أكاذيب حكومية مصرية

28 مارس 2017
+ الخط -
يتردّد في مصر خطابٌ يهاجم الدعم الموجه لقطاعي التعليم والصحة، يمثل تبريراً لتوجهات تسعى إلى تقليص بنود الموازنة المخصصة لجوانب الإنفاق الاجتماعي، ويرتبط ذلك بالسياسة الاقتصادية التي تعظّم دور القطاع الخاص، بوصفه قاطرة التنمية، وبديلا عن الدولة في تقديم الخدمات.
لم يستطع حسني مبارك، على الرغم من كل مساوئ نظامه، أن يخصخص خدمات التعليم والصحة، وعلى الرغم من المحاولات المتكرّرة، والإجراءات الجزئية في هذا المجال، إلا إن الخدمات، على الرغم من تراجع مستواها وارتفاع أسعارها، ما زالت قائمة، لكن النظام يتجرأ اليوم بطرح إلغاء الدعم الموجّه للتعليم والصحة، مستغلا تراجع قوى الثورة وتفتتها، وضعف قوى المقاومة الاجتماعية لمحاولات الانقضاض على ما تبقى من مكاسب شعبية.
لم تقتصر التصريحات على مهاجمة الدعم الموجّه للتعليم والصحة، بل وصف الدعم بأنه سبب الكوارث التي تعيشها مصر. وعلى الرغم من أن الرد على هذا الخطاب يحتاج اجتهاداتٍ عديدة، إلا أنه يمكن طرح عدة نقاط أساسية، لتفنيد جذور هذا الخطاب وأهدافه.
أولا: معظم التصريحات المتعلقة بإلغاء الدعم صادرة عن مسؤولين في قطاعي الصحة والتعليم يشغلون مناصب صنع قرار ومواقعه، ما يعنى أن الأمر خرج عن كونه رؤية محل اختبار أو حوار مجتمعي، إلى كونه في مرحلة التنفيذ، عبر مخططات تبدأ تدريجياً، كما ترتبط تلك التوجهات بخطابات السلطة بشأن عدم جدوى الاهتمام بالتعليم في ظل الأزمة الاقتصادية، حيث سبق أن صرّح الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسى، قائلا "يعمل إيه التعليم في مجتمع ضايع"، بالإضافة إلى تصريحات أخرى، تطالب المواطن بدفع تكلفة الخدمات، وأن الدولة لن تتحمّل استمرار الدعم.
ثانياً: توهم التصريحات الرسمية من مسؤولي ملفات الصحة والتعليم المجتمع أن الدولة تقدم
خدماتها بالمجان، والحقيقة أنه لا خدمة مجانية في مصر، ومعظم الخدمات زال عنها الدعم، أو خُفّض، بينما يتم إلصاق كلمة المجانية، بجانب الخدمات في محاولة لإظهارها عبئا على الحكومة والموازنة، وإن الشعب يتسولها، وليست حقا له ودورا اجتماعيا أصيلا للدولة.
على جانب آخر، هناك عدة أمثلة تكذّب ما يساق عن مجانية الخدمات، منها على سبيل المثال ارتفاع أسعار مشتقات الطاقة ثلاث مرات، وكذلك رفع المصروفات التعليمية، وخصوصاً الجامعية منها، ورفع مصاريف العلاج والأدوية.
ثالثاً: إيهام أفراد المجتمع أن ما يصرف على الخدمات يشكل ضغطاً على الموازنة، وأن مجمل القطاعات الخدمية تحقق خسائر، وهذا ليس صحيحاً، فهناك قطاعات تربح وتحقق فوائض مالية، وتوضح موازنات بعض الجامعات الحكومية ذلك، كذلك الأمر في ما يخص بعض الهيئات الخدمية، كقطاع الكهرباء والبترول.
رابعاً: إلغاء الدعم يعني هدم الأدوار الاجتماعية للدولة والتزاماتها، ويشير أيضا إلى تحول خطير، يمس أمن المجتمع وسلامته، وفرص نمو الاقتصاد، وسبل عيش الناس بشكل كريم، وهو، بجانب ذلك، يفتح الطريق أمام الطغم المالية من شركاتٍ خاصة، للسيطرة على خدمات التعليم والصحة، والتحكم فيها، يستحوذ القطاع الخاص الآن على نسبةٍ كبيرة من طلاب مراحل التعليم قبل الجامعي، وتزيد مصروفات بعض المدارس عن مثيلتها في دول أوروبية. أما التعليم الجامعي، وتوسع القطاع الخاص في إنشاء الجامعات الخاصة، بداية من التسعينيات. وبهذه الطريقة، حدثت ازدواجية تعليمية بجانب الازدواجية الطبقية.
