مسيرة تسوية سياسية أم مسار إقليمي شامل؟

14 يونيو 2017
+ الخط -
جاء في وصف للنائب عن حزب العمل الإسرائيلي، إيتان بروشي، عن مشروع إيغال آلون (توفي في العام 1980)، بأنه كان قد دمج بين القلق على أمن إسرائيل والحفاظ على طابعها اليهودي وبين الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. ليضيف أنه "لو كان أُخذ بمشروع آلون، لكانت إسرائيل اليوم في مكان أفضل من ناحية أمنية، سياسية واخلاقية". لكن، مع صعود اليمين المتطرّف (الليكود) في 1977، قرّرت حادثة بناء مستوطنة ألون موريه بدء موجة استيطان واسعة في كل أرجاء الضفة الغربية، ما زالت متواصلة، وقضت في طريقها على آمال تنفيذ مشروع آلون، أو ما سمي "الحل الوسط"، من دون أن يكون هناك أي أمل بالانفصال عن الفلسطينيين، بقدر ما يوغل الإسرائيليون و"بعيون مفتوحة نحو دولة ثنائية القومية".
أما في الجانب الفلسطيني، فما زال حلم "حل الدولتين" يتعيش على نسغ حلم بوهم آخر تجاه إمكانية التوصل إلى "صفقة عقارية" تاريخية، يراهن فيها على الإدارة الأميركية الجديدة، من خلال تنظيمها مفاوضات جديدة، قبل أن يبتلع الاستيطان ومخططات التهويد والأسرلة، مزيدا من الأراضي الفلسطينية. وبالتالي، إحداث انخفاض حاد في نسبة الأراضي الفلسطينية "المعروضة" من حكومة الاحتلال، وبموافقة الإدارة الترامبية، ومن جاءت بهم من عالم التجارة والمال والعقارات، للإشراف على صفقات الضم والقضم والتقطيع وتبادل الأراضي، والنسب التي أضحت ترتفع اقتطاعا من حصة الفلسطينيين لصالح المستوطنات الكبرى، المفترض ضمها إلى حصة الاحتلال، وفق تصورات الحل التفاوضي، من دون أن يرقى ذلك الحل إلى أيٍّ من صيغ التسوية المفترضة، إلا إذا كانت ضمن "الحقائق البديلة" الترامبية، في عز ازدهار منظور المنطق الترامبي إياه، المنحاز إلى عالم اليمين الاستيطاني المتطرّف وجشعه الشره لمزيد من الأراضي الفلسطينية، على الضد من المصالح والتطلعات الوطنية للفلسطينيين، غير المعترف بها، فهم لا يستحقون سوى بعض "السلام الاقتصادي"، مشفوعا بخطط أمنية مشغولة منذ الإدارة الأوبامية السابقة، تعمل لصالح الاحتلال، وهذا ما يعد به ترامب فقط لا غير، تحت غطاء ما يسمى دفع "مسار إقليمي شامل"، وفق تعبير جيسون غرينبلات، مبعوثه إلى المنطقة.
لذا من يعتقد أن الرئيس دونالد ترامب، وإدارته الأقل درايةً في تاريخ الإدارات الأميركية،
يعرف أكثر مما ينبغي، أو بما فيه "الكفاية"، عن تاريخ الصراع العربي – الصهيوني، يكون واهما. وواهمٌ أكثر من يعتقد أن ترامب جاد في الوصول إلى "صفقة سلام" فعلية في المنطقة، فالرئيس الآتي على صهوة اليمين الشعبوي المتطرّف، ومن عالم التجارة والاستثمار والصفقات و"الحقائق البديلة"، وهي تتماهى على حساب الحقائق المفترضة والواقعية، في عملية إحلال قسرية مخادعة، لن يكون في وسعه تخيّل الوصول إلى "صفقة تاريخية" كبرى، يتجاوز فيها كل ما حاوله أسلافه، وفشلوا أو أفشلتهم حكومات الاحتلال المتعاقبة، نظرا لما قامت وتقوم عليه النظريات العقيدية الصهيونية وتطبيقاتها الفاشية، من رفض سلام تعاقدي مع (العدو الفلسطيني). في وقت عمل اليمين المتطرّف ويعمل على إفشال اتفاقات أوسلو، حتى لا يواصل هذا اليمين تورّطه في الوصول إلى الاعتراف بالهوية الوطنية الفلسطينية، وما يترتب عليها من حقوق ثابتة وملزمة، وذلك يمثل نقيضاً تاريخياً لهوية إسرائيلية مزعومة.
ولهذا، وقفت الاتفاقات العتيدة عند عتبات حكم ذاتي، كروابط قرى كبيرة، دورها الرئيس عقد صفقات صغرى مع الاحتلال، وتطوير أشكالٍ من التنسيق الأمني معه، وهو الهدف الأوضح حتى اللحظة، من دون أن يكون هناك أي أفق لمفاوضات أو اتفاقات جديدة، يمكنها أن تحسّن من وضع الفلسطينيين الاقتصادي والاجتماعي، أو/ والمهم تحسين الوضع والمكانة السياسية والوطنية لهم، كونهم شعب الأرض وأصحابها الأصلاء، وبالتالي من حقهم أن تكون لهم دولتهم الوطنية الخاصة والمستقلة على تراب وطنهم التاريخي.
