القدس من "أوسلو" إلى إعلان ترامب.. واقع وتحديات

29 ديسمبر 2017

مشهد من البلدة القديمة في القدس، 19/12/2017 (فرانس برس)

+ الخط -
أثار إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القدس عاصمة لإسرائيل، موجة من الاحتجاجات في العالم ومواجهات مباشرة مع الفلسطينيين. وقد جاء هذا الإعلان بعد ضعف عربي وفلسطيني في مواجهة تهويد القدس منذ إعلان المبادئ بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، المعروف باتفاقية أوسلو. وإعلان الرئيس ترامب ما هو إلا محاولة منه لتكريس الإقصاء المدروس للقدس في "أوسلو"، وعدم طرحها في المفاوضات، أي فرض حل من جانب واحد، وليس كما نصت عليه اتفاقية أوسلو التي أنهكت المدينة المقدسة وسكانها الفلسطينيين في كل المجالات الحياتية. وإعلان ترامب ما هو إلا تأكيد على فرض الأمر الواقع في القدس الذي سعت إليه "أوسلو"، وهو بتغيير الوضع القائم في القدس بفرض تغيير الوضع الديموغرافي، الاقتصادي والسياسي، في المدينة، لكي لا تتم مناقشة ملف القدس في أي مفاوضات مستقبلية.
القدس عاصمة إسرائيلية أمر مرفوض فلسطينيا ودوليا، ومخالف أيضا لكل القوانين الدولية، خصوصا عندما نتحدث أن القدس الشرقية مدينة محتلة، وتحت حماية القانون الدولي الذي لم يحترمه ترامب بنفسه. ويتبين أن إقصاء مدينة القدس من اتفاقية أوسلو في العام 1993 أدّى إلى تسريع عملية تهويدها المستمر، من دون أي رادع فلسطيني، أو عربي، ما مهد الطريق إلى إعلان ترامب عنها عاصمة إسرائيلية، مستفيدا بذلك من أن القدس تحولت لمدينة مجزّأة، بحدود غير معلنة، الأمر الذي ازدادت وتيرته منذ اتفاقيات أوسلو، فلولا التهويد المستمر لشرقي القدس، بفعل السياسات الكولونيالية الاستيطانية الإسرائيلية، والغياب القيادي الفلسطيني عن الساحة المقدسية، لما استطاع ترامب أن يعلن المدينة عاصمة إسرائيلية، على الرغم من معارضة قوية من غالبية دول العالم.

عزل القدس عن محيطها
منذ اتفاقيّة إعلان المبادئ بين منظمة التحرير وإسرائيل في 1993، اتبعت الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة سياساتٍ ممنهجةً لضمّ شرقيّ القدس إلى سيادتها الكاملة، ما يتناقض مع كلّ المواثيق الدوليّة المتعارف عليها. حيثُ تسعى تلك السياسات إلى محاولات ضمّ القدس الشرقيّة للسيادة الإسرائيليّة بدون سكّانها الفلسطينيّين، أي بتفريغها من سكانها بالتهجير الصامت. وتفيد الأبحاث العديدة بأنّ إسرائيل انتهجَت منذُ اتفاقيّة أوسلو، وما تبعها من اتفاقيات فلسطينية إسرائيلية، سياساتٍ كولونيالية استيطانية لفصل القدس عن الحيّز الفلسطينيّ من النواحي الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، بواسطة سياسات إقصاء ممنهحة، في تهجير صامت للمقدسيّين من الأحياء المجاورة للقدس. وقد أتاح إقصاء مدينة القدس من اتفاقيّات أوسلو لإسرائيل فرصة لعزل القدس الشرقيّة عن الحيّز الفلسطينيّ، وضمّها لسيادتها الكاملة من دون سكّانها المقدسيّين، أي بواسطة سياسة تهجير كولونياليّ صامت يهدف إلى الحدّ من عدد المقدسيّين في المدينة، فأصبحت القدس العربية التي كانت عاصمة فلسطين الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة شبه منفصلة عن حيّزها الفلسطيني، جرّاء السياسات الإسرائيليّة التي يعزّزها أخيرا إعلان ترامب.