خامساً: لا يمكن التعاطي مع خدمات التعليم والصحة بوصفها سلعاً أو خدمات تخضع لقوانين السوق، فبحكم خصوصية تلك الخدمات وحساسيتها، تهتم الدول بالتخطيط والإشراف عليها، ركيزة تنموية وضرورة اجتماعية.
سادساً: يكرس هذا التوجه انتهاك قيم العدالة وتكافؤ الفرص، لأن تسليع خدمات العلاج والتعليم يعني قصرها على القادرين، ما سيضاعف الهوة بين الطبقات، وينذر بكوارث اجتماعية ضخمة مستقبلا، ويؤثر على الأمن المجتمعي.
وعلى جانب آخر، يذكّرنا ما يجري بالفارق بين نظم حكم ما بعد الاستقلال التي طبقت خططا للتنمية وربطتها بالتعليم وما يجري اليوم. صحيح أن التعليم لم يكن ثمرة للناصرية، بقدر ما كان مطلبا شعبيا قبل ثورة يوليو، واتخذت خطواتٍ لإتاحته حتى المرحلة الابتدائية، وجاءت ثورة يوليو لتستكمل الطريق، وتجعله متاحاً للجميع من دون تمييز، وتعلم كثيرون ممن هم مسؤولون الآن بفضل قيم العدالة الاجتماعية وخطط التنمية والدعم والمجانية التي تبناها عبد الناصر ويتم هجاؤها الآن.
على جانب آخر، هناك خلط ما بين ضرورة إصلاح نظام العلاج والتأمين الصحي وقطاع
التعليم وخصخصة الخدمتين، بوصفها إصلاحا، كما أن الرؤية التي تهاجم الدعم تفتقر إلى المنهج العلمي، لمواجهة أعباء الموازنة، وتتماس مع توجهات لصوصيةٍ، غرضها النهب وتحقيق مكاسب للشركات الاستثمارية الكبرى التي تود السيطرة الكاملة على قطاعي الصحة والتعليم. وتمثل التصريحات الحكومية الداعية، أخيرا، إلى إلغاء الدعم، خضوعا من الدولة لصالح المستثمرين، بل إن مسؤولين كثيرين هم، في الحقيقة، موظفون سابقون أو مستشارون لدى المؤسسات الاستثمارية، وتصريحاتهم لا تخص الإصلاح في أغلبها بقدر ما تمثل أعمالاً سمسارية مدفوعة الأجر.
سابعاً: التوجه الاقتصادي الحالي القائم على تعظيم دور القطاع الخاص متسقٌ مع ما يشهده قطاع العمل في مصر من تحولات، فلا توجد قطاعاتٌ إنتاجيةٌ تستوعب كل المنتسبين لقطاع التعليم، ويميل القطاع الخاص إلى تشغيل خرّيجي الجامعات الخاصة الذين لا تتجاوز نسبتهم 5%، ما يعنى مستقبلا أنه لا حاجة لنسب تعليم مرتفعة، وسيكتفي سوق العمل بخريجي الجامعات الخاصة من أبناء الأغنياء والشرائح العليا من الطبقة الوسطى لشغل الوظائف المحدودة، أما باقي أبناء الشعب فسيعملون خدماً لتلك الفئات، وإذا وضعنا الخط على استقامته في ظل ظاهرة الانتفاخ الشبابي، سنعلم أي مستقبل سينتظر هؤلاء، إذ استطاعت الشركات المحلية والعالمية السيطرة على قطاعي التعليم والصحة.
ثامناً: هذا التوجه، بما يحمله من مخاطر ورؤية قاصرة، يتشابه مع توجهات حكومات عربية، منها المغرب وتونس والجزائر والسودان، ويتفق أيضا مع شروط المؤسسات المالية العالمية وتوجهاتها، ويتماشى مع موجة توسع أنشطة قطاع الخدمات عالميا على حساب قطاعات الإنتاج، كما يفضح هذا التوجه كل الادعاءات حول خطط التنمية ومشروعاتها، ويكشف عجزها وقصورها، إذ تركز على الاستثمار في المباني والطرق، ولا تستثمر في البشر، وهو تعبير عن خطأ التوجهات وهشاشة منظورات التنمية البائسة التي تتبناها الدولة المصرية.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".