الصحافة بين جفرسون وترامب

22 فبراير 2017

توماس جفرسون ودونالد ترامب

+ الخط -
كان الرئيس الأميركي توماس جفرسون (1743- 1826) يقول: "لو ترك لي الخيار بين أن تكون لنا حكومة من دون صحف، أو صحف من دون حكومة، فلن أتردّد في اختيار الثاني". اليوم يقف الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، مهاجماً الصحافة، ويصفها بأنها "عدوة الشعب الأميركي"، فقط لأن بعض وسائل الإعلام الأميركية لم تكف عن انتقاده منذ أن أعلن ترشحه لتولي رئاسة بلاده.
للرد على منتقديه الذين ذكّروه بمقولة جفرسون، واضع الدستور الأميركي، استشهد ترامب، بمقولة أخرى لجفرسون يقول فيها "لا يمكن أن نصدّق كل ما يكتب في الصحافة"، ليصب جام غضبه على ما أصبح يسميها صحافة "الأخبار الملفقة"، مع استثناء بعض وسائل الإعلام الموالية له، وكلها محافظة يملكها أصدقاء له أو مقرّبون منه أو رجال أعمال لهم مصالح في دعمه ومساندته.
ما بين جفرسون وترامب ليس فقط نحو 200 سنة مسافة زمنية في التاريخ، وإنما مسافة أكبر تقدر بآلاف الأميال في طريقة التفكير وتصور دور الصحافة. كان جفرسون يرى في الصحافة عاملا مساعدا في الحكم، بينما اتخذ ترامب من الهجوم عليها أسلوبا في الحكم، ما حدا برئيس الوزراء الأسترالي، مالكولم ترنبول، إلى تنبيهه إلى أن لا يُضيِّع وقته في انتقاد وسائل الإعلام، مستشهدا بمقولة لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق، ونستون تشرشل، الذي قال مرة إن "السياسيين الذين يشتكون من الصحف مثل بحار يشتكي من البحر".
ويكاد يكون هذا هو واقع ترامب اليوم، إنه يغرق في أمواج البحر الذي حمله إلى سدة حكم بلاده. بما أن وصوله إلى رئاسة أميركا، يُعزى، في جانبٍ منه، إلى دور وسائل الإعلام التي ركّزت عليه منذ بدأ حملته الانتخابية أكثر من غير من منافسيه، لأنها وجدت فيه مادة صحافية مثيرة. وهناك اليوم من يحمّل وسائل الإعلام الأميركية جانباً من المسؤولية في انتخاب الرئيس الذي تنتقده وينتقدها.
خطأ ترامب أنه حوَّل وسائل الإعلام التي ساهمت في انتخابه إلى عدو له منذ اليوم الأول 
لدخوله البيت الأبيض، ووصفها بأنها "حزب المعارضة" قبل أن يصنفها بأنها "عدو الشعب الأميركي". هذا التهجم من رئيس أميركي على وسائل إعلام بلاده غير مسبوق في التاريخ الأميركي، إلى درجة دفعت النائب الجمهوري، أي من الحزب الذي ترشح ترامب باسمه ، جون ماكين إلى التحذير من "دكتاتورية" ترامب، عندما قال إن الهجوم على الصحافة هو "بداية صناعة الديكتاتور"، موضحا قوله إن "المجتمعات الديموقراطية بحاجة إلى إعلام حر، وإذا سمحنا بتقييد الإعلام، سنفقد حرياتنا الشخصية بالتدريج. ومن هنا، تبدأ صناعة الدكتاتور".
حرية الصحافة هي المعيار الذي باتت تُقاس به درجة ديمقراطية المجتمعات والدول، لأن التعدّدية الحزبية يمكن أن تكون شكليةً، لا تعكس التعدد الحقيقي داخل المجتمعات. والانتخابات يمكن أن تكون صورية أو مزورة أو تتحكّم فيها لوبيات المصالح وأصحاب المال والأعمال، والتنوع قد يكون مزيفا، الهدف منه هو التمويه على نمط الفكر الأحادي الذي تُحكم به بعض المجتمعات. لكن لا يمكن الحديث عن حرية الصحافة، إلا في ظل وجود صحافة حقيقية وحرة فعلا، قادرة على الانتقاد ومخاطبة الناس بلغةٍ واقعيةٍ يلمسونها في حياتهم اليومية. صحافة قادرة على النقد والانتقاد وتمحيص المعلومة وتقصّي الحقيقة. صحافة يحسّ المواطن بأنها هي محاميه، ولسان حاله، وتنظر إليها السلطات الأخرى بأنها سلطة حقيقية، "سلطة مضادة" وليس بالضرورة "سلطة معارضة"، أي السلطة التي تحرس المصلحة العامة، ولا شيء غير المصلحة العامة.
دور الصحافة الحرة هو أن تكون "سلطة مضادة" تقف في وجه كل السلطات الأخرى
التقليدية، عندما تريد أن "تتغوّل". إنها بمثابة "منبّه" لدقّ ناقوس الخطر قبل فوات الأوان. لذلك، قال ماكين إن على الشعب الأميركي التعلم من تجارب التاريخ، فأغلب الدكتاتوريات التي عرفها التاريخ وأكثرها بشاعة ودموية بدأت بقتل حرية الصحافة، وتحويلها إلى "بروباغندا" لتخدير شعوبها.
في آخر لقاء له مع الصحافة ذكَّر الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، الصحافيين بالرسالة الجوهرية للصحافة في الأنظمة الديمقراطية، والمتمثلة في مراقبة عمل السلطات الأخرى. وإذا كانت حرية الرأي والتعبير أصل الحريات، فإن حرية الصحافة تكاد تعتبر اليوم بأنها جوهر كل الحريات، لأنها التي تتيح للحريات الأخرى التعبير عن نفسها. وأكثر من ذلك، هي التي تتصدّى لحمايتها والدفاع عنها في حال تعرّضها لأية مضايقات من أية سلطة كانت.
سبق أن كتبت في "العربي الجديد" أن حرب ترامب مع الصحافة بالكاد بدأت، والمقبل من الأيام سيكشف عن كثير من تطورات هذه العلاقة التي بدأت متوترةً، ولن تنتهي بسلام، فترامب نَبَش عُشَّ الدبابير، وعليه أن يتوقع رد فعلها وهجومها عليه، وهو الآخر بالكاد بدأ.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).