وعلى الرغم من أنّ "أوسلو" كانت أملاً لكثيرين، إلا أنها تركت موضوع البتّ في ملفّ القدس إلى مراحل الحلّ النهائيّ، حيث سرعان ما تبيّن أنّ استراتيجيّة إقصاء القدس من هذه الاتفاقيّة كانت دبلوماسيةً أميركية – إسرائيليّةً، تسعى إلى تكريس الاحتلال للقدس الشرقيّة، وقد ترتّبت عن إقصاء القدس الشرقية من اتفاقية أوسلو نتائج وخيمة على المدينة ومستقبلها، فقد فصلت القدس بشكل غير مُعلن عن محيطها الفلسطينيّ الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ. وقالت وزيرة شؤون القدس السابقة، هند خوري، لصاحب هذه السطور، إنّ "أوسلو" كانت "بمثابة تقطيع أواصل الشعب الفلسطيني وإضعافة. ورسّخت فصل القدس عن بيت لحم وعن الضفّة الغربيّة، وأضعفت التواصل الاجتماعيّ لأهل القدس مع سائر المجتمع الفلسطيني".
ازداد الأمر تعقيدا في القدس، بعد بناء جدار الفصل العنصريّ. تدلُّ نتائج بحث أجريته، على أنّ بناء الجدار العنصري فصلَ بشكلٍ فعليٍّ الكثير من أحياء المدينة العربيّة عن مركزها التجاري والحياتي اليومي، ما يجعل المدينة مقسّمة بشكل غير مُعلن، فقد رسّخ جدار الفصل العنصريّ البعد الاجتماعيّ والاقتصادي في القدس، وأبعدها جغرافيًّا عن محيطها الفلسطيني الطبيعيّ. لقد حوّل جدار الفصل العنصري أحياء القدس الشرقيّة إلى أجزاء عديدة منفصلة عن قلب مدينة القدس، حيث الحواجز والصعوبات العديدة التي تعيقُ حريّة الحركة، والوصول إلى المدينة. كان لجدار الفصل العنصري تأثير على العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة في القدس، حين فُصلت عائلات كاملة عن محيطها المقدسيّ الطبيعيّ.
يبدو أنّ محاولات تفريغ القدس من سكّانها الفلسطينيّين كانت بطرقٍ كولونيالية أخرى، حيث تفيد معطيات وزارة الداخليّة الإسرائيليّة بأنه تمّ سحب إقامات 14200مقدسيّ حتّى العام 2013. بالإضافة إلى ما ذكرته الخبيرة في شؤون القدس، بروفيسورة نادرة شلهوب كوفيركيان، عن ازدياد ظاهرة الأطفال غير المسجّلين في القدس، والتي وصلت إلى الآلاف، كظاهرة جديدة من أشكال تفريغ القدس من سكّانها. أما عمليّات التهجير الممنهجة والصامتة، فقد استمرّت في القدس بواسطة عدم منح تراخيص البناء، حيث كانت 9% من إجماليّ تصاريح البناء التي منحت في المدينة في السنوات الأخيرة من نصيب المقدسيّين، أمّا غالبيّة التصاريح فقد منحت في بيت حنينا، وليس في أنحاء استراتيجية أخرى من المدينة. هذا بالإضافة إلى دفع مبالغَ طائلة للحصول على رخص البناء، حيث وصلت كلفة رخصة البناء إلى مبالغ بلغت ثلاثين ألف دولار. وقد جعلت هذه العوائق الخياليّة التي تفرض على المقدسيّين من أجل الحصول على رخص بناء، تضطرهم، في بعض الأحيان، إلى البناء غير المرخّص أو الهجرة إلى الأحياء المقدسية المهمشة.
وكانت محاولات تفريغ القدس من سكّانها أيضًا بواسطة السياسيات العنصريّة لبلدية القدس التي لا تقدّم أيّ خدمات لأحياء كثيرة تقع في حدودها الإداريّة. حيث تسعى السياسات الإسرائيليّة إلى فصل بعض الأحياء العربيّة عن القدس، من دون ضمّها إلى إسرائيل أو الضفّة الغربيّة، ما أوجد واقعا معيشا من دون خدمات، وعلى هامش المجتمعين، الإسرائيليّ والفلسطيني. فهناك أحياء مقدسية فلسطينيّة مفصولة بشكل كامل عن القدس، بواسطة سياسات فصل عنصريّة، مثل كفر عقب، شعفاط، رأس خميس، رأس شحادة وضاحية السلام (عناتا). يسكن في هذه الأحياء اليوم ما يقارب 150 ألف فلسطيني مقدسيّ، من دون أيّ خدمات ملموسة من بلديّة القدس، أو من السلطة الوطنية الفلسطينيّة، وهم معرّضون لفقدان حقوقهم القانونية.

