جرائم "الإرهاب الصحي" في تونس

22 اغسطس 2016

تونسيون يتظاهرون ضد مشروع قانون المصالحة (25 يوليو/ 2016/الأناضول)

+ الخط -
يعيش قطاع الصحة في تونس منذ أسابيع على وقع تفجر فضائح الفساد في هذا القطاع الحيوي من المجتمع، من خلال ما أثارته الجهات المختصة بمكافحة الفساد في قضية اللوالب منتهية الصلاحية، والتي تم استعمالها في غرف القسطرة، وزرعت في قلوب مئات المرضى، وبلغت قضية التخدير القاتل و"البنج الفاسد" الذي تسبّب في حالات شلل، وإعاقة عدد من المرضى، في انتظار ما ستسفر عنه تحقيقات النيابة العمومية، التي فُتحت في الغرض، من حقائق، يُتوقّع أن تكون صادمة.وقد تورطت في هذه القضية عشرة مستشفيات خاصة في كامل تراب الجمهورية و49 طبيباً.
وفي ظل انفجار هذه الأزمة الكبيرة، هدّدت نقابات قطاع المشافي الخاصّة بإيقاف نشاط قاعات القسطرة بكامل البلاد التونسية، نظرًا للجرائم المرتكبة في هذا القطاع، إذ كشف صابر بن عمار، المختص في القانون الصحي في باريس ورئيس الجمعية التونسية لمساعدة ضحايا الأخطاء الطبية، والذي اهتم سنوات طويلة بملفّات ضحايا الأخطاء الطبية، لـصحيفة "الصباح" التونسية، عن حقائق مدوية لجرائم القطاع الصحي في تونس، وصفها بـ "الإرهاب الصحيّ"، الذي اجتاح هذا القطاع على حدّ تعبيره، بحيث تجاوزت تونس، اليوم، مرحلة الأخطاء الطبية "التقليدية" وتفاقم عدد ضحاياها ليصل إلى 7000 حالة خطأ طبي سنوياً. وإضافة إلى ذلك، تواجه البلاد جرائم "الإرهاب الصحي" الذي تمارسه مافيات الفساد المتحكمة في القطاع الصحي، والتي ناهزت 3000 جريمة في حقّ مرضى أبرياء، وضعهم القدر أمام شبكاتٍ إجراميةٍ لا ترحم، فضلاً عن أنه يوجد الآن في تونس ما يناهز 1300 مريض، يحملون في قلوبهم لوالب فاسدة ومنتهية الصلاحية، حسب ما توصلت إليه التحقيقات الجارية.

