محاولة لتفكيك "نفسية الهزيمة"

02 يونيو 2017
+ الخط -
ونحن نستحضر الذكرى التي تتعلق بهزيمة حزيران/ يونيو 1967، بعد مرور خمسين سنة عليها، فتشكل وقوفاً على العبرة في التاريخ، ولا شك أن دراسة بعض المراكز البحثية هذا الموضوع من الناحية البحثية يمثل أمراً في غاية الأهمية. 

ولعل ذلك كله يجعلنا نجيب على سؤال: لماذا نستدعي التاريخ؟ نتحدث عن ذلك بمناسبة مؤتمر مهم عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عن هزيمة يونيو/ حزيران، والوقوف على أهم التداعيات التي تتعلق بحدثها الجلل، ضمن نكبات صادفت الأمة العربية في تاريخها الحديث، وربما يقع في الخاطر سؤال مهم: لماذا يقوم بذلك مركز متميز، كالمركز العربي، والذي يعد في مقدمة مراكز البحوث والدراسات العربية، بعد أن تأخرت مراكز بحثية أخرى تهتم بالشأن الاستراتيجي عن معالجة موضوعات تخصّ هذه الأمة، والوقوف على أيامها الكبرى، خصوصاً لو شكلت هزائم لها، على الرغم من أن التقاط العبرة من الخبرة أمر يجب أن يكون من الأمور التي تتوقف عندها المراكز البحثية، بل تجعلها من أولى مهماتها.
لا تُرجّي دراسة التاريخ والأحداث الماضية من أجل التأريخ، وذلك ما يمكن أن تقوم به وتتخصص فيه بعض المراكز التي تقوم على التوثيق والتأريخ، وغالب ظني أن المركز العربي لا يحيي ذكرىً، خصوصاً إذا كانت كئيبة، وتشير إلى هزيمة كبرى لبلاد العرب. وكما جاء في هذه السطور، فإن هذه الهزيمة تشكل واحداً من فصول النكبات العربية، ولكنه، في الحقيقة وكعادته، يدرس هذه الأحداث، ويتوقف عندها، ويدرس بنياتها، وما يتعلق بأسباب الهزيمة وعواملها، خصوصاً أن الأرشيفات العربية، إن كانت هناك أرشفة وذاكرة لهذه الأحداث، مهملة أو مغفلة، مقفلة أو مغلقة، تحرص على أن يكون ذلك في دائرة المسكوت عنه واللامفكر فيه. وقد اعتادت النظم العربية ألا تقيم وزناً لكل الاعتبارات التي تتعلق بالكشف والشفافية، ذلك لأن تلك المعلومات التي تشير إلى هذه الهزيمة إنما تفتّ في عضد شرعية هذه النظم، وتظهر تلك المآسي الكامنة والظاهرة، حينما تتعلق الأمور بخوض معاركها الكبرى.
وعلى المراكز البحثية في هذا السياق، وهي تقوم على دراسة حدثٍ يتعلق بالماضي التاريخي،
 خصوصاً لو أن اهتمامها كان سياسياً واستراتيجياً، أن لا تتوقف عند الحدث بمنطق التثاؤب التاريخي، بل من خلال رؤية عميقة للزمن، تحاول أن تقف على عالم أحداثه، لتقف على عوامل الحدث، لا التوقف عند وحول تفصيلاته، وليس المعني في ذلك الشأن أن نمد الموائد حول تلك الأحداث ونستغرق فيها، وربما لا يكون الأمر استغراقاً فحسب، ولكن إغراقاً في تفصيلاتٍ يمكن أن تشكل إهداراً للوقت والجهد، بلا ثمرة كبيرة أو نفع عميم.
يُستدعى الماضي ويوضع على مائدة التفكير، ليس فقط للذكرى أو التذكير، ولكن بأثره الحاضر، وربما تأثيره الكبير في حفز التفكير بالمستقبل، لا إعاقته أو تعويقه، إنها الفكرة الكامنة في الخبرة، المسكونة بالعبرة، والعبرة عبور من زمنٍ مضى إلى زمن يأتي، وهو عبور للمستقبل الذي نحن فيه. من هنا، علينا أن نتحرّك من جوف الهزيمة، لتأكيد أنها ارتبطت بعقليةٍ خطيرة استمرت تعتمل عقلياً وعملياً، بحيث عوقت كل عمليات التغيير والنهوض، وهو ما يؤكد أنه ما لم نتخلّ عن عقلية الهزيمة، سنظل نرفل في هزائم في كل مرة، إما أن نهوّن منها، إن لم نستطع تغطيتها، أو نغطيها في ثوب انتصار زائف، وازدهار كاذب، وهي، في الحقيقة، لم تكن تعني، في ماكينة الأحداث، إلا تدويراً للهزيمة بأشكال أخرى، بدءاً من عقلية الإنكار، ومروراً بذهنية الاستنكار، وانتهاء إلى عقليات الزيف في تصنيع الانتصار.
