الفترة آلاف الجزائريين، وتشكيلها قاعدة خلفية لتدعيم الثورة الجزائرية وإمدادها بالمال والسلاح.
لم يشفع هذا كله للبلدين لينطلقا في علاقات متأرجحة بين السيئ (حرب الرمال في 1963) والجيد بعدها إلى غاية عام 1975، عندما خرج الاستعمار الإسباني من "الصحراء"، وقيام المغرب بالمسيرة الخضراء، لملء الفراغ، وتبنّي مشروع استكمال الوحدة الترابية، وهو ما رفضته الجزائر باعتبارها دولةً عرفت الاستعمار الاستيطاني، وكانت "مكة الثوار" و"الحركات التحريرية" في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، لتكون القطيعة أعواما كثيرة، تخلّلتها سياسات المحاور، تغذية للتنافس المحموم بين البلدين (مشاريع وحدة جزائرية - تونسية، من ناحية، ومغربية - ليبية، من ناحية أخرى)، لينتهي المطاف، في نهاية عقد الثمانينيات، بمشروع اتّحادي مغاربي، ضم البلدان المغاربية الخمسة، ما لبث أن فشل، أيضا.
بقيت إشكالية الصحراء عائقا فجّر المشروع التكاملي من أساسه، وخصوصا في أعقاب القطيعة الكبرى في 1994، معلنة الموت السّريري للمؤسّسة المغاربية، وتعويضها بمبادرات تشترك فيها الدولتان، ولكن بقيادة أوروبية (مشروع الشراكة لبرشلونة 1993، منتدى 5 + 5، الاتحاد من أجل المتوسط، سياسة الجوار الأوروبية) أو أطلسية - أميركية (الحوار الأطلسي المتوسطي)، وهو ما شكّل انتحارا حقيقيا لمشروع تكاملي، كان سيذهب بالبلدين إلى التنمية الاقتصادية الحقيقية. ولكن، وبمحاولة انتحار أخرى أكبر، وأعمق أثرا على المنطقة بأكملها، تم جرّ البلدين، رفقة تونس، إلى اتفاقات شراكةٍ قضت (وقعت في أعوام 1993، 1995 و2002، على التوالي مع تونس، المغرب، ثم الجزائر) على الآمال المتبقية لاستفاقة من البلدين، دفاعا عن مصالحهما، بل وجودهما في منطقة استراتيجية: غرب المتوسط/ جنوب الضفة المتوسطية.
يشير الفشل على مستوى العلاقات بين البلدين، والانعكاسات التي تجرّها عليهما "مغامراتهما" في بناء شراكات وهمية، من دون مصالح تُذكر بالنسبة لهما، إلى فشلهما في إدراك قدرات كلّ منهما، والتي في وسعها الرفع من شأنهما، ليصبحا فاعليْن دولييْن، وليس موضوعا لمبادراتٍ تُهندَس لهما من الخارج. يُضاف إلى الفشل المذكور تشابه البلدين في الفشل الداخلي، بحيث إن السياسة العامة الاقتصادية والسياسية لم تصل بالبلدين إلى الاعتماد التام على قدراتهما، بل دفعهما، تباعا، إلى الاعتماد على تلك الشراكات الوهمية، وخصوصا الاقتصادية منها، ليبقيا، معا، مترنحين وضعيفين، وممعنين في الفشل، على الرّغم من بروز مؤشرات حتمية الاعتماد على بعضهما بعضا، للخروج من دائرة ذلك الفشل الداخلي والخارجي.
شكّل هذا الفشل خلفية العرض المغربي، الأسبوع الماضي، حيث إنه اجترّ الخطاب والسياق المتعارضين والمتناقضين نفسيهما، حيث إن عرض المفاوضات غير المشروطة جاء في سياق ذكرى المسيرة الخضراء التي أدّت إلى كل ذلك الفشل في العلاقات بين البلدين. كان يمكن للعرض أن يكون ذا قيمة للبلدين، بل في صالحهما، حتما، لولا أنه جاء في تلك الذكرى، وكأن العاهل المغربي أعطى باليد اليمنى شيئا ما لبث أن منعه باليد اليسرى، لأن الشرط المغربي هو تجاوز قضية الصحراء التي ستكون موضوع لقاءٍ تحت الغطاء الأممي، في غضون الأيام المقبلة في جنيف.
ومع ذلك، ومحاولة لإخراج العرض المغربي عن ذلك السياق، يمكن القبول به ليشكّل قاعدة الانطلاق، لتعويض ما ضاع من فرص أمام البلدين لبناء تكاملٍ، وتشكيل قاطرة لاتحاد مغاربي كبير. وحتى يكون العرض بدون شروط مسبقة، ننطلق موضوعيا للحديث عن كل الإشكالات، مع وضع عقبة الصحراء جانبا فترة من الوقت، باعتبارها خاضعة لمفاوضات بين طرفين، هما ممثل "شعب الإقليم" والدولة المغربية.
