الثورية تستخدم البيروقراطية

14 يناير 2017
+ الخط -
منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها فريق من السياسيين المصريين اللجوء إلى المسار القضائي لعرقلة اتفاقية جزيرتي تيران وصنافير، انطلقت في وجوههم عبارات التخوين أو التسفيه. تدريجياً، تراجعت تلك الأصوات بعد المسار الذي أخذته القضية، والذي تكلل بحكم تاريخي بمصرية الجزيرتين، وبحيثياتٍ غير مسبوقة. لكن، ظهر تفسير تآمري جديد بأن هذا كله كان مسرحية من البداية، والنظام تعمد خسارة القضية ليتحجّج أمام السعودية.
مشكلة هذا النوع من التفكير هو استمرار ما أسميه "التطهرية السياسية"، حيث السياسة عالم خطي من الأبيض والأسود، والملائكة والشياطين.
نشر في مايو/ أيار 2014 تسريبٌ لمكالمات للرئيس السيسي وقادة آخرين، اشتملت على واقعةٍ ذات دلالات خارقة الأهمية. في المكالمات، يشرح اللواء ممدوح شاهين، مساعد وزير الدفاع للشؤون القانونية، الأهمية القصوى لإنقاذ موقف محاكمة الرئيس المعزول محمد مرسي، التي تعرّضت لخطأ إجرائي، حتى أنه يقول "لو الموضوع ده طعن فيه مرسي، بكرة هيكون في الشارع". نعرف من المكالمات أن مرسي تم احتجازه، في أثناء الفترة الأولى، في معسكر تابع للقوات البحرية في الإسكندرية، وحين ذهب قاضي التحقيق، المستشار حسن سمير، إلى المكان، أثبت وصفه التفصيلي في المحضر، وبالتالي، يمكن لمرسي أن يطعن بأنه كان في مكان احتجاز غير قانوني، فيتم إطلاق سراحه.
قام اللواء شاهين بحل المشكلة، بتحويل مكان احتجاز مرسي إلى سجن تابع للداخلية، بتخصيص مدخل مستقل له، ووضع لافتةٍ مع عساكر أمن مركزي أمامه، ثم تولى "تستيف الأوراق" مع وزير الداخلية، فأصدرا قراراً بتاريخ قديم باعتبار هذا المكان سجناً خاصاً، واعتنى أيضاً بأدقّ تفاصيل دفاتر السجن.
ركّز كل من تناول هذه القصة على تزوير اللواء شاهين، ولم يفكر أحد لماذا هو مضطر لذلك أصلاً؟ لو كان القضاء تحت السيطرة بشكل مُطلق لما تطلب الأمر أكثر من اتصال تليفوني ببساطة.
لدى المعارضة المصرية خبرة بالأحكام القضائية المحرجة للسلطة، بدءاً من مئات الأحكام بعهد حسني مبارك ببطلان الانتخابات في دوائر البرلمان، ومروراً بحكم الحد الأدنى للأجور، أو حكم وقف تصدير الغاز إلى إسرائيل، بالإضافة إلى أحكامٍ ببطلان عقود الخصخصة وعودة المصانع. ومن اللافت هنا أيضاً أن النظام لجأ إلى تعديلٍ قانوني لمنع رفع هذه القضايا من غير طرفيّ العقد، ولا يوجد أحدٌ اتصل بالقضاة بهذه البساطة الكارتونية.
لكن، على الجانب الآخر، بالتأكيد هذا هو القضاء نفسه الذي يبدأ أفراده حياتهم المهنية بالواسطة، والذي أصدر أحكاماً مشدّدة ضد المعارضين، والذي حكم أحد قضاته بالإعدام على 600 شخص، والذي أخرج لنا ناجي شحاتة وأحمد الزند وغيرهما.
لا يمكن التفسير إلا بالتخلي عن التبسيط والاستجابة للمشهد المعقد. لكل مؤسسة في الدولة قوتها المستقلة وانحيازاتها ومصالحها الخاصة، وبيروقراطيتها و"دولتها العميقة"، انتماؤها الأول لذاتها وليس لأي رئيس. وكذلك لا يمكن التفسير من دون الغوص في التفاصيل على المستوى الفردي. بالتأكيد شخص المستشار الدكروري الذي أصدر حكم تيران وصنافير مختلف تماماً عن شخص ناجي شحاتة.
يمكن لقوى المعارضة الاستفادة من الثغرات والتناقضات داخل بنية السلطة، أو الاستفادة من لحظات المصلحة المشتركة، وأهم مشاهدها ثورة يناير نفسها التي أتت لتحقق مصلحة الجيش في إقصاء جناح جمال مبارك. هذه الوسيلة أقوى في الموقف السياسي، لأنها تمنح مزايدة "الحق ما شهدت به الأعداء"، كما تفتح مجالاً لدعم الإصلاحيين داخل المؤسسات، لكنها شائكةٌ وتحتاج ضوابط كثيرة، لأنها تحمل دائماً خطر أن تلجأ إلى المؤسسة أو الشخص الخاطئ، كما كان سيحدث، مثلاً، لو كان حكم أول درجة صدر بسعودية الجزيرتين. كما يحمل هذا الأسلوب خطراً آخر، هو إدمان السقوف المنخفضة، وإدمان البقاء داخل لعبة النظام بقواعده التي يضعها بنفسه، وذوبان من يقترب من محيط الدولة داخله، كما شاهدنا مصير أحزاب ديكورية عديدة في عهد مبارك.
الواقع السياسي غني بدرجات الرمادية، وبكل أوجه التعقيد والتركيب، والمصالح المتضاربة، والدوافع الشخصية أو المؤسسية المتشابكة، واختيار أسلوب المعركة مسألة تخضع للتقدير والاختلاف، والتعقيد والتناقض أيضاً. "ربما ننفق كل العمر كي ننقب ثغرة".
دلالات