حكومة الشاهد الثانية.. الحال والمأمول

22 سبتمبر 2017
+ الخط -
بعد شدّ وجذب وطول انتظار، حسم رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد أمره، وأقدم على إجراء تحوير (تعديل) وزاري واسع في تشكيلة حكومة الوحدة الوطنية التي رأت النور سنة 2016، فلم يكتف الرجل بسدّ الشغورات الحاصلة في بعض الوزارات، بل تجاوز ذلك إلى إحداث تغييرات عميقة شملت 13 حقيبة وزارية، وسبعة من كُتّاب الدولة (وكلاء الوزارة). وأعلن التعديل الجديد ظهور الحكومة التاسعة في تونس بعد الثورة. ومع أهمّية التعاقب الحكومي، باعتباره علامة دالّة على التداول السلمي على السلطة، وعلى التعدّدية السياسية وعدم احتكار طرف حزبي الحكم، فإنّ كثرة الحكومات وارتباك أدائها دالّ على حالةٍ من عدم الاستقرار السياسي، ومُخبر بعجز الطبقة السياسية عن بلورة برامج إستراتيجية واقعية وناجعة، تمكّن البلاد من تجاوز أزمتها الاقتصادية، وتحقيق التنمية الشاملة المنشودة.
والواقع أنّ معظم التونسيين، مع ارتياحهم للمناخ الديمقراطي المشهود في البلاد، سئموا الحكومات الكثيرة التي لا تقدّم غير حلول قليلة لمشكلاتهم، ولا تؤدّي إلى تغيير أحوالهم وتحسين أوضاعهم المعيشية. بل تؤدّي، في الغالب، إلى تكثيرعدد الوزراء المتقاعدين، على نحو يرهق كاهل ميزانية الدولة. والحكومة الجديدة هي"فرصة الأمل الأخير" للتونسيين بحسب رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي. ومن خلال النظر في تشكيلتها، يمكن الوقوف عند جملة ملاحظات دّالة متعلّقة بتركيبتها، وخلفيات تشكيلها وتداعياتها على المشهد الحزبي.
تكوّنت الحكومة الجديدة من 43 عضواً (28 وزيراً و15 كاتب دولة). منهم المستقلون 
ومنهم المتحزّبون من ثمانية أحزاب تتفاوت شعبيتها في الشارع التونسي وتمثيليتها داخل مجلس نواب الشعب، أبرزها نداء تونس، وحركة النهضة، وآفاق تونس. وحاز النداء على سبع حقائب منها الخارجية، المالية، النقل، التربية، وخمسة في كتّاب الدولة. وأسندت إلى"النهضة" أربع وزارات (التنمية والاستثمار والتعاون الدولي، الصناعة، تكنولوجيات الاتصال، الإصلاحات الكبرى) وثلاثة كُتّاب دولة (التكوين المهني والمبادرة الخاصة، البحث العلمي، الاقتصاد الرقمي)، وكان حضور" آفاق تونس" ممثلاً بوزيرين وكاتبي دولة. وتم تعزيز الفريق الحكومي بممثّلتين لحزب مشروع تونس (كاتبة دولة لوزارة الصحة وأخرى لوزارة النقل). وحافظت أحزاب صغيرة ومنظمات نقابية على حضورها في التشكيلة الحكومية الجديدة. ومن ثمة، فنحن إزاء حكومة سياسية بامتياز، تجمع بين قوى حزبية مختلفة وأطراف نقابية وعدد قليل من المستقلين (9 من 43). ومن المآخذ على الفريق الحكومي الجديد أنّ حضور المرأة فيه محدود (6 نساء)، ما لا ينسجم مع الدعوات الرّسمية التي يرفعها النظام الحاكم في تونس، والدّاعية إلى تمكين المرأة في المجال السياسي والفضاء العام. كما شهدت التركيبة الحكومية عودة وجوه قديمة تقلّدت مناصب سياسية بارزة على عهد الرّئيس المخلوع زين العابدين بن علي (وزراء الاقتصاد والتربية والنقل...)، وهي عودة أثارت استياء وجدلاً واسعاً في الشارع التونسي، ويتساءل كثيرون عن الفائدة من استقدام هؤلاء، وقد ثار عليهم الشعب سنة 2011؟ وما وجه الإضافة التي يمكن أن يقدّموها، فلو كانوا قادرين على الإصلاح لأصلحوا نظام بن علي وأنقذوه؟ وكيف لمن تحوم حوله شبهات فساد، ولا يؤمن بالثورة أصلاً، ويحنّ إلى العهد القديم، ولم يُكلّف نفسه عناء الاعتذار للشعب لقاء صمته على انتهاك حقوق التونسيين زمن الدولة القامعة، أن يكون مساهماً إيجابيّاً في بناء معالم الجمهورية الثانية؟
