شعبوية وقومية وأسوار

14 مايو 2017
+ الخط -
الشعبوية والخطاب الشعبوي من الظواهر المهمة الملحوظة في العصر الحديث، ولم تعد حكرا على التيارات اليسارية والقومية كما في الماضي، بل أصبح اليمين ينافس اليسار في استخدام الخطابات التعبوية الشعبوية. ومن سمات هذه الخطابات تحديد عدو مشترك، أو خطر خارجي يهدد بقاء الدولة/ المجموعة/ القبيلة/ الأمة/ الوطن، قد تكون الإمبريالية هي العدو، وقد يكون المهاجرون هم الأعداء، وقد تكون الحرية والديمقراطية الخطر الذي يهدّد استقرار الأنظمة.
لم يعد المدّ القومي الشعبوي حكرا على الجنوب ودول ما بعد الاستقلال، بل أصبح اليمين المتطرّف في الشمال يستخدم خطابا شعبويا ضد من يراهم تهديدا وجوديا، المهاجرين والعرب والمسلمين، ولم تعد الخطابات الشعبوية ضد الغرب الليبرالي كما كان في الماضي، بل أصبح اليمين في هذا الغرب يستخدم خطابا شعبويا ضد العولمة والليبرالية.
أما الشعبويات العربية فهي "سلطوية"، تستخدم روايات وأساطير المؤامرات الخارجية، لإرهاب الشعب، لكن الخطر الحقيقي بالنسبة لها هو الداخل، فليس العدو هو الغرب أو إسرائيل، فالتطبيع والتنسيق الأمني المشترك يفضح أكاذيبهم، لكن العدو دائما فصيل منافس أو معارضة مزعجة أو شباب يحلم بالحرية والديمقراطية.
الشعبويات العربية أبوية، تزعم حماية الشعب والخوف على مصالحه، لكنها شعبويات وأنظمة ترتعد من مجرد فكرة مشاركة الشعب في إدارة شؤونه، تستخدم حلم (أو وهم) القومية، من أجل الحديث عن تقسيم جديد أو "سايكس بيكو" جديدة، على الرغم من ارتباط "سايكس بيكو" الأولى ببدايات ظهور فكرة القومية العربية.
فتغير الخرائط في العالم، وتمدد دول أو إنشاء دول جديدة، أو تحول نظام الحكم إلى فيدرالي أو تفكك دول أو انقسامها لا يعني دائما أن يكون وراء ذلك مؤامرة، فمرحلة ما بعد الحرب 
العالمية الأولى التي شهدت تغيرا كبيرا في خريطة العالم، مثل قيام الاتحاد السوفيتي الذي استولى على معظم دول وسط آسيا وشرق أوروبا، كما شهد تفكّك الإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية النمسا- المجر، وهي الإمبراطورية التي استمرت مئات السنين، واستولت الدول المنتصرة (فرنسا وإنكلترا وروسيا) على تركة الدول المهزومة وممتلكاتها (الدولة العثمانية، إمبراطورية المجر والنمسا، وألمانيا)، وهو إجراء متبع منذ خلق البشرية وقيام الحروب.
وقد كانت "الولايات العربية" في الدولة العثمانية من نصيب إنكلترا وفرنسا، بعد مساعدة أمراء (وقادة) تلك الولايات والإمارات لإنكلترا ودورهم في هزيمة الدولة العثمانية، وهذا ما يطلق عليه الثورة العربية الأولى التي تزامنت مع بزوغ فكرة القومية العربية المقابلة للقومية التركية، والتي كانت تسعى إلى إنشاء دولة صديقة للغرب، وبالتنسيق معه يطلق عليها الولايات العربية المتحدة. ولذلك، تعتبر الرواية التي تزعم أن اتفاقية سايكس بيكو هي التي قسمت الوطن العربي إلى دول صغيرة غير صحيحة، فلم يكن هناك وطن عربي ولا دول عربية من الأساس قبل الحرب العالمية الأولى، كما أن التقسيم المعيوب تم بالاتفاق مع الزعماء العرب، لإنشاء دول بناء على رغبات ذوي السطوة والثروة والعزوة، ولذلك ظلم في ذلك التقسيم "المتفق عليه" طوائف وأعراقاً، مثل الأكراد والدروز. ولم تكن إيران قد ظهرت بمشروعها الطائفي القائم على القومية وولاية الفقيه وزرع مجموعات مذهبية/ شيعية موالية لها داخل الدول العربية بغرض السيطرة عليها.
وكان مفهوم الدولة/ الأمة قد بدأ في الظهور بعد معاهدة ويستفاليا 1648، كما بدأت مفاهيم 
الدولة القومية تتشكّل بعد الثورة الفرنسية وحروب نابليون. ولكن فعليا يمكن القول إن المفهوم أصبح أكثر وضوحا بعد الحرب العالمية الأولى، عندما بدأت الممالك والإمبراطوريات في الانقسام أو التشكّل طبقا لقومياتها، فلم يكن تقسيم الإمبراطوريات والممالك الأوروبية إلى دول جديدة مؤامرةً عربيةً ضد الغرب مثلا، ولكنه كان تقسيما وإعادة دمج، طبقا لقوميات وأعراق وأصول مشتركة.
وبعد الحرب العالمية الثانية، كان هناك تقسيم ودمج جديد، بناء على رغبات الدول المنتصرة ومصالحها. وانقسم العالم إلى معسكرين، وتغيرت أسماء دول وتم إدماج دول أخرى، وكانت القومية عاملاً رئيسيا في إشعال الحرب العالمية الثانية، وعاملاً مهماً في دمج أو احتلال دول أخرى في الحرب الباردة، وكانت القومية العامل الرئيسي لانقسام بعض الدول بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أو تفكّكها أو استقلالها.
الفشل في إدارة التنوع، إنها كلمة السر، وهذا هو العامل الرئيسي في انشقاقاتٍ أو مساعي الاستقلال بعد إنشاء الدول الحديثة، كان له دور رئيسي في تفكك الاتحاد السوفيتي، بعد الفشل في استيعاب القوميات والأعراق المختلفة، أو بعد الفشل في إصهارها بالقمع والقوة، بمعنى أصح، حدث ذلك في يوغوسلافيا بعد الفشل في الوصول إلى صيغة تعايشٍ بين الصرب والكروات والألبان. حدث ذلك في السودان، بعد فشل صيغة الفيدرالية بين الشمال والجنوب، فانفصل الجنوب، الأفريقي المسيحي، عن الشمال العربي المسلم، ثم اشتعلت قبائل الجنوب في حرب قبلية للسيطرة على الثروات.
كان الفشل في إدارة التنوع عامل الحسم الرئيسي في تفكيك العراق من الداخل، قبل الدخول في مغامرات الحرب مع إيران ثم احتلال الكويت، وقبل احتلال العراق نفسه. وكان هذا الفشل العامل الرئيسي الذي أدى إلى تفاقم الأوضاع إبان رئاسة نوري المالكي الحكومة، وأسهم في ظهور "داعش" ودعمها من العشائر السنية، وكذلك كان الفشل في إدارة التنوع العامل الرئيسي الذي مهّد للثورة السورية في 2011.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017