واشتملت سياسات التهجير الصامت على الجانب الاقتصادي في القدس، حيث عزلت اتفاقيّة أوسلو القدس اقتصاديًّا عن الضفّة الغربيّة وغزّة. وتاريخيًّا، كانت القدس المركز الاقتصادي لفلسطين، حيث إنّ اقتصادها قبل "أوسلو" شكّل 15% من إجماليّ الاقتصاد الفلسطيني، أي ما يقارب 250 مليون دولار في عام 1990. أمّا فترة ما بعد "أوسلو"، فقد تميّزت بخسارة القدس ملايين الدولارات السنويّة، نتيجة مباشرة لبناء جدار الفصل العنصري، وصعوبة الحصول على تصاريح للتجّار الفلسطينيّين لدخول المدينة. هذا بالإضافة إلى الديون الطائلة التي على التجار المقدسيّين دفعها لبلدية القدس، وأدّت إلى إغلاق محلات تجاريّة كثيرة. فعلى سبيل المثال، انخفض عدد محلّات الخزف الفلسطيني بشكل ملحوظ بسبب الضرائب الكبيرة المفروضة على أصحابها. وبحسب مؤسّسة المقدس لتنمية المجتمع في القدس، أغلقت ما يقارب خمسة آلاف محل تجاري في القدس أبوابها منذ العام 1999. وأدى هذا الأمر، بشكل مباشر، إلى نزوح تجار مقدسيّين كثيرين إلى الضفّة الغربيّة، بيت لحم، أريحا والخليل، للاستثمار هناك بدلًا من القدس. ويبدو أيضا أنّه نتيجة للحواجر المختلفة، وفصل الأحياء العربيّة عن المدينة بواسطة الجدار، انخفضت أيضًا نسبة المتسوّقين الفلسطينيّين في المدينة. هذا بالإضافة إلى عدم تطوير مناطق صناعيّة عربيّة في القدس، مثل وادي الجوز وغيرها، ما أرغم رجال أعمال من القدس على الاستثمار في مناطق صناعيّة يهوديّة في القدس، مثل ميشور أدوميم وعطاروت، أو الاستثمار في مناطق فلسطينية أخرى.