والملاحظ على صعيد التوزيع الجهوي للحقائب الوزارية أنّ التحوير أعطى أولوية لتعزيز حضور الوزراء المنحدرين من المحافظات الصّاعدة (سوسة، منسيتر، صفاقس، تونس)، ولم يتمّ العمل بالتمييز الإيجابي للجهات الداخلية في هذا الخصوص. ويمكن أن يُفسّر ذلك بالرّغبة في كسب تأييد المدن الكبرى، لما تتميّز به من ثقل ديمغرافي يمكن أن يكون حزاماً شعبيّاً داعماً للحكومة، وخزّاناً انتخابياً يستفيد منه يوسف الشاهد وحزب نداء تونس ورئيس الجمهورية في الاستحقاقات التنافسية المقبلة. واللافت في التركيبة الجديدة أنّه تمّ الاستغناء عن بعض وزراء حكومة الشاهد الأولى، على الرغم من كفاءتهم، فيما تمّ الإبقاء على آخرين، على الرغم من تعثّر أدائهم. ولم يكشف الشاهد عن جرد نقدي ذاتي لمنجزات وزرائه السابقين، ولا عن
المعايير التي اعتمدها في تعيين الوزراء الجدد. والواضح أنّ تركيبة الحكومة الجديدة قائمة على تصعيد حزب نداء تونس، وتمكينه من لوحة القيادة في مؤسسة الحكم، فقد استأثر بمعظم الخطط الوزارية الحيوية. كما أنّ الوزارات السيادية قريبة منه، والمشرفون عليها تمّت تزكيتهم من القصر الرّئاسي. وبذلك تصدّر الحزب عمليّاً مسؤولية إدارة الحكم في المرحلة المقبلة، بما تحمله من إنجازات وإخفاقات، خصوصاً أنّ شريكه الرئيسي (حركة النهضة) جرى تحجيمه، وأسندت له وزارات تقنية، غير وازنة، وغير مؤثّرة في الشأن العام وصناعة القرار. وذلك على الرغم من الحضور المعتبر للحركة في البرلمان والشارع التونسي، وما أبدته من مرونة وتشبّث بخيار التوافق والوحدة الوطنية. ويستجيب الشّاهد، في هذا التوجّه، إلى ضغوط "نداء تونس"، ويلبّي مطلبه في الحصول على تمثيليةٍ عاليةٍ، تنسجم مع فوزه بالانتخابات التشريعية 2014، ويُظهر الحزب في موقع الفاعل في المشهد السياسي. ويعيد ترميم صورته المشقَّقة في الوعي الجمعي التونسي، استعداداً للانتخابات المقبلة (البلديّة، التشريعية، الرّئاسية). وفي الوقت نفسه، بدا الشّاهد ميّالاً إلى تكريس التعدّدية في تركيبة حكومته، للظّفر بأغلبيةٍ مؤيّدةٍ مُريحةٍ في البرلمان، ولتوفير حزام سياسي وتوافق حزبي واسع يمكن الحكومة القديمة/ الجديدة من تمرير سياساتها في أجواء مستقرّة نسبيّاً.
لكن، لا يكفي الحكومة الحصول على الثقة من مجلس نواب الشعب، بل هي مطالبة بكسب ثقة التونسيين، ما لا يكون إلا بتحويل البرنامج الحكومي الإصلاحي إلى نجاح تنموي وواقع يومي يحياه الناس، كما أنها معنية بتوفير الأمن، وتكريس العدالة، وضمان الحرّيات، واحترام استقلالية الهيئات الدستورية، وحماية مكاسب الثورة، وترسيخ أركان دولة الحق والواجب، وذلك لا يكون إلاّ بمزيد من التوافق والحوكمة والدّمقرطة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.