16 مايو 2017
الغنوشي.. رَمنَسَة الثورة و"العدالة" الانتقالية
ألقى زعيم حركة النهضة التونسيّة، الشيخ راشد الغنوشي، محاضرة قبل أيّام، في معهد الدوحة للدراسات العليا، حاول فيها تفسير ما سماه "الاستثناء التونسي"، أو بالأحرى أسباب نجاح الانتقال الديمقراطي في تونس، على خلاف البلدان العربية الأخرى التي عرفت تحركات احتجاجية ومسارات ثورية. ما يثير الانتباه في المحاضرة، وفي النقاش الذي تلاها، الانبهار بالنموذج "الديمقراطي" التونسي، وبـ"نجاح" الثورة، والانتقال الديمقراطي للسلطة.
من السهل على المرء أن يتفهم تعليقاتٍ شبيهةً، عندما يتلقاها من أصدقاء وزملاء عرب، خصوصا عندما تكون في إطار مقارنات يجرونها مع نماذج عربيّة أخرى، على غرار ما يحصل في سورية وليبيا واليمن. لكن يصعب تفهم هذا الخطاب التبسيطي، عندما ينطق به تونسي.
كانت المحاضرة نوعًا من الرَمنَسَة للثورة، وللمرحلة اللاحقة، والتوافق السياسي بين النخب "العلمانية" والإسلامية، فلم يتطرّق الشيخ الغنوشي إلى النقاشات الطويلة والمعقدة التي رافقت هذا الانتقال الديمقراطي، ولا الضغط المركزي الذي لعبه المجتمع المدني والأطراف التقدمية داخل مجلس النواب، على الرغم من أنهم قلة، في البداية، من أجل التنصيص على مبادئ مركزية (المساواة بين المرأة والرجل، والحفاظ على مجلة الأحوال الشخصية، ومحاولة التنصيص على تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني في الدستور، وغيرها). كما لم يخطر على باله الإحالة على الشهداء الذين دفعتهم الثورة التونسية خلالها وما بعدها. والاغتيالات السياسية التي ذهب ضحيتها السياسيان، شكري بلعيد ومحمد البراهمي. بالإضافة إلى سوسة الإرهاب التي تكاد تمزّق تونس.
اكتفى الغنوشي، في خطابه، بالإشادة بهذا النموذج التونسي الناجح! طغت هذه الصورة البيضاء البسيطة الرومانسية للثورة التونسية على خطاب الغنوشي ومن حوله، كما على النقاشات العامة في الإعلام العربي، وأفلت منها الاهتمام بمقاصد الثورة ذاتها، وغابت عنها آثار هذا المسار الثوري على حياة الإنسان التونسي العادي الذي أصبحت حالته في انحدار من سيئ إلى أسوأ.
كانت كلمة "الحرية" الكلمة المركزية التي استعملها الغنوشي، جنبا إلى جنب "الانتقال
الديمقراطي" و"الديمقراطية"، مغفلًا المطلب المركزي الذي كان سببًا مباشرًا في اندلاع التحركات الشعبيّة، وهو مطلب التشغيل وتوفير فرص العمل، مطلب الكرامة والعدالة الاجتماعية. هذه المطالب الاجتماعية المركزيّة التي تم ويتم تهميشها، من أجل تسويق هذه الصورة الجديدة لتونس، تونس الحرية والديمقراطية. وهو أمر يذكّر بخطابات زين العابدين بن علي (والخطابات التي كانت تسوق في الإعلام العربي والعالمي) التي كانت تشيد، اختزالا، بتونس حرية المرأة، وتونس التعليم، وتغفل عمدًا تونس الديكتاتورية، وتونس الفقر، وتونس السجون.