على هذه الخلفية، تشكل التعابير المستخدمة من الرئيس ترامب، ومن جاء بهم إلى إدارة البيت الأبيض من عالم التجارة والأعمال والصفقات العقارية، انسلاخا حادّا من عالم السياسة والدبلوماسية والاقتصاد، فقبل أيام من بدئه جولته الشرق أوسطية، راجت تعابير من قبيل "حق تقرير المصير للفلسطينيين"، ولكن ليس في السياق التحرري المعروف، والحديث عن علاقات وثيقة بين الولايات المتحدة و"الدولة اليهودية"، في تجاهل واضح لاستئناف المفاوضات المتوقفة منذ إبريل/ نيسان من العام 2014، وفي تجاهلٍ متعمد للدولة الفلسطينية المستقلة؛ وهو الهدف المباشر الذي يسعى الفلسطينيون إلى تحقيقه بعد مرارات أوسلو وتداعياته المأساوية، التي قيدت الحركة السياسية الفلسطينية، وساهمت في إطلاق "حرية التقاسم والانفصال" منذ تكريس الأحداث الدموية في العام 2007، حيث يجري تكريس الانقسام السياسي والجغرافي، وأشكال عديدة من الانفصال عن الوطن، عبر قرارات الانفراد والاستفراد بقيادة الحركة الوطنية فرديا وفئويا، ليجري استبداد الفرد وقسم من حركة فتح/ السلطة بكامل الوضع القيادي الفلسطيني، في تجاهلٍ متعمد لكامل قوى منظمة التحرير ومؤسساتها، وحتى مؤسسات السلطة التي بلورتها اتفاقات أوسلو، حيث جرى الخروج عليها، وعلى شرعياتها، من كامل الطواقم السلطوية القيادية التي تتصدر اليوم سلطات الأمر الواقع، في كل من قطاع غزة والضفة الغربية.
أما الحديث عن علاقات وثيقة بـما أطلق عليها "الدولة اليهودية"، وليس بإسرائيل، فهو لعب واضح على ألفاظ يُراد بها إرضاء نتنياهو ويمينه المتطرّف، تعبيرا عن عودة انسجام العلاقات التي كانت متوترة في أثناء الإدارة الأوبامية السابقة.
وفي نوع من الاستفزاز كذلك، جرى الحديث عن أن من ضمن أهداف جولة ترامب، زيارة
"الأماكن المقدّسة المسيحية واليهودية والاسلامية"، وهذا تدليسٌ وتزوير وتلفيق، حيث لا وجود لمقدساتٍ يهودية في فلسطين، لا في القدس ولا في غيرها. إنما يراد من هذا التلفيق نفي الحق التاريخي للفلسطيني في وطنه، وإثبات علاقة لعابرين في فترة زمنية قصيرة ببعض الأراضي الفلسطينية، حيث لم يخلفوا وراءهم أي آثار أو مقدّسات يعتد بها، فلا هيكل ولا تابوت عهد ولا خيمة اجتماع ولا مقابر لأحد من شخوصهم التاريخية أو المتخيلة في فلسطين؛ حتى ذاك الحائط المسمى "حائط البراق"، والذي أرادوا له رمزيا أن يكون مبكىً لهم، لا علاقة له بأي أثر توراتي تاريخي أو أسطوري، بل هو من ضمن إرث ذاك التدليس الذي أريد له إثبات علاقة القبيلة اليهودية بفلسطين.
أثبتت جولة ترامب في فلسطين، بنتائجها المعلنة، وما بات يتكشف منها تباعا يوما بعد آخر، أن الحديث الأميركي عن "اتفاق سلام تاريخي"، لا يعدو كونه مجرّد لغو عن "صفقة كبرى" عقارية، تحتمل مسألة تبادل أراضٍ أكبر مما أعلن عنه سابقا، هنا أو هناك من المناطق التي صادرها الاستيطان. وفي سياق هذا كله، لا حق ولا حقوق للفلسطينيين، شعباً وقضية وهوية وطنية، فهل من يحتمل خفّة الدخول في دهاليز الإدارة الترامبية ومخططاتها المتطابقة مع سياسات اليمين الصهيوني المتطرّف، وسعيهما المشترك إلى تصفية قضية شعب ووطن، عادا قسرا وقهرا وبالإكراه، وبإدارة صراع وأداء سياسي سيئ، كما وبالانقسام والانفصال، للعيش في ظل كوابيس من انتظار الأمل؟ أمل استعادة مسيرة التحرر الوطني، بدل الضياع في سراديب تسوية سياسية غامت ملامحها، ولم يعد لها من أثرٍ سوى ذاك الذي يتماهى مع مسار إقليمي شامل، له طابع الأمن ليس إلّا.
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.