باختصار كبير، ربما لا يشكل حدوث هزيمة كبرى في العام 1967 المشكلة الأعظم، ولكن الورطة الكبرى والأعظم أن تستمر العقلية نفسها التي أنتجت الهزيمة، وأحكمت عقدتها بنفسية الهزيمة، ويشكل العسكر أهم عنصر وركن في هذا المقام، يجب الوقوف عنده، وعلى تأثيرهم في هذه الهزيمة.
من المهم بمكان أن نستدل على عقلية العسكر من خطابهم ومواقفهم وسياساتهم وأفعالهم، هذه المساحة، بما تشكله من مصادر، وبما يعقبها من دراسة وفحص وبحث، إنما تؤكّد على
ضرورة البحث في عقلية العسكر، ضمن التعرف على طريقة التعامل العميقة مع ملفاتٍ في غاية الأهمية، في باب العلاقات المدنية العسكرية. وهي ملفات تشكل أهم صفحات كتاب التغيير، والتي تحتاج إلى أن تتقدم اهتمامات التفاوض الانتقالي، كأحد أشكال عملية الانتقال الكبرى، والتي تتحرك نحو الانتقال السياسي والدستوري والثوري، حيث يشكل العسكر، بكل متعلقاتهم، أهم طرفٍ في عمليات الانتقال والقدرة على صياغة هذه العلاقة ضمن أشكالٍ سويةٍ وعلاقاتٍ مواتيةٍ، لعمليات الانتقال والتحول الديموقراطي.
من اللحظات الكاشفة والفارقة في هذه الأمور لحظات الأزمة ولحظات الهزيمة ولحظات الثورة. في بحث في مؤتمر "الجيش والسياسة" الذي نظمه المركز العربي للدراسات والأبحاث في سبتمبر/ أكتوبر الماضي في الدوحة، قدم كاتب هذه السطور محاولةً لتحليل عقلية العسكر بعد ثورة 25 يناير، التي ألجأتهم إلى حالةٍ من التفاعل، بدت في مواقف وسياسات وأفعال تدل على أن عقلية العسكر سارت ضمن اتجاهٍ يؤكد على وجود العسكر دولةً فوق الدولة، أو بتعبير آخر جمهورية الضباط. وفي إطار ما أسميناه "كشف المستور" الذي يشكل خطاباً غاية في الأهمية يعبر عن طرائق تفكير العسكر ومنهاجهم في التعامل السياسي وفي الشأن العام. في دراسة هذا الحدث نعود إلى تشكل آخر يشير إلى الهزيمة التي حدثت في عام 67، وكشفت عن حال العسكر وعلاقة أجنحة بعضها ببعض، ضمن حالة صراعيةٍ أدت، ضمن عوامل أخرى، إلى الهزيمة، والتي حرص هؤلاء التعبير عنها بألفاظ مخففة، حيث لا يجوز فيها أن تمارس عقلية الإنكار، لأن الهزيمة كانت أوضح من أن تُنكر أو تغفل أو تخفى. وفي هذا المقام، كشف هذا الحدث الجلل ما يمكن تسميتها عقلية العسكر وذهنية الهزيمة، وكشف من باب آخر عن أن باب العلاقات المدنية العسكرية يتضمن مثلثاً رهيباً: تصور العسكر لأدوارهم، السير في طريق إنكار الهزيمة، محاولة تأميم أي انتصار لمصلحتهم.
ضمن هذه العقلية، لابد أن نرى أحداث هزيمة 67 ضمن مسلسل من الأحداث، في إطار تحليل السياق والسباق واللحاق، وذلك أن تسلسل الأحداث يشكل حالةً نموذجيةً في الكشف عن حقيقة العسكر، وعن وزن ما يمكن تسميتها "المهنية العسكرية"، ومقتضياتها في صفحتي العلاقات العسكرية- العسكرية في جانب، والعلاقات المدنية العسكرية من جانب آخر.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".