وكان أن اكتشفت مديرة الصيدلية المركزية في تونس قضية "البنج الفاسد" في سنتي 2014 و2015، حين اقتنت وزارة الصحة التونسية مخدرًا من مخبر أجنبي، لكنها سحبته من المستشفيات، عندما تم اكتشاف وجود خلل في تركيبته. ومن التحقيقات، تبيّن أن هناك صفقات وتجارة فاسدة للأدوية المخدّرة، وأن هناك مخابر بعينها باعت هذه الأدوية للصيدلية المركزية، وأن المورّط في هذه الصفقة وفي تصنيع "البنج الفاسد" من نواب الشعب، يملك مخابر طبية، ووقعت مُحابَاته بإسناد تراخيص تصنيع دواء، من دون أن يكون قد أجرى اختبارات سريرية للدواء.
أصبح الفساد بكل أنواعه، السياسي والاقتصادي والصحي والقضائي والإعلامي، يَنْخُرُ كل مؤسسات الدولة التونسية وإدارتها ومستشفياتها العامة والخاصة، وقد تحوَّل إلى سرطانٍ يفتك بجسم المجتمع التونسي، فالفساد الصحي الذي يهتم به هذا المقال منتشر في القطاع العام، أي في المستشفيات والصيدليات التابعة للدولة، كما أن المستشفيات التابعة للقطاع الخاص منخرطة بقوة في هذا النوع من الفساد. وهناك علاقة عضوية بين مافيات الفساد في القطاعين، إذ يتواطأ الموظفون العموميون الفاسدون مع الموظفين والأطباء الفاسدين في القطاع الخاص، بطرق مختلفة، مثل الاختلاس وسرقة الأدوية في الصيدليات المركزية العامة الموجودة في المستشفيات التابعة للدولة، وبيعها بأسعار رخيصة للمستشفيات الخاصة، والرشوة.
وإذا كان الفساد الصحي في القطاع العام هو الأوسع انتشارا في تونس، فإن الجرائم الأخيرة كشفت عن أن الفساد الصحي في المستشفيات الخاصة تحول إلى ظاهرة خطيرة، في ظل استغلال نفوذ القطاع الصحي الخاص للتأثير على السياسات الحكومية، ويظهر فساد القطاعين، العام والخاص، في شكل هدايا ورشى من الطرف الخاص وإعفاءات وإعانات من الطرف العام، ويترتب عليه تغيير في السياسات والقواعد النظامية الموضوعية. ولم يعد الفساد الصحي حالة عرضية فردية من هذا الطبيب أو ذاك، أو لبعض الموظفين العموميين، أو مؤقتاً وليس منتظما، إنه تحول إلى فساد مؤسساتي، أي أنه أصبح موجودًا في مختلف المؤسسات الصحية التابعة للدولة، كما أنه موجود في المستشفيات التابعة للقطاع الخاص، إضافة إلى وجود موظفين رسميين فاسدين في بعض الوزارات والقطاعات الصحية المختلفة.
وقد تحول الفساد الصحي إلى ظاهرةٍ يعاني منها المجتمع التونسي، بجميع طبقاته ومختلف معاملاته، وهذا ما نعبر عنه بالفساد المنتظم أو الممتد، وهذا الفساد يؤثر على المؤسسات العمومية والخاصة، وسلوك الموظفين العموميين على جميع مستويات القطاع الصحي، والأطباء العاملين في المستشفيات الخاصة، وله ملامح تميزه عن غيره بأنه متجسّد في بيئات ثقافية واجتماعية معينة، ويميل إلى أن يكون احتكاريا. إنه فساد منظم ويصعب تجنبه، فهو أخطرها.
ارتبط انتشار الفساد الصحي تاريخيا في تونس بمرحلة التحول الاقتصادي من النمط الاقتصادي الموجه الى اقتصاد السوق، أو ما يصطلح عليه اندماج الاقتصاد التونسي في العولمة الليبرالية التي أفرزت، بشكل متزامن، مع انتشارها، الجريمة المنظمة والاتجار بالبشر، والإرهاب، والفساد. إنه "الثالوث الخطير" المنتشر في أفقر الدول (كأميركا اللاتينية وأفريقيا) كما تنميه مناطق مزدهرة في قلب أوروبا وأميركا. فالعولمة والفساد مترابطان، وجدا في بيئة اجتماعيةٍ تونسيةٍ، تنعدم فيها المسؤولية والمراقبة، وخاصة ينعدم فيها الضمير الإنساني، الذي هو عنصر مهم في الحد من خطر هذه الظاهرة، لأن المراقبة قبل أن تكون قانونية هي ذاتية، فكيف لموظف عمومي، أو طبيب يعمل في القطاع الخاص، يقتل أرواحاً بشرية، من خلال ممارسة "الإرهاب الصحي" على المرضى، أن يكون إنساناً عادياً، إلا إذا كان عديم الضمير، وغير سوي في تنشئته النفسية والتربوية والروحية.
تقتضي محاربة الفساد من الحكومة الجديدة أن تكون حاملةً مشروعاً إصلاحياً وطنياً حقيقياً، قوامه: التحرّر الحقيقي من عقلية الدولة الغنائمية (حيث لا تزال الأحزاب الحاكمة تعتبر الدولة في نظرها دولة الغنيمة)، وإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية أي دولة القانون، بما تتضمنه دولة المؤسسات، ومعها إرساء شروط الشفافية وعقلية المساءلة والمحاسبة التي من من دونها لا مجال لكسب رهان الحرب على الفساد، التي توشك أن تغرق المجتمعات العربية، ودول العالم الثالث التي أنهك الفساد شعوبها، وبات أحد أخطر الأسباب الداعية إلى انتشار الإحباط واليأس من إمكانية إصلاح حال الأنظمة والحكومات والمؤسسات، وتطويق مظاهر الفساد، حتى لا نقول اجتثاثه أو القضاء عليه.

وقوام المشروع الإصلاحي، أيضاً، ضرورة الإسراع في طرح برنامج للإصلاح الديمقراطي الحقيقي، في مختلف مؤسسات الدولة التونسية، من أجل تحقيق المحاسبة والمساءلة التي يجب أن تبدأ برموز الفساد، فهؤلاء بما استطاعوا تحقيقه من ثروات مادية كبيرة غير مشروعة، وبعلاقاتهم الداخلية والخارجية، أصبحت لديهم مافيات ولوبيات فساد كبيرة، قادرة بما لديها من إمكانات على إعاقة عملية الإصلاح، وكذلك عملية التنمية. واستطاع هؤلاء الفاسدون الاستفادة من أجواء عالمية وإقليمية وداخلية، فعملوا على حرف مسيرة التنمية، وأعاقوا تصميم هذه المسيرة. ساعدهم في ذلك، هذا الفخ الإعلامي ـ الثقافي الذي يروج ثقافة السوق الحرة، وينادي بوحدانية السوق، وبالخيار الوحيد المطروح، وهو الالتحاق بقطار العولمة (قبل فوات الأوان)، والاندماج بالاقتصاد العالمي. جوهر ما تنادي به أحزاب الإئتلاف الحاكم، مدعومة بمطالب الشراكة الأوروبية ـ المتوسطية، هو أيديولوجية الليبرالية الاقتصادية الجديدة، التي أوصلت العالم إلى هذا الاستقطاب الحاد على الصعيد العالمي، الذي عمق مشكل الفقر، وأرسى قواعد تهميش الشعوب.





E8457B4F-E384-4D2B-911B-58C7FA731472
توفيق المديني

كاتب وباحث تونسي، أصدر 21 كتاباً في السياسة والفكر والثقافة