هل تقود الأزمة الاجتماعية إلى ثورة تونسية ثانية؟

18 أكتوبر 2017

احتجاج ضد قانون المصالحة الاقتصادية في تونس (16/9/2017/Getty)

+ الخط -
أعاد موضوع الهجرة غير الشرعية للشباب التونسي الذي يبحر عبر قوارب الموت للوصول إلى السواحل الإيطالية، بحثًا عن الفردوس الموعود في البلدان الغربية، المسألة الاجتماعية إلى الواجهة الرئيسية في المشهد السياسي التونسي. فقد أصبحت التحركات الاحتجاجية هي الأسلوب والمتنفس الوحيد للشباب الذي يشكل 30% من المجتمع التونسي، لحل مشاكله الاجتماعية، فقد تطور منسوب الاحتجاجات الاجتماعية في كل المناطق التونسية، لتبلغ خلال التسعة أشهر الأولى من سنة 2017 أكثر من ثمانية آلاف احتجاج نتيجة التدهور الكبير للمؤشرات الاقتصادية الرسمية، مع ارتفاع نسب الفقر والفقر المدقع والبطالة وتضخم حجم الديون مقارنة بالناتج الداخلي الخام، إضافة إلى الارتباك السياسي في التعاطي مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة، وغياب الحرفية والخطاب المطمئن حول مستقبل البلاد.
وقد لوحظ في تونس، خلال السنوات السبع بعد ثورة يناير 2011، اتساع ظاهرة الهجرة غير الشرعية بشكل كبير إلى السواحل الأوروبية الجنوبية، في ضوء تفاقم المشكلات الاجتماعية التي أصبحت معقدة أكثر، وتبخر آمال الشباب التي تاهت وسط المعارك السياسية في ظل تواصل منوال التنمية القديم نفسه، وتواصل تهميش الجهات الداخلية وإفقارها. وقد وضعت الدول الأوروبية الجنوبية قيودًا شديدة على الهجرة غير الشرعية القادمة من الضفة الجنوبية، لأنها أصبحت تشكل خطورة كبيرة على حياة الشباب المهاجر، حيث غالبًا ما تتم هذه الهجرة عبر قوارب صغيرة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى غرق وموت محقق لعدد من هؤلاء المهاجرين، غير أن الهجرة غير الشرعية للشباب التونسي استمرت بقوة.
وتعود أسباب ظاهرة الهجرة التونسية غير الشرعية إلى الدول الأوروبية الجنوبية إلى التباين الواضح بين المستويين الاقتصاديين في الدولة التونسية الطاردة لشبابها والدول الأوروبية المستقبلة، وهو نتيجة غياب منوال تنمية جديد، تنتهجه الدولة التونسية في مرحلة ما بعد الثورة، التي لايزال اقتصادها يعتمد على السياحة والفلاحة، وهما قطاعان لا يضمنان استقرارًا للتنمية، لارتباط الأول بأحوال البلدان الأوروبية، والثاني بالأمطار. إضافة إلى ذلك، تعتبر البطالة إحدى أخطر المشكلات الاجتماعية التي تواجه الحكومات التونسية المتعاقبة منذ سنة 2011. وتقدر نسبة البطالة في تونس بين 15% و17%، ما يزيد عدد العاطلين عن العمل إلى مليون نسمة، ما يقطع بأن البطالة أحد الأسباب القوية لتنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية للشباب التونسي إلى أوروبا.
وتتعرض الحكومة التونسية لانتقادات كبيرة من الأحزاب السياسية المعارضة ومنظمات 
المجتمع المدني، من جراء تطبيقها الحلول الأمنية المنتهجة في التعامل مع الهجرة غير الشرعية، والتي تتم بضغط من الاتحاد الأوروبي الذي يسعى إلى أن تكون تونس حارساً لسواحله الجنوبية، إضافة إلى الفشل الذريع في السياسة الاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً في مجال التشغيل ورعاية الفئات الهشة.