يتم اختزال الاستثناء التونسي دائما، في فكرتي الانتقال السلمي"الديمقراطي" للسلطة، ووجود هامش كبير للحريات العامة والخاصّة، على الرغم من أن الأخيرة لا تنفك تدور في فلك المساومة، كلما طفت إلى السطح مع كل حدث أو قضية ما، على غرار ما حصل أخيرا، ردا على عنوان مسرحية "ألهاكم التكاثر" التي أنتجها المسرح الوطني، وشكل عنوانها ردود فعل قوية من أئمة مساجد محسوبين على التيار الإسلامي، وكذا مجموعات من الشعب، رفضوا تضمين القرآن عنوانا لمسرحية، وتقدموا بشكوى قضائية لإيقاف العمل، وانتهى النقاش باعتذار المخرج وتغيير عنوان المسرحية. وهو ما يذكّرنا بأحداث أخرى، أعادت مبدأ حرية الضمير والحريات الخاصة إلى طاولة النقاش، على غرار حادثة فيلم بارسيبوليس في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وفيلم "لا الله لا سيدي" للمخرجة نادية الفاني، وحادثة المعرض التشكيلي في قصر العبدلية... وغيرها من أحداث تعلقت كلها بتهم المسّ بالمقدس واستفزاز المشاعر الدينية للشعب.
ينحصر، إذن، تقييم المسار الثوري في تونس في الجانب التقني للديمقراطية، ولا ينظر إلى جوهر العملية الديمقراطية ذاتها. ويعيدنا ذلك دائما إلى طرح أسئلة أولية: هل الديمقراطية وسيلة أم غاية عظمى؟ هل كان الهدف الأسمى للحراك الثوري في تونس هو الديمقراطية في ذاتها، أم العدالة الاجتماعية، والحرية بكل أشكالها، بما في ذلك حرية الضمير، والتوزيع العادل للثروات بين الجهات؟
عملية اختزال الديمقراطية في جوانبها التقنية، بما هي آليات لخوض الصراع السياسي سلميًا،
تغفل أهداف الديمقراطية، كما تغفل أهداف المسار الثوري نفسه، والتي لم تتحقق إلى الآن، لا بل تردّت الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة للمواطن التونسي، وعادت ماكينة النظام القديم إلى الاشتغال بقوة وفعالية أكبر. وهو ما دفع شريحة كبيرة من المجتمع التونسي إلى التحسر على عهد النظام المخلوع والحنين إليه، وهو ما نلاحظه في بلاتوهات الحوارات التلفزية التي أصبح فيها التغني بالنظام السابق، والافتخار بالانتماء إليه، شيئا مقبولا، وما دونه يوصف بالاجتثاثية والإقصائية. وهو ما أنتجته منظومة المصالحة التي ذكرها الغنوشي في محاضرته، وأفرزت تغاضيا واضحا عن جرائم الجلادين والسارقين السابقين من أجل تحقيق عدالة انتقالية موهومة.
لم تؤثر هذه الظروف الصعبة على عامة الشعب فقط، بل بالأخص على وقود الثورة ذاته، الشباب الذي تمت إزاحته، من أجل أن تستلم "النخب"، ذات الخبرة في الشأن السياسي، مدار الحكم، والذي لم يجد امتدادا لمطالبه في التشغيل والكرامة والعدالة. بل عرف هذا الشباب الثوري نصيبه من العنف في فترة ما بعد الثورة، كما عرفها من قبل. فتم ضربه بـ "الرش" في أحداث سليانة في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، عندما خرج الأهالي للمطالبة بالتنمية الجهوية والتشغيل، وتسبب ذلك في جروح بليغة لعديدين بين من فقد عينا واحدة، ومن فقد البصر كليا، وتمت ممارسة العنف الشديد والإيقافات الجماعية عليه، ومنعه من التظاهر في معقل الثورة في شارع الحبيب بورقيبة في 9 إبريل/ تيسان 2012... بالإضافة إلى الشباب الذي ما زال يواجه المحاكم بتهم إحراق مراكز الشرطة، أو غيرها من المؤسسات الممثلة للسلطة في أثناء الثورة، والذي تواجهه أحكام قد تصل إلى عشر سنوات سجنا... هذا الشباب الذي أصبح يختار بين خيارات محدودة، بين البطالة والعدمية في تونس، أو قوارب الموت والهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، أو التوجه إلى الجبل وحمل السلاح، ومن ثمة التسفير إلى بؤر القتال في ليبيا وسورية والعراق. غفل الغنوشي عند ذكره المحرك الحقيقي للثورة الشباب أن يحلل هذه الوضعية البائسة التي أصبح الشاب التونسي لا يجد منها مهربا، ولا سبيلا.
