قمة العشرين وصعود الصين

22 يوليو 2017

من أجواء قمة العشرين في هامبورغ (7/7/2017/فرانس برس)

+ الخط -
برز على نحو واضح، في مؤتمر قمة العشرين أخيراً في هامبورغ، استمرار الصين في الصعود. بل كان لافتاً بدء تبادل الأدوار بينها وبين الولايات المتحدة، فبينما أكد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي يمثل اليمين الأميركي بصورته الفجّة، انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس حول المناخ، وأنه يريد زيادة إنتاج الفحم مصدراً وطنياً ورخيصاً للطاقة، ولكنه ملوّث كبير للبيئة؛ تابعت الصين تأييدها اتفاقية باريس، ودافعت عن حماية البيئة، وإنْ بحماسٍ أقل من الأوروبيين الذين يقودون العالم على هذه الجبهة. ولم تبدِ الصين كبير اهتمامٍ بمشكلة الهجرة، فهي لا تعاني من هجرةٍ غير شرعية، ولديها سياسة صارمة، تقمع أي مهاجر غير شرعي، بل تعد الصين بلدًا مصدرًا لقوة العمل بأعداد كبيرة، بينما تشكل الهجرة غير الشرعية أزمةً حادة لأوروبا، حيث يتجه نحو شواطئها عشرات الآلاف شهرياً من أبناء الجنوب، وبما يزيد عن مليون سنويًا، كما تعاني الولايات المتحدة من أزمة مشابهة. لكن الصين شاركت بقية دول قمة العشرين اهتمامها وقلقها من موضوع الإرهاب الذي تحول في أوروبا إلى كابوس يومي، مع تزايد الأعمال الإرهابية، وتنويع أساليبها من التفجير إلى الدهس بالسيارات. ويخشى الأوروبيون من تطور أعمال الإرهاب، لتصبح أعمال تخريب، وخطرها هنا أكبر. أما من جهة الصين فتشكل قومية الإيغور المسلمة الصغيرة في شمال غرب الصين مصدر قلق للحكومة، إذ انتسب بعض من أبنائها إلى المجموعات الإرهابية، كما جاء منهم مقاتلون إلى سورية ضد نظام الأسد، ويُعرف هؤلاء بتشدّدهم وتطرّفهم، وتخشى الصين من عودتهم إليها. وعكس الولايات المتحدة، استمرّت الصين في عدم اهتمامها كثيراً بالمشكلات السياسية العالمية خارج محيطها الإقليمي الذي تحرص عليه حرصاً شديداً، وقد بدأت حدة التنافس بينها وبين الولايات المتحدة بالسخونة في تلك المنطقة.
برز تبادل الأدوار بوضوح بين الولايات المتحدة والصين، في واحدٍ من أهم القضايا الاقتصادية والسياسية العالمية، وهي حرية التجارة وحرية حركة رؤوس الأموال، فبينما رفع ترامب شعار
"أميركا أولاً"، داعياً إلى سياسة تجارية حمائية، واستعادة الصناعات وفرص العمل إلى أميركا مجدّدًا، متراجعاً عن السياسية التقليدية الأميركية الليبرالية القائمة على حرية تداول السلع ومنع الحماية وحرية حركة رؤوس الأموال، بينما انضمت الصين إلى الاتحاد الأوروبي وبقية دول العشرين، في دفاعها عن حرية التجارة، ووقوفها ضد الحمائية الجديدة التي يدعو لها ترامب، والتمسّك بحرية التجارة، على الرغم من أنها كانت، قبل سنوات قليلة، تدافع عن الحمائية، وتعادي حرية التجارة وحرية تنقل رؤوس الأموال. هذا التبدل في السياسات يعكسه تبدل المصالح الذي سبّبته نتائج سياسات العولمة والسياسة الاقتصادية الليبرالية في التجارة العالمية وحركة الأموال والاستثمار التي جاءت عكس توقعات مخططها الأكبر، الولايات المتحدة.
وقبل عقود قليلة، كانت الصين تتبع سياسة حمائية صارمة، بينما بدأت الولايات المتحدة تقود حملة عالمية جديدة لترويج العولمة وسياسات الليبرالية التجارية والمالية والخصخصة والدولة النحيلة، وبدأت البلدان المتقدمة بالتخلص من الصناعات كثيفة العمالة، والملوثة للبيئة، وتنقلها إلى بلدان العالم الثالث، بما تخلقه هذه السياسة من فوائد وأرباح أكبر لرأس المال. ولكنها، وفي المقابل، تنقل المصانع وفرص العمل من البلدان المتقدمة إلى الصين والهند والمكسيك والأرجنتين، ودول نامية بازغة أخرى. وقد بدأت الصين، منذ 1978، مع قيادة دينغ تشاو بينغ استغلال هذه الفرصة، واستخدام الأرباح التي حققتها منها بذكاء وبراعة، وحققت نتائج غير محسوبة من الدول المتقدمة، فقد استطاعت الصين إتقان قواعد لعبة السوق، والاستفادة من سياسة العولمة، وأن تزيد من قدرتها العلمية والصناعية، وتصنع سلعًا تحتاج لمكون معرفي وتكنولوجي أعلى، وتنتج قيماً مضافة أعلى. وبرعت في توطين المعرفة، بحيث استطاعت، بعد عقود، أن تقفز لتكون الاقتصاد الثاني في العالم، وتنتج منتجاتٍ منافسةٍ لمنتجات الدول المتقدمة. كما استفادت بلدانٌ أخرى من هذه السياسة، وحققت نجاحاتٍ ملحوظة، مثل الهند والبرازيل والمكسيك وغيرها، بينما عجزت البلدان العربية والإسلامية، عدا ماليزيا، عن الانتفاع بهذه الفرصة.