إغلاق مؤسّسات المجتمع المدني
بالإضافة إلى الفصل الكولونيالي الممنهج للقدس عن محيطها الفلسطيني، اقتصاديًّا واجتماعيًّا، أغلقت الحكومة الإسرائيلية، في سنوات ما بعد "أوسلو"، عشرات من مؤسّسات المجتمع المدني الفلسطينيّ في شرقيّ المدينة، أبرزها بيت الشرق، رمز القيادة الفلسطينية في القدس. وذلك على الرغم من أن اتفاقيّة "إعلان المبادئ" نصّت على الحفاظ على المؤسّسات الفلسطينيّة في القدس. كما جاء ذلك في مكاتبات يوغان هولتس، وزير الخارجيّة السويسري، وشيمون بيريز، وزير الخارجيّة الإسرائيلي آنذاك. رغم وثيقة هولتس، فبعد أوسلو مباشرة، سنّت الكنيست الإسرائيليّ في عام 1994 قانونًا يقضي بإغلاق مؤسّسات فلسطينيّة في القدس التي لها أي صلة مع السلطة الفلسطينيّة. تشير الإحصائيّات المختلفة إلى أنّ العشرات من المؤسّسات الفلسطينيّة في القدس أغلقت، مثل جمعيّات إغاثة، مؤسّسات سياحيّة واقتصاديّة، مؤسّسات إعلاميّة، وخدماتيّة، وثقافيّة، ومراكز شبابيّة ونسويّة، مؤسّسات ترعى شوؤن الأسير الفلسطيني ومؤسّسات أخرى، مثل مسرح القصبة، اتّحاد الكتّاب ونقابة الإعلاميّين في القدس. تورد تقارير جمعيّة الدراسات العربيّة أنّه تم إغلاق أكثر من 60 مؤسّسةً في القدس منذ اتفاقيّة أوسلو، ونقلت مؤسّساتٌ كثيرة مكاتبها إلى رام الله، أو خارج حدود بلديّة القدس.
بعد أن أغلقت الحكومة الإسرائيليّة عشرات من المؤسّسات الفلسطينيّة في القدس، تمّ تفريغ القدس من القيادة السياسيّة الفلسطينيّة. وتفيد نتائج بحث أنجزه صاحب هذه السطور بأنّ إسرائيل لم تسمح بعد وفاة عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير، ومسؤول ملف القدس فيها، فيصل الحسيني، في العام 2001، وأول وزير فلسطيني للأوقاف، الشيخ حسن طهبوب، في العام 1998، ببروز قيادة فلسطينيّة في القدس، ما أدّى إلى فراغ قياديّ وسياسي في
أوساط المقدسيّين. فالقيادة الحالية المتمثّلة بمحافظ ووزير القدس الفلسطيني، عدنان الحسيني، لا يسمح لها بالعمل المباشر من داخل المدينة، فالرجل يعمل من خارج القدس، من الرام، ما يدلّ على إقصاء ممنهج أوجدته اتفاقية أوسلو للقيادة الفلسطينيّة وللوجود السياسي الفلسطيني في المدينة. وقد أدى غياب القيادة الفلسطينية إلى سيطرة اليمين الإسرائيليّ على دائرة القرار بخصوص ميزانيّات القدس الشرقيّة. كما أدى هذا الغياب القيادي والسياسي الفلسطيني في القدس أيضًا إلى دخول لاعبين جدد الحلبة السياسيّة المحليّة، مثل الحركة الإسلاميّة ونواب القائمة المشتركة. على الرغم من ذلك، استطاعت مؤسسة الأوقاف الإسلامية والمرجعيات الدينية في المدينة إيجاد قيادة محلية في المدينة تحدت السيادة الإسرائيلية، وفرضت أمرا واقعا، أجبر الحكومة الإسرائيلية على إزالة البوابات الإلكترونية التي وضعت على بوابات المسجد الأقصى، بفضل المقدسيين، والهبة الشعبية المحلية.
ويذكر أيضا أن إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، اعتراف بلاده بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، يناقض بوضوح اتفافية السلام (وادي عربة) بين الأردن وإسرائيل التي تم توقيعها عام 1994، والتي تنص على رعاية الأردن للمقدسات الإسلامية والمسجد الأقصى، ما يطرح السؤال ما إذا كان ترامب يعلم مضمون تلك الاتفاقية، والبنود فيها التي تتعلق بالقدس، أو أنه حتى لا يعير أي أهمية لتلك الاتفاقيات.
يناقض إعلان ترامب كل المواثيق الدولية والعالمية المتعارف عليها، وينافي حل الدولتين، الفلسطينية والإسرائيلية، الذي تتمسك به غالبية دول العالم. فما قام به ترامب الآن هو ما خططت له إسرائيل حين استطاعت إقصاء القدس من اتفاقيات أوسلو، بغرض فرض حقائق على أرض الواقع التي ما زال المقدسيون يتحدونها يوميا. وسيفتح إعلان ترامب أيضا ملفات اتفاقية وادي عربة مع الأردن من جديد، وسيفتح الحوار بشأن مصداقية القوانين والمواثيق الدولية بخصوص القدس وغيرها.
EA8E2953-5F84-4D15-9510-08F82D163FD3
EA8E2953-5F84-4D15-9510-08F82D163FD3
منصور النصاصرة

باحث فلسطيني، محاضر في العلاقات الدولية في جامعة بئر السبع. عمل مدرسا في جامعة إكستر البريطانية، وقد نال منها الدكتوراة في العلوم السياسية. له بالانجليزية كتابا "عرب النقب: 100 عام من السياسة والنضال"، و"النقب والكولونيالية".

منصور النصاصرة