لعنة "مذبحة القصر" في العراق

27 يوليو 2016

الملك فيصل الثاني مع خاله(عبد الإله) ومربيته بقصر الرحاب

+ الخط -
قالت مراكز الرصد الجوي إن عشر مدن عراقية من بين خمس عشرة مدينة في العالم كانت الأكثر سخونةً في شهر يوليو/ تموز، وارتفعت درجات الحرارة في بغداد لأكثر من ثلاث وخمسين درجة، وقيل إنها أكثر، لكن حكومة بغداد تكتمت على ذلك، لكي لا تثير غضب الناس عليها، واكتفت بتعطيل الدوائر والمدارس، وبقي الناس في منازلهم ينتظرون الفرج حيث لا كهرباء، ولا ماء، ولا من مغيثٍ سوى الله. وتسابق البرلمانيون إلى إعلان بدء عطلتهم قبل موسم الحر، وغادر كبار المسؤولين وأسرهم بغداد إلى بلاد الله المكيفة، لكي يريحوا أعصابهم، واختار بعضهم متابعة أعمال وزارته من الخارج، عبر شبكة "الإنترنت"، وتلك نعمة وفرتها لهم تكنولوجيا الحاضر. المفارقة اللافتة أن أحداً لم يذكر بالخير النازحين والمهجّرين الذين يفترشون الأرض الساخنة، ويلتحفون السماء الحارّة، وقد تجاوز عددهم الملايين الثلاثة، بعض مصادر الأخبار نقلت، على استحياء، خبر تعرّض أطفال للموت، لم يأبه لهم أحد، ومرّ الخبر على الشاشات من دون تعليق.
لكن، هناك من قال إن تموز هذا العام ليس استثناءً مما شهدناه فيه في أعوام سابقة، فقد اعتدنا سخونته، كما تعودنا على دمويته، وقد حلت اللعنة علينا فيه، بسبب مذبحة القصر التي قتل فيها الملك الصغير فيصل وأسرته، فجر الرابع عشر من تموز قبل ستة عقود، في واقعةٍ مشؤومةٍ ركبت من خلالها "العسكريتاريا" العراقية موجة التوترات المحلية والإقليمية، واستغلت الغضب والنقمة، لتجهز على النظام الملكي. بعدها توالت الأحداث المؤلمة، على النحو الذي جعل الناس يأملون في حدوث معجزةٍ أن لا يحصل أسوأ مما حصل، لكن المعجزة لم تجئ، وحصل ما هو أسوأ، وانفتح الطريق أمام مذابح أكبر في السنوات اللاحقة، وظلّ بحر الدم متدفقاً منذ ذلك الزمان، في أكثر من ناحيةٍ في البلاد، وتبادل الشيوعيون والبعثيون الثارات والثارات المضادة التي خسرنا فيها الكثير.
بعد "مذبحة القصر"، بدا أن خيار "الانقلابات" مفروض على العراق بقدرة قادر، وأن الهدف هو الوصول بالبلاد إلى الاندحار أو الانتحار، وأن "تموز" مرشح دائماً لهذا الخيار، في السابع عشر منه، وفي دورة زمان جديدة عام 1968، قفز "البعثيون" إلى السلطة بانقلابٍ وصفوه بأنه "أبيض"، سرعان ما اصطبغ بالدم، بعد أيام قليلة، عندما صفى "الثوار" بعضاً ممن تحالفوا معهم. لكن، كانت هناك بقية أمل في أن يستفيدوا من دروس التاريخ، خصوصاً عندما شرعوا بعد حين في اتباع سياسة "مصالحة ومصارحة"، نتج عنها قيام "جبهة وطنية"، كشفت الأيام، بعد حين، أن "السلطة" ظلت الهاجس الأكبر الذي يطوف في الرؤوس.
في تموز لاحق في دورة زمان جديدة أيضاً، حدث انقلاب أخطر، إذ انقض صدام حسين على رفاقه في قيادة الحزب، وكوادره المتقدمة، وأجهز عليهم في ليلة سوداء من ليالي تموز من عام 1979، أعادت إلى الأذهان "ليلة السكاكين الطويلة" التي عرفتها ألمانيا، ليدخل البلاد في نفقٍ طويل، أوصلها إلى الغزو الأجنبي والاحتلال، وحكم الطوائف وسقوط الدولة على النحو الذي نعيشه اليوم.
ومنذ "مذبحة القصر" قبل ستة عقود، ونحن نتطير من الانقلابات، ونتشاءم من قدوم تموز، فقد هلك الزرع، وجفّ الضرع، وتساقط أبناؤنا على أرصفة الطرقات، وامتدّت "ليالي السكاكين الطويلة" إلى مدننا وأحيائنا، حتى أدركتنا أزمنة "داعش" والمليشيات السوداء. وها نحن، بعد ستة عقود، نحاول استرجاع ما فقدناه، ونداري أنفسنا بأملٍ في أن يستقيم الحال ويطيب المآل، وقد نظل نكابر، كي لا نكتشف أننا خدعنا على النحو الذي وجد أحمد عبد المعطي حجازي نفسه فيه، عندما خاطب صاحب الحلم الجميل: "هل خدعت بملكك حتى حسبتك صاحب المنتظر/ أم خدعت بأغنيتي/ وانتظرت الذي وعدتك به ثم لم تنتصر/ أم خدعنا معاً بسراب الزمان الجميل؟".
أم ترانا نظلّ نراود الأمل في أن يعود تموز، كما وعدتنا أسطورة سومرية ضائعة، كانت أنبأتنا أن تموز، عندما ماتت حبيبته عشتار، لم يعبأ بموتها، واحتل عرشها، فغضبت عليه الشياطين، وسحلته إلى العالم السفلي، جزاءً له على فعلته. وفي حينها، مات الزرع وانقطع الضرع، وانتشر القحط. ولكن، بعد زمانٍ، عاد تموز إلى الحياة، وعادت حبيبته عشتار، وأخضّرت الأرض، وتدفقت مياه الأنهار، وعاد الخير إلى أرض الرافدين.
هل حقاً ستخضرّ الأرض من جديد، وتتدفق مياه الأنهار، ويعود تموز إلى حبيبته عشتار، أم أننا نعيش حلماً، يشبه أحلام العصافير، كما يقول أجدادنا؟
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"