هذا الخطاب الوردي والرومانسي مخيف. الخوف من أن ننسى. ننسى أسباب خروجنا إلى الشارع في مختلف مناطق البلاد، ووقوفنا أمام عصى الجلاد. ننسى شهداءنا الذين ضاعوا وسط كلماتٍ من قبيل: ثورة الياسمين وثورة سلمية. ننسى الصراعات التي خضناها من أجل الحفاظ على حقوقنا داخل دولة مدنية ديمقراطية. وننسى أن نبحث عن الحقيقة، حقيقة من اغتال وعذب وسرق الشعب التونسي.
من السهل على المرء أن يتفهم تعليقاتٍ شبيهةً، عندما يتلقاها من أصدقاء وزملاء عرب، خصوصا عندما تكون في إطار مقارنات يجرونها مع نماذج عربيّة أخرى، على غرار ما يحصل في سورية وليبيا واليمن. لكن يصعب تفهم هذا الخطاب التبسيطي، عندما ينطق به تونسي.
كانت المحاضرة نوعًا من الرَمنَسَة للثورة، وللمرحلة اللاحقة، والتوافق السياسي بين النخب "العلمانية" والإسلامية، فلم يتطرّق الشيخ الغنوشي إلى النقاشات الطويلة والمعقدة التي رافقت هذا الانتقال الديمقراطي، ولا الضغط المركزي الذي لعبه المجتمع المدني والأطراف التقدمية داخل مجلس النواب، على الرغم من أنهم قلة، في البداية، من أجل التنصيص على مبادئ مركزية (المساواة بين المرأة والرجل، والحفاظ على مجلة الأحوال الشخصية، ومحاولة التنصيص على تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني في الدستور، وغيرها). كما لم يخطر على باله الإحالة على الشهداء الذين دفعتهم الثورة التونسية خلالها وما بعدها. والاغتيالات السياسية التي ذهب ضحيتها السياسيان، شكري بلعيد ومحمد البراهمي. بالإضافة إلى سوسة الإرهاب التي تكاد تمزّق تونس.
اكتفى الغنوشي، في خطابه، بالإشادة بهذا النموذج التونسي الناجح! طغت هذه الصورة البيضاء البسيطة الرومانسية للثورة التونسية على خطاب الغنوشي ومن حوله، كما على النقاشات العامة في الإعلام العربي، وأفلت منها الاهتمام بمقاصد الثورة ذاتها، وغابت عنها آثار هذا المسار الثوري على حياة الإنسان التونسي العادي الذي أصبحت حالته في انحدار من سيئ إلى أسوأ.
