شعب جاحد

27 سبتمبر 2016
+ الخط -
أليس من الغباء أن يرفس الشعب السوري نعمة نظامه بقدميه، فيقرّر، ذات "غباء" مطبق، أن يتمرّد على وليّ نعمته، ضارباً عرض الحائط بكل أصناف النعم التي حظي بها عقوداً من حكم "الأسود"؟
يقول اليساريون العرب إن سورية، وحدها، من بين الدول العربية جميعاً التي نجحت في الإفلات من قبضة صندوق النقد الدولي، فلم تعد مدينةً له بفرنك واحد، وهو ما يترتب عليه، بالطبع، عدم الخضوع للإملاءات الخارجية، ذات الطابع الاقتصادي شكلياً، السياسي جوهرياً، ومن ثم لن تستطيع الدول العظمى فرض أجندتها ومصالحها على سورية، فلماذا، إذن، لم يحفظ الشعب السوري لنظامه هذه "الفضيلة" التي تكافح شعوب أخرى بالعرق والدم، للحصول على ربعها؟
ويستطرد اليساريون إياهم: سورية، وحدها، استطاعت تحقيق اكتفاءٍ ذاتي، بالقمح، وغيره من المنتجات الزراعية والنفطية، بل وأصبحت من الدول العربية الأكثر تصديراً للمنسوجات والملبوسات، وأصناف الخضر والفواكه ذات الجودة العالية، فلماذا يمزّق الشعب قمصانه، ويخرج عارياً لإسقاط نظامٍ حقق له ذلك كله، بصدور عارية بادئ الأمر، ثم بالسلاح حين واجهه النظام بآلته العسكرية التي كان يخزنها لـ"تحرير فلسطين"؟
ويؤكّد اليساريون، أيضاً، وهم على حق، أن النظام الأسدي تمكّن، من تحقيق نظام تعليمي متطور، في مدارسه وجامعاته، مع تحقيق مجانية التعليم لكل سوري، إلى الحد الذي أصبحت معه الجامعات السورية قبلة للدارسين من الخارج، خصوصاً وأنهم سيحظون لدى عودتهم إلى أوطانهم، بأولوية التعيين وملء الشواغر.
وينطبق الأمر نفسه على مجانية العلاج الصحي، إذ يزعم اليساريون أن النظام السوري نجح في تحقيق التأمين الصحي الشامل للشعب كله، من دون أي التزاماتٍ مالية، في المستشفيات والمراكز الصحية، على أن كل تلك الإنجازات لا تعدل، في رأي اليساريين، فضل النظام السوري، في قيادة حلف "المقاومة والممانعة"، في وجه المؤامرات الخارجية، الساعية إلى دمج إسرائيل في المنطقة العربية، وجعلها دولةً شقيقةً تحظى بالقبول والتطبيع التامين من الأنظمة والشعوب العربية، معاً، فما كان من النظام السوري "الممانع" إلا أن وقف حجر عثرة أمام هذه المخطط، مقاوماً فرض معاهدة صلح عليه، لا تتلاءم وشروطه، فيما كان يدعم صراحةً حزب الله اللبناني "المقاوم"، وتنظيمات فلسطينية منشقة، ترفض السلام مع إسرائيل.
على هذا الأساس، يبرّر اليساريون للنظام الأسدي ما يمارسه من عمليات "تأديب" بحق هذا الشعب الجاحد للنعمة، حتى وإن اتخذ هذا التأديب هيئة "المجزرة"، لأن الذنب الذي اقترفه الشعب، هذه المرة، لا يضاهيه غير "الشرك بالنظام"، ولا يعنيهم إن أصبح نصف الشعب مهجّراً، والنصف الآخر مذبوحاً ومحاصراً وجائعاً.
وهؤلاء أنفسهم هم اليساريون الذين استنكروا ثورة الشعب الروماني ضد زعيمه شاوسيسكو الذي حقّق لهم أكثر من ذلك بكثير، لكنهم، في آخر المطاف، أطاحوه وأعدموه، بل ينسحب الأمر على الاتحاد السوفييتي، ربيب اليساريين العرب الذي تهاوى في بضعة أيام، على الرغم من أن اشتراكيته طاولت شعوباً بأكملها، فلم تعد تجد فيه فقيراً أو جائعاً، أو غير قادر على دخول مدرسة أو جامعة أو مستشفى.
قد تكون مثل هذه الأسئلة مشروعةً لليساريين العرب حول النظام الأسدي، وجحود شعبه، لكنني لا ألوم كل من لا يقيم وزناً للحرية، حين يطرح مثل تلك الأسئلة الإشكالية، ولن تقنعهم أية إجابة عن ضرورة حقوق الإنسان، أو تلبي فضولهم "اليساري"، لأن من اعتاد الخضوع لن يفهم رغبة نزيل الزنزانة في الحرية، على الرغم من تأمينه بالغذاء والدواء والكساء داخل السجن، كما لن يفهم الدجاج رغبة النسور في التحليق، إلا بعد أن يغتسل بالغيوم، أو يشاهد العالم من على قمة جبل.
لن يدرك هؤلاء أن الحرية قبل الخبز والكرامة قبل الشهادة الجامعية، والقامة المنتصبة قبل حبة الدواء، واحترام الذات قبل الوطن، وأن الحظائر خلقت للنعاج وليس للبشر.
هذا ما أراده السوريون، وأراهن أنهم لن يعودوا إلى الحظيرة الأسدية، حتى لو وقف العالم كله نصيراً لنظامه.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.