كي نفهم التبدّل في موقف الصين، علينا أن نعلم أن الصين أضحت اليوم القوة الاقتصادية الثانية بعد الولايات المتحدة، بناتج محلي إجمالي يقدر ب 11.19 تريليون دولار لعام 2016 في مقابل الناتج الأميركي 18.57 تريليون دولار. بل إن حجم الاقتصاد الصيني أكبر من الأميركي، فمقارنة الناتج المحلي محسوبًأ بالقدرة الشرائية المقارنة (PPP) سيكون قيمة الناتج الصيني 21.41 ترليون دولار مقابل الأميركي 18.57 ترليون دولار. ويبقى الناتج الصيني الذي يحتل المرتبة الثانية يزيد عن ناتج اليابان التي تحتل المرتبة الثالثة بناتج محلي يقدر بـ 4.91 تريليون دولار، أي أن قيمة الناتج الصيني تعادل 2.26 مرة الناتج الياباني. وتعمل الصين على كل مجالات التكنولوجيا المتقدّمة، بما في ذلك غزو الفضاء، وصناعة الطيران والأسلحة. وتنفق على البحث والتطوير ما يزيد عن 2% من ناتجها المحلي، ويأتي إنفاق الصين العسكري بعد الإنفاق الأميركي، إذ بلغت موازنتها العسكرية لعام 2016 نحو 1.9% من ناتجها المحلي، أي ما يزيد عن 200 مليار دولار مقابل 3.3% للولايات المتحدة، أي ما يزيد عن 600 مليار دولار. وهي تسعى إلى توسيع دور عملتها اليوان (الزيميني) في التبادلات العالمية، بما يعود عليها بفوائد كثيرة.
ضمن هذا المناخ العالمي الجديد، والقوة المتصاعدة للصين التي مازالت تحقق معدل نمو سنوي بين 6-7%، وهو معدل هائل، وخصوصاً بالنسبة لاقتصاد بهذا الحجم، وعلى الرغم من توقع تراجعه خلال العقدين المقبلين، بما يعني أن ناتجها المحلي سيتجاوز الناتج الأميركي بالأسعار 
الجارية. ويعد مشروع الحزام والطريق الذي طرحه الرئيس الصيني في 2013 من أكثر المشروعات التي تعبر عن سياسة الصين الجديدة، وطموحاتها العالمية المستقبلية.
ببساطة، تسعى الصين إلى مغادرة نادي دول العالم الثالث (نادي الفقراء)، وتنضم إلى نادي الكبار، لتلعب وفق القواعد نفسها التي كانت تناصبها العداء، فالصين لا تطرح أي نموذجٍ تنموي جديد، يختلف عن النظام الاقتصادي العالمي السائد، ويسهم في تنمية دول العالم الثالث، ويخفف من تطرّف التبادل غير المتكافئ بين الدول النامية والدول المتقدمة، والقائم على تقاسم النفوذ وسيطرة دول قوية قليلة على مقدّرات بقية بلدان العالم، ما ينتج مزيداً من الفقر، ومزيداً من المهاجرين "غير الشرعيين"، بل تسعى الصين إلى زيادة حصتها في هذه القسمة، معتمدة على اقتصاد قوي وحجم سكاني كبير (1.38 مليار نسمة) ونزعة قومية قوية، وإدارة اقتصادية حكومية وخاصة بارعة في استغلال الفرص.
قمة العشرين هي نادي الكبار، وقمة الشركات الكبرى وقمة اللاعبين الكبار في العالم، يجتمعون لينسقوا سياساتها وتفاهماتهم لخدمة مصالحهم على حساب بقية دول العالم، وتشكل الدول العشرون المشاركة في القمة نحو ثلث سكان البشرية، ولكنها تنتج 80% من الناتج المحلي العالمي (الدخل العالمي)، وتسيطر على 75% من التجارة العالمية، وتكاد تحتكر الدول السبع الأكبر بينها البحث العلمي والابتكار. وبالتالي، فإن لما يتوافق عليه هؤلاء الكبار تأثيراً مباشراً على السياسة العالمية والاقتصاد العالمي، وعلى النمو والركود، وزيادة الصراعات أو تراجعها. والصين تسعى، ليس فقط إلى أن تكون أحد أعضاء هذا النادي وحسب، بل تعمل لأن تكون في مقعد القيادة في أمدٍ غير بعيد.
دلالات