كانت كلمة "الحرية" الكلمة المركزية التي استعملها الغنوشي، جنبا إلى جنب "الانتقال
يتم اختزال الاستثناء التونسي دائما، في فكرتي الانتقال السلمي"الديمقراطي" للسلطة، ووجود هامش كبير للحريات العامة والخاصّة، على الرغم من أن الأخيرة لا تنفك تدور في فلك المساومة، كلما طفت إلى السطح مع كل حدث أو قضية ما، على غرار ما حصل أخيرا، ردا على عنوان مسرحية "ألهاكم التكاثر" التي أنتجها المسرح الوطني، وشكل عنوانها ردود فعل قوية من أئمة مساجد محسوبين على التيار الإسلامي، وكذا مجموعات من الشعب، رفضوا تضمين القرآن عنوانا لمسرحية، وتقدموا بشكوى قضائية لإيقاف العمل، وانتهى النقاش باعتذار المخرج وتغيير عنوان المسرحية. وهو ما يذكّرنا بأحداث أخرى، أعادت مبدأ حرية الضمير والحريات الخاصة إلى طاولة النقاش، على غرار حادثة فيلم بارسيبوليس في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وفيلم "لا الله لا سيدي" للمخرجة نادية الفاني، وحادثة المعرض التشكيلي في قصر العبدلية... وغيرها من أحداث تعلقت كلها بتهم المسّ بالمقدس واستفزاز المشاعر الدينية للشعب.
ينحصر، إذن، تقييم المسار الثوري في تونس في الجانب التقني للديمقراطية، ولا ينظر إلى جوهر العملية الديمقراطية ذاتها. ويعيدنا ذلك دائما إلى طرح أسئلة أولية: هل الديمقراطية وسيلة أم غاية عظمى؟ هل كان الهدف الأسمى للحراك الثوري في تونس هو الديمقراطية في ذاتها، أم العدالة الاجتماعية، والحرية بكل أشكالها، بما في ذلك حرية الضمير، والتوزيع العادل للثروات بين الجهات؟
عملية اختزال الديمقراطية في جوانبها التقنية، بما هي آليات لخوض الصراع السياسي سلميًا،
لم تؤثر هذه الظروف الصعبة على عامة الشعب فقط، بل بالأخص على وقود الثورة ذاته، الشباب الذي تمت إزاحته، من أجل أن تستلم "النخب"، ذات الخبرة في الشأن السياسي، مدار الحكم، والذي لم يجد امتدادا لمطالبه في التشغيل والكرامة والعدالة. بل عرف هذا الشباب الثوري نصيبه من العنف في فترة ما بعد الثورة، كما عرفها من قبل. فتم ضربه بـ "الرش" في أحداث سليانة في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، عندما خرج الأهالي للمطالبة بالتنمية الجهوية والتشغيل، وتسبب ذلك في جروح بليغة لعديدين بين من فقد عينا واحدة، ومن فقد البصر كليا، وتمت ممارسة العنف الشديد والإيقافات الجماعية عليه، ومنعه من التظاهر في معقل الثورة في شارع الحبيب بورقيبة في 9 إبريل/ تيسان 2012... بالإضافة إلى الشباب الذي ما زال يواجه المحاكم بتهم إحراق مراكز الشرطة، أو غيرها من المؤسسات الممثلة للسلطة في أثناء الثورة، والذي تواجهه أحكام قد تصل إلى عشر سنوات سجنا... هذا الشباب الذي أصبح يختار بين خيارات محدودة، بين البطالة والعدمية في تونس، أو قوارب الموت والهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، أو التوجه إلى الجبل وحمل السلاح، ومن ثمة التسفير إلى بؤر القتال في ليبيا وسورية والعراق. غفل الغنوشي عند ذكره المحرك الحقيقي للثورة الشباب أن يحلل هذه الوضعية البائسة التي أصبح الشاب التونسي لا يجد منها مهربا، ولا سبيلا.
هذا الخطاب الوردي والرومانسي مخيف. الخوف من أن ننسى. ننسى أسباب خروجنا إلى الشارع في مختلف مناطق البلاد، ووقوفنا أمام عصى الجلاد. ننسى شهداءنا الذين ضاعوا وسط كلماتٍ من قبيل: ثورة الياسمين وثورة سلمية. ننسى الصراعات التي خضناها من أجل الحفاظ على حقوقنا داخل دولة مدنية ديمقراطية. وننسى أن نبحث عن الحقيقة، حقيقة من اغتال وعذب وسرق الشعب التونسي.