أزمة الدولة الريعية الجزائرية

03 نوفمبر 2017
+ الخط -
تعتبر الدولة في الجزائر ريعية بامتياز، إذ تعتمد، في نشاطها الاقتصادي، على مورد طبيعي أحادي لتوليد الدخل، أي أنها تعتمد على صادرات البترول والغاز التي تمثل حوالى 90% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، مصدراً أساسياً في كل مداخيل الدولة من العملة الصعبة، الأمر الذي جعل المجتمع الجزائري يعتاش على مصروفات هذه الدولة الريعية، أو على الإنفاق العام الذي يتحول إلى قناة لضخ الدخل الوطني، فتتضاءل حاجة الدولة لفرض ضرائب على دخول المواطنين في مقابل تصاعد اعتماد المواطن على الدولة، للحصول على الدخل والخدمات العامة، ويسبب ذلك خللاً في العلاقة بين السلطة السياسية والمواطنين، بينما نجد، في المجتمعات الرأسمالية الغربية، أن الجزء الأكبر من ميزانية الدولة يقوم على دافعي الضرائب. وتكمن الإشكالية اليوم، منذ بدء تراجع أسعار النفط في منتصف عام 2014، في تداعيات هذا التراجع على موازنة الدولة الجزائرية، إذ أصبح الاقتصاد الجزائري يعيش أزماتٍ متواصلة، فارتفعت حدة المشكلات الاقتصادية أخيراً مع زيادة الأسعار، في مقابل تراجع القدرة الشرائية للمواطنين.
وقد برز، في الدولة الريعية الجزائرية، عدم تناظر سياسي بين الدولة والشعب. فالدولة تراكم الثروات، ولا توفر فرص عمل. وليس إيجاد الثروات شاغل الدولة الجزائرية، فهذه تخشى 
انحسار احتكارها توزيع الريع. وهي تستسيغ التعامل مع العاطلين من العمل، أو العاملين في مهنٍ لا تؤمن كفاف العيش، فإرضاء هؤلاء من طريق توفير مساكن لهم، أو منحهم إعانات غذائية، يسير. وتحول الدولة الريعية الجزائرية دون بروز طبقة اجتماعية رأسمالية تنتج الثروات، وتحوز، تالياً، هامش استقلال عن الدولة، وتباشر مساءلة السلطة. وتسهم العائدات النفطية الضخمة التي حصلت عليها الجزائر في تثبيت الدولة الريعية الفاسدة، لأن نصف الأموال والمخصصة للتنمية كانت تنتهي في الحسابات الخاصة لبعض القادة السياسيين والعسكريين والأمنيين المتنفذين داخل الطبقة السياسية الحاكمة، في مصارف في دول أوروبية.
وجدير بالذكر أن من السمات البارزة للاقتصاد الجزائري التي تستحق اهتمامًا خاصًا في ما يتعلق بالفساد، الاعتماد بصورة رئيسة على الدخل الريعي الذي قوامه الإيرادات النفطية، والفوائض المالية في مؤسسات القطاع العام، وأخيرًا الريع المستمد من تشوهات السياسات الاقتصادية، كاحتكارات الدولة وبعض أشكال الحماية التي تدرّ منافع استثنائية لخزينة الدولة، أو لمؤسسات القطاع العام. ومن خصائص الإيرادات الريعية أنها تنتج عن امتلاك الدولة مورداً أو ثروة استثنائية بحكم السيادة، وأنها تؤول إلى خزينة الدولة تلقائيًا، ومن دون الاعتماد على رضا أو تعاون أي طرف آخر في المجتمع، كما الحال مثلاً في الإيرادات الضريبية.
ومن طبيعة الدخل الريعي أنه يؤول إلى خزينة الدولة مباشرة، من دون أن يمر بقنواتٍ قد تعرّضه للمحاسبة والمساءلة، فمعظمه نتاج اتفاقيات تعقدها الدولة عن طريق شركة سوناتراك مع جهات خارجية (النفط والغاز)، بعيدًا عن الشفافية والمراجعة من الكيانات السياسية النيابية. وفي ظل الدولة التسلطية الجزائرية، تصبح ملكية العوائد الريعية والتصرّف فيها مصدرًا حاسمًا لتعزيز قوة النظام، وتمكينه من تخصيص الموارد الضخمة لحماية نفسه وإدامة حكمه، فقد لخص الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، في خطاب طويل توجه به إلى مواطنيه في 27 أبريل/ نيسان 1999، قضية الفساد في الجزائر بقوله إن الجزائر "دولة مريضة بالفساد"، و"مريضة في إدارتها، مريضة بممارسات المحاباة، ومريضة بالمحسوبية والتعسف بالنفوذ والسلطة، وعدم جدوى الطعون والتظلمات، مريضة بالامتيازات التي لا رقيب عليها ولا حسيب، مريضة بتبذير الموارد العامة بنهبها بلا ناهٍ ولا رادعٍ".
على الرغم من هذا التوصيف الدقيق لواقع الفساد المستشري في الدولة والمجتمع الجزائريين،
 شابت الولايات الأربع لحكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ظاهرة الفساد التي طغت على الحياة العامة في الجزائر، وزاد من انتشارها ارتفاع أسعار النفط، ومعها فاتورة الواردات. تكشف ذلك التقارير عن شركة سوناتراك، باعتبارها المحور الرئيس لقضايا الفساد المحلية والدولية، حيث عجز القضاء الجزائري عن تحقيق أي نتائج، على الرغم من قضايا الفساد الكثيرة. ويحقق القضاء في قضايا فساد تتعلق خاصة بشركة النفط العمومية سوناتراك التي سجلت مداخيل تصل إلى 700 مليار دولار، منذ وصول بوتفليقة إلى الحكم عام 1999. وفي الملف أسماء مسؤولين سياسيين يعدّون من المقربين للرئيس.
الأزمة الاقتصادية الراهنة مرآة كاشفة عن أفول الدولة الريعية الجزائرية، بعد أن اتضحت العلاقة الطردية بين الارتفاع النسبي للعائدات الريعية في الجزائر من ناحية وتدني مستوى الأداء الاقتصادي من ناحية أخرى. أضف إلى ذلك، أن الآليات التي تحكم هذه العلاقة يمكن استشفافها من أن تضخم الجهاز الحكومي البيروقراطي الجزائري، وهيمنة أجهزة الدولة البيروقراطية على النشاط الاقتصادي، نابعان من توافر الموارد الريعية، ومن حرص أجهزة الدولة على حماية النظام والإبقاء عليه، الأمر الذي يرتبط بضعف الإطار المؤسسي لممارسة العمل الديمقراطي، وغياب الشفافية والمساءلة.
ويؤدي هذا الوضع، بطبيعة الحال، إلى انتشار الفساد وتشويه السياسات والقرارات الاقتصادية. ومن نافل القول، في مثل هذه الوضعية، أن يتزامل الفساد مع طبيعة الاقتصاد الريعي، بوصفه اقتصادًا غير منتج. ولا تدعو الدولة الجزائرية الريعية مواطنيها إلى العمل، ولا تحفز العمل وسوقه، وليست معنيةً ببناء اقتصاد وطني منتج ومستقل، عكس ما هو حاصل في بلدان جنوب شرق آسيا.
E8457B4F-E384-4D2B-911B-58C7FA731472
توفيق المديني

كاتب وباحث تونسي، أصدر 21 كتاباً في السياسة والفكر والثقافة