أغرقت الثورة التونسية بعضهم في التفاؤل القائم على التمنيات، وليس على الوقائع، فقد ظلت أركان الدولة الوطنية التي أرساها الزعيم الراحل، الحبيب بورقيبة، راسخة، فلم تتغير بانتقال السلطة إلى زين العابدين بن علي في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، الذي استمر في السلطة 23 عامًا، ومع خلعه في 14يناير/ كانون الثاني 2011، استمرت الدولة البورقيبية، على الرغم من تغير النخب الحاكمة، وكان من عجائب هذه الثورة، أن ينتخب الشعب التونسي أحد أركان نظام بورقيبة رئيسًا للجمهورية، في أول انتخابات رئاسية، وانتخاب حزب نداء تونس الحزب الأول في الانتخابات التشريعية، علمًا أنّه يُعَدُّ استعادة ثأرية لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي، المنحل في مارس/ آذار 2011، فلا هذا الرئيس قادر على إعادة بناء الدولة الوطنية التونسية في عهد الجمهورية الثانية، ولا الائتلاف الحاكم المتكون من حزبي نداء تونس والنهضة، الذي يعتنق الليبرالية الاقتصادية، وينتهج التبعية للغرب، قادر على إصلاح النظام الاقتصادي الذي يقود إلى إصلاح النظام الاجتماعي، فلا يجوز للحكومة التونسية أن تظل متمسكة بالنموذج الاقتصادي نفسه الذي أثبت إفلاسه تاريخياً، ولم يعد قادرًا على أن يحقق التنمية الاقتصادية المستدامة.
ولكن الحكومة التونسية مطالبة بإحداث تغيير حقيقي وجوهري في منوال التنمية، يعتمد على الطبقة الوسطى، بوصفها تمثل العمود الفقري للمجتمع التونسي، وبلورة برامج التنمية الاقتصادية التي تحقق أهداف الثورة في التنمية المستدامة، والعدالة الاجتماعية، وتقاسم الثروة مع مراعاة مصالح الطبقات الفقيرة، وإحداث تغيير حقيقي في توازن المكونات الطبقية للمجتمع التونسي، وفي بنية العلاقات الاجتماعية، لمصلحة الطبقة الوسطى باعتبارها رائدة التحديث، والقادرة على بناء ديمقراطية حقيقية وفعلية، وإنجاز برامج التنمية الاقتصادية نحو معطياتٍ تؤدي إلى التماسك الاجتماعي، فهذا النمط من البرامج يجب أن يقوم على تطبيق الحكومة التونسية القانون على كل المتهربين من الضرائب، وعلى أصحاب الثروات، لتوفير موارد إضافية لميزانية الدولة لسنة 2018، حيث لا يلعب هؤلاء الأثرياء دورًا بـارزًا في الاستثمار أو دفع الرسوم والضرائب، في حـــــين أن الموظفين يدفعون أكثر من 80% من الضرائب، ومن غير المعقـول أن يضحي طرفٌ فقط، لأن التضحيات تقسم كل حسب مقدوره، واعتماد إجراءات استثنائية تلزم القطاع غير المنظم، خصوصاً التجارة الموازية، بالمساهمـــــة في
تحمل العبء الضريبي، وبضرورة العمل على إرجاع مستحقات الدولــــة في المجال الضريبي والديواني ومقاومة التهرب الضريبي، وتوسيع الحرب على الفساد لاستخلاص ديون الدولة في ذمة أطراف عديدة، والتي تبلغ سبعة آلاف مليارات الدنانير، والقيام بمعالجة دقيقة وحقيقية لملف الدعم، حتى يستفيد منه مستحقوه، وليس الطبقة الثرية وأصحاب المشاريع الربحية (المقاهي– النزل– المطاعم– المصانع)، والضرب بقوة على أيادي المحتكرين والمضاربين الذين ألهبوا الأسعار، والنظر في أزمة المؤسسات العمومية التي أصبحت عبئاً على الدولة، من دون التسرع في خصخصتها، والانفتاح الاقتصادي الشامل والواسع، وعدم الاكتفاء بالارتباطات التقليدية لتونس في مجالات التصدير والتوريد والسياحة والاستثمار الأجنبي، ومزيد من تحريك الدبلوماسية الاقتصادية في هذا المجال.
تقود هذه البرامج إلى توسيع الطبقة الوسطى، وحماية الطبقات الشعبية الفقيرة ذات الوعي الوطني، واستكمال سيادتها، في مقابل عدم إيلاء كل الأهمية وخدمة مصالح الطبقة الرأسمالية الطفيلية، كما تفعل كل الحكومات التي تعاقبت ما بعد الثروة، والتي أنهكت الطبقات الفقيرة والطبقة الوسطى المطحونة في ظل العولمة الليبرالية بالضرائب، الأمر الذي قاد إلى تدهور أوضاعها المعيشية، ما جعل محللين عديدين يعتقدون أن تونس مقبلة على ثورة اجتماعية ثانية، في ظل تزايد الحركات الاحتجاجية نتيجة تنامي التهميش والإفقار، وسياسة التجاهل التي تعتمدها الحكومة في تعاطيها مع كل الأزمات، خصوصاً الاقتصادية والاجتماعية منها.
E8457B4F-E384-4D2B-911B-58C7FA731472
توفيق المديني

كاتب وباحث تونسي، أصدر 21 كتاباً في السياسة والفكر والثقافة