لقد أضاع قطار الفرص على البلدين سنواتٍ من التنمية الاقتصادية، بل أضاع عنهما التقدّم وهذه التنمية، وهي الفرص التي جعلت منهما، كليهما، لاعبيْن بعيديْن عن رهانات قضايا المنطقة، على غرار الأزمة الليبية، كما دفعتهما إلى التنافس على مشاريع أنابيب نقل الغاز والنفط، بل دفعتهما، أيضا، إلى مشاريع ظاهرُها الشراكة الاقتصادية، وباطنها تعميق الانخراط في التنافس (مشروع انضمام المغرب للاتحاد التكاملي لغرب أفريقيا).
هذا هو مضمون العرض المغربي، بخلفية الفشل الذي تتخبط فيه الدولتان، وهو العرض الذي تكتنفه رهانات وجودية، ستدفعهما، حتما، بالخروج من السياق المشار إليه، إلى العودة، في المستقبل المنظور إليه، ذلك أن المشكلات هي نفسها في البلدين، والحلول لا يمكن أن تأتي إلّا بالتفكير الاستراتيجي التّعاضدي، مع إدراك البلدين تحدّي لعب دور القاطرة للمنطقة التي تصبح، يوما بعد يوم، ذات حيوية أكيدة للغرب، والقوى الكبرى جميعها.
يمكن الحديث، في الختام، عن دراسة للبنك الدولي، صدرت في 2006 بعنوان "كلفة عدم تجسيد إنجاز الاتحاد المغاربي"، أشارت إلى إضاعة البلدان المغاربية نسبة نمو سنوية تقدر بــ1%، أو ما يعني، لدول تحتاج آلاف فرص العمل، عشرات الآلاف من تلك الفرص، لفئةٍ هي الغالبة في المغرب العربي: فئة الشباب.
لنقل، في النهاية، العرض المغربي، موضوعيا، جيد، لكنه في سياق وخلفية مشروطيات لا يتأتّى من ورائها التّجسيد الفعلي للمضي إلى التكامل بين البلدين، مع الأمل بأن الأمر لا يشكّل إلا فرصةً ستأتي قريبا في سياق موضوعي، برهانا وتحدّيا يجمع البلدين لحلّ تلك الإشكالات، وصنع النجاح بالقضاء على الفشل. وإنّ غدا لناظره لقريب.
تشير المقدمة إلى كم الإشكاليات التي تعترض مسار العلاقات بين بلديْن، كان يمكن أن يشكّلا القاطرة لبناء مؤسّساتي مغاربي بمشروع تكاملي، يصل بالدولتين مجتمعتيْن إلى مصاف القوى الإقليمية، ويجرّان معهما دولا ثلاث، ليبيا وتونس وموريتانيا، لكنهما فضلا التنافس عوض التكامل، على الرغم من تشاركهما في تاريخ أخوي، تُوّج بوقوف المغرب قلبا وقالبا مع الجزائر في حربها التحريرية الكبرى (1954 - 1962)، من آثاره نفي الملك الراحل محمد الخامس، إضافة إلى استضافة المغرب في تلك الفترة آلاف الجزائريين، وتشكيلها قاعدة خلفية لتدعيم الثورة الجزائرية وإمدادها بالمال والسلاح.
لم يشفع هذا كله للبلدين لينطلقا في علاقات متأرجحة بين السيئ (حرب الرمال في 1963) والجيد بعدها إلى غاية عام 1975، عندما خرج الاستعمار الإسباني من "الصحراء"، وقيام المغرب بالمسيرة الخضراء، لملء الفراغ، وتبنّي مشروع استكمال الوحدة الترابية، وهو ما رفضته الجزائر باعتبارها دولةً عرفت الاستعمار الاستيطاني، وكانت "مكة الثوار" و"الحركات التحريرية" في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، لتكون القطيعة أعواما كثيرة، تخلّلتها سياسات المحاور، تغذية للتنافس المحموم بين البلدين (مشاريع وحدة جزائرية - تونسية، من ناحية، ومغربية - ليبية، من ناحية أخرى)، لينتهي المطاف، في نهاية عقد الثمانينيات، بمشروع اتّحادي مغاربي، ضم البلدان المغاربية الخمسة، ما لبث أن فشل، أيضا.
بقيت إشكالية الصحراء عائقا فجّر المشروع التكاملي من أساسه، وخصوصا في أعقاب القطيعة الكبرى في 1994، معلنة الموت السّريري للمؤسّسة المغاربية، وتعويضها بمبادرات تشترك فيها الدولتان، ولكن بقيادة أوروبية (مشروع الشراكة لبرشلونة 1993، منتدى 5 + 5، الاتحاد من أجل المتوسط، سياسة الجوار الأوروبية) أو أطلسية - أميركية (الحوار الأطلسي المتوسطي)، وهو ما شكّل انتحارا حقيقيا لمشروع تكاملي، كان سيذهب بالبلدين إلى التنمية الاقتصادية الحقيقية. ولكن، وبمحاولة انتحار أخرى أكبر، وأعمق أثرا على المنطقة بأكملها، تم جرّ البلدين، رفقة تونس، إلى اتفاقات شراكةٍ قضت (وقعت في أعوام 1993، 1995 و2002، على التوالي مع تونس، المغرب، ثم الجزائر) على الآمال المتبقية لاستفاقة من البلدين، دفاعا عن مصالحهما، بل وجودهما في منطقة استراتيجية: غرب المتوسط/ جنوب الضفة المتوسطية.
