العرب وزمن ترامب

17 يناير 2017
+ الخط -
بمناسبة حلول "زمن ترامب" الذي يفترض أن يصنع تحولاتٍ كبرى في حضور أميركا حول العالم، وبشكل خاص في حضورها تجاه قضايانا نحن العرب، ربما يكون مفيداً أن نراجع علاقتنا بالزمن الأميركي الأوحد الذي بدأ عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وتفكّك المنظومة الاشتراكية، أي على مدار ربع قرن شهد أحداثاً كبرى في تاريخ العلاقات العربية الأميركية، على الصعد الثقافية، كما على صعيد السياسة.
لقد بدا أن ارتباطاً موضوعياً انعقد بين زمن الأحادية الأميركية و"العودة" إلى الدين، في العالمين العربي والإسلامي، خلال ربع القرن هذا، لأن ما فعله المسلمون العائدون إلى الدين، وهم الذين ظلوا يمثلون أبرز العائدين إلى دينهم في العالم، لم يكن توظيفاً للدين، من أجل التقدم والتأثير في مجريات الأحداث الدولية، بل كان بمثابة احتماء بالدين (بل بما يفهمونه عن الدين) من الهجوم الخارجي الذي رأوه في عصر الأحادية الأميركية، وأراد، بحسب تحليلهم، أن يحرفهم عن دينهم وتقاليدهم، ليسهل له توظيفهم في تحقيق أجندته الشريرة.
وعلى هذا، كان واضحاً أن ما ترافق مع الزمن الأميركي، منذ ربع قرن، لم يكن صعوداً دينياً، وإنما "عودة" إلى الدين، بحسب تعريف أصحابها. بعبارة أخرى، ما لجأ إليه المتدينون، بين المسلمين خصوصاً، وبين كل المتدينين عموماً، إنما كان بمثابة "هروبٍ" إلى ما يعرفونه عن الدين. وما يؤكّد ذلك أن المسلمين العائدين إلى الدين لم يهربوا إلى دينهم، ليستخلصوا ما يناسب عصرهم وقضاياهم، بل هربوا إلى الماضي الذي كان فيه أجدادهم هم المسيطرون على العالم، علّهم يصيرون أقوياء مثلهم!
ليس الموضوع الديني في العالم العربي، إذن، فقهياً في جوهره، ولا يشتغل بالآخرة، بل هو حضاري يُعنى بقضايا الدنيا وطموحات العرب للدخول في التاريخ، ويخطئ من يناقشه من زاوية الطروحات المتعلقة بالأفراد وحياتهم اليومية، ومسائل العبادات والمعاملات، فتلك حين تُطرح لا تكون في الحقيقة مقصودة لذاتها، وإنما لـ"تطبيق شرع الله"، ومن ثم استجلاب النصر الإلهي، تحقيقاً للهدف الحضاري الدنيوي الجمعي.
ولعل هذا ما يفسر أن العرب لم يشتغلوا بالماضوية الدينية، واستدعاء السلف وحسب، بل أيضاً بجمع التراث الاجتماعي وتدوين العادات والتقاليد واستعادتها، مدّعين أنهم يريدون حفظها وحفظ أصالة أمتهم. والحقيقة أن الخوف من مواجهة الحاضر دفعهم إلى تمني العيش في الماضي، أي ماضٍ.
بدت التنظيمات الدموية التي ادعت الانتساب إلى الإسلام مثالاً بليغاً على مواجهة السيطرة الأميركية بالهروب إلى الماضي؛ ذلك أن شدة المواجهة ترتبط طردياً بمستوى التعمّق في الماضي. ولا تزال طروحات تلك التنظيمات تمثّل أكثر الأفكار ماضويةً بين العائدين إلى الدين؛ فهي لا تبشّر فقط بمجتمع الصحابة المتخيّل، ودولته المفترضة، بل يظهر قادتها أنفسهم وكأنهم رجال حضروا من الماضي؛ بلباسهم، ولغتهم، وكناهم. وإذا كانت تلك التنظيمات تمثّل ذروة الرد الماضوي، المستتر بالتديّن، على الخطر الحضاري المحدق، فإن منهجها لم يكن غائباً عن المجتمعات العربية المستسلمة لفكرة "شرعية الماضي"، ولا عن الحركات "الإسلامية" الأخرى التي مثّلت امتداداً "سلمياً" لأفكارها الماضوية، كون هؤلاء كلهم قدّموا الإسلام باعتباره استعادة للماضي، اختلفت درجتها من طرح إلى آخر، من دون أن تختلف فيما بينها في أصل الفكرة الماضوية.
على أية حال، ما جرى لمواجهة الأحادية الأميركية في العالم العربي، هو ذاته الذي جرى لمواجهة الاستعمار الأوروبي منذ منتصف القرن التاسع عشر. لقد أخذ الرد على الهجوم الخارجي، في الحالتين (وإن كانت في حقيقتها حالة تاريخية واحدة، لأن الهجوم الإمبريالي ظل مستمراً منذ الاستعمار العسكري المباشر)، منحىً أيديولوجياً؛ سواء بأدلجة التراث والماضي واعتبارهما (عند المتدينين) نموذجاً للمواجهة، أو من خلال أدلجة الحداثة الأوروبية، وتالياً الثقافة الأميركية، واعتبارها عند آخرين مرشداً بديلاً للتقدم والتحضر والنجاح. هكذا، ظل العرب، في ظل الاستعمار الأوروبي وفي ظل الأحادية الأميركية، رهناً للتبعية لآخرين: سواء عاشوا في زمان سابق، أو يعيشون في مكان آخر، مبتعدين بذلك عن صياغة خطةٍ تصدر من واقعهم، وتعينهم على التعاطي مع عصرهم، لتحقيق مصالحهم!
ولا ريب أن "زمن ترامب" سيكون صعباً وثقيلاً، إذا ظل العرب والمسلمون يتبعون منحاهم في الأدلجة، بديلاً عن فهم الواقع، سبيلاً وحيداً لمناقشة خيارات الحاضر والمستقبل.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.