محاصرة الدور الإيراني

21 يوليو 2016
+ الخط -
ليست التغيّرات الحاصلة على مستوى العلاقات في المنطقة مجرد أحداثٍ تجري مصادفة، وعلى الرغم من الخلفيات الاقتصادية التي تقف وراءها، والمحفزات السياسية التي دفعت إلى إحداثها، غير أن ذلك لا يخفي البعد الجيوسياسي للاعبين الذين ينضوون في صناعة هذه الأحداث.
روسيا وتركيا وإسرائيل أبطال المشهد الجديد في الشرق الأوسط، وأطراف اشتغلت، منذ فترة، على عملية تموضعها الشرق أوسطية، بما يتفق والمتغيرات السياسية الجارفة على المستوى الدولي، وقد انخرطت هذه الأطراف في البحث عن مقاربةٍ تستطيع من خلالها تأمين تموضعها في بيئة شرق أوسطية، تمتاز بسيولة الأحداث وتحرّك دائم للمواقع والمواقف، ما دفعها إلى اتباع سياسة التجريب واختبار السياسات وسبر الأوضاع، لمعرفة التكاليف المترتبة والإمكانات المتاحة لتطبيق الرؤى السياسية، وإمكانية تحويلها إلى إجراءاتٍ وترتيباتٍ على الأرض.
اصطدمت سياسات هذه الدول الثلاث، كما سياسات أغلب الأطراف الإقليمية مع إجراءات اللاعب الإيراني وسياساته على الأرض، فبخلاف الجميع، استثمرت طهران سياسياً وعسكرياً، من أجل تأسيس بيئة فوضوية في سورية والمنطقة، لا يستطيع غيرها إدارتها، ولا يستطيع أي لاعبٍ التعايش معها، ولا إمكانية التحرّك في وسطها، من دون العمل ضمن مجال النموذج الإيراني، بما يعنيه من اتباع أنماط سياسية وعسكرية، قائمة على الاستقطاب العميق، طائفياً وأيديولوجياً، وهو ما لم يكن ممكناً، على الرغم من وجود بعد ديني واضح في سياسات روسيا وتركيا، لكنه ظلّ يحتل درجةً متأخرةً في سياسات هذه الدول، لتعارضه مع الدور الإقليمي والدولي الذي تقدم موسكو وطهران نفسيهما من خلاله، بخلاف طهران التي لا تملك من أشكال القوة سوى جانبها الصلب، القائم على عمليات الإبادة والتهجير، لا تستطيع العمل في الساحات الإقليمية التي تقاوم نفوذها وهيمنتها، إلا ضمن سلّة خياراتٍ ضئيلةٍ، ترتكز بدرجة كبيرة على العنف.
اعتقدت إيران أنها كلّما أمعنت في تخريب مسرح العمل في الشرق الأوسط استتبّت الأمور لها، بدرجة أكبر. وانطلاقاً من هذه القاعدة، استثمرت في قوتها العسكرية والاستخبارية إلى أقصى حدود، ملأت الحيز الجغرافي في سورية والعراق بمليشيات عديدة، بعضها أساسي يقاتل ويخرّب، وبعضها رديفٌ كاستثمار مستقبلي، لنقل الفوضى إلى بقية الإقليم، حال إنهاء الترتيبات في سورية والعراق وانتصار أذرعها، وثمة دول كثيرة كانت تضعها إيران على خارطة العمل في مقبل الأيام، خصوصاً وأن البيئة الدولية، وفق قناعات الإيراني وحساباته، مؤاتية لصناعة العالم الإيراني الذي يقوده قاسم سليماني، ويسبح بحمد المرشد الأعلى علي خامنئي.
وضع هذا الأمر إيران على صدامٍ مع جميع الأطراف التي لها مصالح في سورية، أو تضعها
في إطار مشاريعها الجيوسياسية، أو تعتبرها جزءاً من نطاقها الأمني، ولا شك أيضاً أن أول الأطراف المعنية كانت روسيا وتركيا، وحتى إسرائيل نفسها، فعلى الرغم من اختلاف أهداف هذه الأطراف، على مستوى المصالح والتصورات للوضع المستقبلي في سورية، إلا أنها واجهت حقيقة أن إيران صنعت عالماً من الفوضى، يستحيل على هذه الدول أن تحقّق مصالحها من خلاله، كما لا يمكنها منع تداعياته السيئة من أن تطالها بشكل أو بآخر، حتى إسرائيل التي لمحت أكثر من مرّة أنها تفضل سورية مقسّمة، وتقاطعت مع السياسة الإيرانية عند هذه النقطة، وجدت نفسها أمام مخاطر محتملة، جراء هذه السياسة، تستدعي منها تغيير مقاربتها الوضع السوري، عبر إعادة تشكيل تحالفاتها.
لم يختلف الأمر بالنسبة لروسيا كثيراً، إذ باكراً بدا التصادم يظهر مع إيران في ساحة العمل السورية، ولم يكن ممكناً مسايرة النهج الإيراني، ولا العمل في ظل الأسلوب الذي تتبعه طهران، ذلك أن حسابات موسكو تختلف، كما أن شبكة مصالحها وعلاقاتها تتناقض مع الطريقة الإيرانية. ولم يكن أمامها سوى الرضوخ والعمل تحت جناح إيران، بما يعنيه ذلك من انخراط أكبر في الحدث السوري، ومعاداة طيف واسع من الأطراف، وخصوصاً دول الخليج، والدخول تالياً في صراعاتٍ مكلفة على أكثر من صعيد، وهو ما لا يتناسب وتوجهات موسكو، ولا طاقاتها وإمكاناتها.
وبالتأكيد لم تكن تركيا بوضعية أفضل للعمل في الساحة السورية، كما أن التداعيات بدأت تمسّها بدرجة خطيرة، وهو ما دفعها إلى إعادة حساباتها، وتجاوز ما كان يعتبره الرئيس رجب طيب أردوغان تنازلاً، أو مسّاً بالكرامة التركية، خصوصاً أن إيران استفادت كثيراً من توتّر العلاقات التركية الروسية، عبر محاولتها تغيير الأهداف الروسية في سورية، وتحويلها إلى سياساتٍ تصب في مصلحتها، وتحييد الدور التركي نهائياً.
ثمّة مؤشرات عدة على أن المرحلة السورية المقبلة تنطوي على متغيراتٍ كثيرة، منها وفي مقدمتها ضبط الدور الإيراني التخريبي، وتحجيم مفاعيله، بعد أن بلغ ذروته في الخراب والدمار، ولا شك أن ذلك سيتم بتقليم أظافر أذرع إيران عبر رفع الدعم الروسي عنها، وتحديد مساحة حراكها، خصوصاً بعد أن انكشف مقدار ضعفها وقدرتها بدون الدعم الروسي. ولا شك أن ذلك مصلحة إيرانية، فإيران التي استنزفت في سورية والعراق، ولم تحقق ما تشتهيه من قضاءٍ على المكونات المعارضة لها ستكون رابحة، إذا أجبرت على عقلنة سياساتها، والخروج من هذا المأزق الذي وضعت نفسها فيه، ولو بذريعة عدم قدرتها على معاندة القوى الكبرى الإقليمية والدولية.
5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".