يشير الفشل على مستوى العلاقات بين البلدين، والانعكاسات التي تجرّها عليهما "مغامراتهما" في بناء شراكات وهمية، من دون مصالح تُذكر بالنسبة لهما، إلى فشلهما في إدراك قدرات كلّ منهما، والتي في وسعها الرفع من شأنهما، ليصبحا فاعليْن دولييْن، وليس موضوعا لمبادراتٍ تُهندَس لهما من الخارج. يُضاف إلى الفشل المذكور تشابه البلدين في الفشل الداخلي، بحيث إن السياسة العامة الاقتصادية والسياسية لم تصل بالبلدين إلى الاعتماد التام على قدراتهما، بل دفعهما، تباعا، إلى الاعتماد على تلك الشراكات الوهمية، وخصوصا الاقتصادية منها، ليبقيا، معا، مترنحين وضعيفين، وممعنين في الفشل، على الرّغم من بروز مؤشرات حتمية الاعتماد على بعضهما بعضا، للخروج من دائرة ذلك الفشل الداخلي والخارجي.
شكّل هذا الفشل خلفية العرض المغربي، الأسبوع الماضي، حيث إنه اجترّ الخطاب والسياق المتعارضين والمتناقضين نفسيهما، حيث إن عرض المفاوضات غير المشروطة جاء في سياق ذكرى المسيرة الخضراء التي أدّت إلى كل ذلك الفشل في العلاقات بين البلدين. كان يمكن للعرض أن يكون ذا قيمة للبلدين، بل في صالحهما، حتما، لولا أنه جاء في تلك الذكرى، وكأن العاهل المغربي أعطى باليد اليمنى شيئا ما لبث أن منعه باليد اليسرى، لأن الشرط المغربي هو تجاوز قضية الصحراء التي ستكون موضوع لقاءٍ تحت الغطاء الأممي، في غضون الأيام المقبلة في جنيف.
ومع ذلك، ومحاولة لإخراج العرض المغربي عن ذلك السياق، يمكن القبول به ليشكّل قاعدة الانطلاق، لتعويض ما ضاع من فرص أمام البلدين لبناء تكاملٍ، وتشكيل قاطرة لاتحاد مغاربي كبير. وحتى يكون العرض بدون شروط مسبقة، ننطلق موضوعيا للحديث عن كل الإشكالات، مع وضع عقبة الصحراء جانبا فترة من الوقت، باعتبارها خاضعة لمفاوضات بين طرفين، هما ممثل "شعب الإقليم" والدولة المغربية.
لقد أضاع قطار الفرص على البلدين سنواتٍ من التنمية الاقتصادية، بل أضاع عنهما التقدّم وهذه التنمية، وهي الفرص التي جعلت منهما، كليهما، لاعبيْن بعيديْن عن رهانات قضايا المنطقة، على غرار الأزمة الليبية، كما دفعتهما إلى التنافس على مشاريع أنابيب نقل الغاز والنفط، بل دفعتهما، أيضا، إلى مشاريع ظاهرُها الشراكة الاقتصادية، وباطنها تعميق الانخراط في التنافس (مشروع انضمام المغرب للاتحاد التكاملي لغرب أفريقيا).
هذا هو مضمون العرض المغربي، بخلفية الفشل الذي تتخبط فيه الدولتان، وهو العرض الذي تكتنفه رهانات وجودية، ستدفعهما، حتما، بالخروج من السياق المشار إليه، إلى العودة، في المستقبل المنظور إليه، ذلك أن المشكلات هي نفسها في البلدين، والحلول لا يمكن أن تأتي إلّا بالتفكير الاستراتيجي التّعاضدي، مع إدراك البلدين تحدّي لعب دور القاطرة للمنطقة التي تصبح، يوما بعد يوم، ذات حيوية أكيدة للغرب، والقوى الكبرى جميعها.
يمكن الحديث، في الختام، عن دراسة للبنك الدولي، صدرت في 2006 بعنوان "كلفة عدم تجسيد إنجاز الاتحاد المغاربي"، أشارت إلى إضاعة البلدان المغاربية نسبة نمو سنوية تقدر بــ1%، أو ما يعني، لدول تحتاج آلاف فرص العمل، عشرات الآلاف من تلك الفرص، لفئةٍ هي الغالبة في المغرب العربي: فئة الشباب.
لنقل، في النهاية، العرض المغربي، موضوعيا، جيد، لكنه في سياق وخلفية مشروطيات لا يتأتّى من ورائها التّجسيد الفعلي للمضي إلى التكامل بين البلدين، مع الأمل بأن الأمر لا يشكّل إلا فرصةً ستأتي قريبا في سياق موضوعي، برهانا وتحدّيا يجمع البلدين لحلّ تلك الإشكالات، وصنع النجاح بالقضاء على الفشل. وإنّ غدا لناظره لقريب.